الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَإِنۡ حَآجُّوكَ فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡأُمِّيِّـۧنَ ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ فَإِنۡ أَسۡلَمُواْ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (20)

وفَتَح الياءَ مِنْ " وجهي " هنا وفي الأنعام نافع وابن عامر وحفص ، وسَكَّنها الباقون .

قوله : { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } في محلِّ " مَنْ " أوجهٌ :

أحدُها : الرفعُ عطفاً على التاءِ في " أَسْلَمْتُ " ، وجاز ذلك لوجودِ الفصلِ بالمفعولِ ، قاله الزمخشري وبه بَدَأَ ، وكذلك ابنُ عطية . قال الشيخُ : " ولا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على ظاهِرِهِ ؛ لأنه إذا عُطِفَ على الضميرِ في نحو : " أَكلتُ رغيفاً وزيدٌ " لَزِمَ مِنْ ذلك أَنْ يَكونا شريكَيْنِ في أكلِ الرغيف ، وهنا لا يَسُوغُ [ فيه ] ذلك لأنَّ المعنى ليس على : أَسْلَمُوا هم وهو صلى الله عليه وسلم وجهَه لله ، بل المعنى على أنَّه صلى الله عليه وسلم أَسْلَمَ وجهَهُ لله ، وهم أَسْلموا وجوهَهم لله ، فالذي يَقوَى في الإِعرابِ أنه معطوفٌ على الضمير محذوفٌ منه المفعولُ ، لا مشارِكٌ في مفعولِ " أَسْلَمْتُ " والتقديرُ : " وَمَنِ اتَّبَعَنِي وجهَه أو أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ ، لدلالةِ المعنى عليه ، والتقديرُ : ومَنِ اتَّبعني كذلك أي : أَسْلَموا وجوهَهم لله ، كما تقول : " قَضَى زيدٌ نَحْبَهُ وعَمروٌ " أي : وعمروٌ كذلك ، أي : قَضَى نَحْبَه " .

قلت : إنَّما صَحَّ في نحوِ : " أكلتُ رغيفاً وزيدٌ " المشاركةُ لإِمكانِ ذلك ، وأمَّا نحوُ الآيةِ الكريمةِ فلا يَتَوَهَّمُ أحدٌ فيه المشاركةَ .

الثاني : أنه مرفوعٌ بالابتداءِ والخبرُ محذوفٌ كما تقدَّم تقريرُهُ .

الثالث : أنه منصوبٌ على المعيَّة ، والواوُ بمعنى مع ، أي : أَسْلَمْتُ وجهيَ لله مع مَنِ اتَّبعني ، قاله الزمخشري أيضاً . قال الشيخُ : " ومِن الجهة التي امتَنَعَ عَطْفُ " ومَنْ " على الضمير إذا حَمَلَ الكلامَ على ظاهِرِهِ دونَ تأويلٍ يمتنعُ كونُ " مَنْ " منصوباً على أنه مفعولٌ معه ، لأنَّك إذا قلت : " أكلتُ رغيفاً وعمراً " أي : مع عمرٍو دَلَّ ذلك على أنه مشارِكٌ لك في أَكْلِ الرغيف ، وقد أجاز الزمخشري هذا الوجه ، وهو لا يجوزُ لِما ذكرنا على كلِّ حال ؛ لأنه لا يجوزُ حَذْفُ المفعولِ مع كونِ الواوِ واوَ " مع " البتة " . قلت : فَهْمُ المعنى وعَدَمُ الإِلباسُ يُسَوِّغُ ما ذكرَهُ الزمخشري ، وأيُّ مانِعٍ من أنَّ المعنى : فقل : أسلمتُ وجهيَ لله مصاحباً لِمَنْ أسلمَ وجهَهُ لله أيضاً ، وهذا معنًى صحيح مع القولِ بالمعية .

الرابع : أنَّ محلَّ " مَنْ " الخفضُ نَسَقاً على اسمِ الله تبارك وتعالى ، وهذا الإِعرابُ وإنْ كان ظاهرُهُ مُشْكلاً ، فقد يُؤَوَّل على معنى : جَعَلْتُ مَقْصَدِي لله بالإِيمانِ به والطاعةِ له ولِمَنْ اتَّبعني بالحفظِ له ، والتحفِّي بعلمه وبرأيه وبصحبته .

وقد أثبت الياءَ في " اتَّبعني " نافع وأبو عمرو وصلاً وَحَذفاها وقفاً ، والباقون حَذَفُوها فيهما موافقةً للرسم ، وحَسَّن ذلك أيضاً كونُها فاصلةً ورأسَ آية نحو : " أَكْرَمَن وأهانَن " وعليه قولُ الأعشى :

وهل يَمْنَعُني ارتيادِي البلا *** دَ مِنْ حَذَرِ الموتِ أَنْ يَأْتِيَنْ

وقال الأعشى أيضاً :

ومِنْ شانِىءٍ كاسِفٍ وجُهه *** إذا ما انْتَسَبْتُ له أَنْكَرَنْ

قال بعضُهم : " يكثُرَ حذفُ هذه الياءِ مع نونِ الوقاية خاصة ، فإنْ لم تكن نونٌ فالكثيرُ إثباتها " .

قوله : { أَأَسْلَمْتُمْ } صورتُه استفهامٌ ومعناهُ الأمرُ ، أي : أَسْلَموا ، كقوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } أي : انتهوا ، قال الزمخشري : " يعني أنه قد أتاكم من البيِّنات ما يوجِبُ الإِسلامَ ويقتضي حصولَه لا محالَة ، فهل أسلمتم بعدُ ، أم أنتم على كفركِم ؟ وهذا كقولِك لِمَنْ لَخَّصْتَ له المسألةَ ولم تُبْقِ من طرق البيان والكشفِ طريقاً إلاَّ سَلَكْتَه : هل فهمتها أم لا ، لا أُمَّ لك ؟ ومنه قولُه عز وجل : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] بعدَ ما ذَكَرَ الصَّوارِفَ عن الخمرِ والميسرِ ، وفي هذا الاستفهامِ استقصاءٌ وتعبيرٌ بالمعانَدَةِ وقِلَّةِ الإِنصافِ ، لأنَّ المنصفَ إذا تجَلَّتْ لَه الحُجَّةُ لم يتوقَّف إذعانُه للحق " وهو كلامٌ حسنٌ جداً ، وقوله : { فَقَدِ اهْتَدَواْ } دَخَلَت " قد على الماضِي مبالغةً في تحقُّق وقوعِ الفعلِ وكأنَّه قد قَرُبَ من الوقوعِ .