الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

قوله : " وَقَرْنَ " قرأ نافع وعاصم بفتح القاف . والباقون بكسرها . فأمَّا الفتحُ فمِنْ وجهين ، أحدهما : أنه أمرٌ من قَرِرْتُ - بكسرِ الراءِ الأولى - في المكان أَقَرُّ به بالفتح . فاجتمع راءان في اقْرَرْنَ ، فحُذِفت الثانيةُ تخفيفاً ، ونُقِلَتْ حركةُ الراء الأولى إلى القاف ، فحُذفت همزةُ الوصلِ استغناءً عنها فصار قَرْن . ووزنُه على هذا : فَعْن ؛ فإنَّ المحذوفَ هو اللامُ لأنه حَصَلَ به الثقلُ . وقيل : المحذوفُ الراءُ الأولى ؛ لأنه لَمّا نُقِلَتْ حركتُها بقيَتْ ساكنةً ، وبعدها أخرى ساكنةٌ فحُذِفَتِ الأولى لالتقاءِ الساكنين ، ووزنُه على هذا : فَلْنَ ؛ فإنَّ المحذوفَ هو العين . وقال أبو علي : " أُبْدِلت الراءُ الأولى ياءً ونُقِلَتْ حركتُها إلى القاف ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ الياءُ لالتقائِهما " . فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في توجيهِ أنها أمرٌ مِنْ قَرِرْت بالمكان .

والوجه الثاني : أنها أمرٌ مِنْ قارَ يَقارُ كخاف يخافُ إذا اجتمع . ومنه " القارَةُ " لاجتماعِها ، فحُذِفت العين لالتقاء الساكنين فقيل : قَرْنَ كخَفْنَ . ووزنُه على هذا أيضاً فَلْن .

إلاَّ أنَّ بعضَهم تكلَّم في هذه القراءةِ مِنْ وجهين ، أحدهما : قال أبو حاتم : يقال : قَرَرْتُ بالمكان بالفتح أقِرُّ به بالكسر وقَرَّتْ عينُه بالكسر تَقَرُّ بالفتح ، فكيف يُقرأ " وَقَرْنَ " بالفتح ؟ والجوابُ عن هذا : أنه قد جُمِعَ في كلٍ منهما الفتحُ والكسرُ ، حكاه أبو عبيد . وقد تقدَّم ذلك في سورة مريم .

الثاني : سَلَّمْنا أنه يُقال : قَرِرْت بالمكان بالكسر أَقَرُّ به بالفتح ، وأنَّ الأمرَ منه اقْرَرْنَ ، إلاَّ أنه لا مُسَوِّغَ للحذفِ ؛ لأن الفتحةَ خفيفةٌ ، ولا يجوز قياسُه على قولِهم " ظَلْتُ " وبابِه ؛ لأن هناك شيئَيْن ثقيلين : التضعيفَ والكسرةَ فحَسُنَ الحذفُ ، وأمَّا هنا فالتضعيفُ فقط .

والجوابُ : أنَّ المقتضِيَ للحذفِ إنما هو التكرارُ .

ويؤيد هذا أنهم لم يَحْذِفوا مع التكرارِ ووجودِ الضمةِ ، وإنْ كانت أثقلَ نحو : اغْضُضْنَ أبصارَكنَّ ، وكان أَوْلَى بالحذفِ فيُقالُ : غُضْنَ . لكنَّ السماعَ خلافُه . قال تعالى : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } [ النور : 31 ] . على أن الشيخَ جمالَ الدين بن مالك قال : " إنه يُحْذَفُ في هذا بطريقِ الأَوْلى " أو تقولُ : إنَّ هذه القراءةَ إنما هي مِنْ قارَ يَقارُ بمعنى اجتمع . وهو وجهٌ حسنٌ بريءٌ من التكلُّفِ ، فيندفع اعتراضُ أبي حاتمٍ وغيرِه ، لولا أنَّ المعنى على الأمرِ بالاستقرارِ لا بالاجتماع .

وأمَّا الكسرُ فمِنْ وجهين أيضاً أحدهما : أنه أمرٌ من قَرَّ بالمكانِ بالفتح في الماضي ، والكسرِ في المضارع ، وهي اللغةُ الفصيحةُ ، ويجيءُ فيه التوجيهاتُ الثلاثةُ المذكورةُ أولاً : إمَّا حَذْفُ الراءِ الثانية أو الأولى ، أو إبدالُها ياءً ، وحَذْفُها كما قال الفارسيُّ . ولا اعتراض على هذه القراءةِ لمجيئها على مشهورِ اللغة فيندفعُ اعتراضُ أبي حاتم ، ولأنَّ الكسرَ ثقيلٌ ، فيندفعُ الاعتراضُ الثاني ، ومعناها مطابقٌ لِما يُرادُ بها من الثبوتِ والاستقرار .

والوجه الثاني : أنها أمرٌ مِنْ وَقَرَ يَقِرُ أي : ثبتَ واستقرَّ . ومنه الوَقارُ . وأصلُه اِوْقِرْن فحُذِفت الفاءُ وهي الواوُ ، واسْتُغني عن/ همزةِ الوصل فبقي " قِرْن " وهذا كالأمرِ مِنْ وَعَد سواء . ووزنُه على هذا عِلْنَ . وهذه الأوجهُ المذكورةُ إنما يَتَهَدَّى إليها مَنْ مَرِنَ في علمِ التصريف ، وإلاَّ ضاق بها ذَرْعاً .

قوله : " تَبَرُّجَ الجاهليةِ " مصدرٌ تشبيهيٌّ أي : مثلَ تبرُّجِ . والتبرُّجُ : الظهورُ مِن البُرْجِ لظهورِه وقد تقدَّم . وقرأ البزي " ولا تَّبَرَّجْنَ " بإدغامِ التاء في التاء . والباقون بحذفِ إحداهما . وتقدَّم تحقيقُه في البقرة في " ولا تَيَمَّموا " .

قوله : " أهلَ البيتِ " فيه أوجه : النداء والاختصاص ، إلاَّ أنه في المخاطب أقلُّ منه في المتكلم . وسُمِعَ " بك اللَّهَ نرجو الفضلَ " والأكثر إنما هو في المتكلم كقولِها :

نحن بناتِ طارِقْ *** نَمْشِي على النمارِقْ

[ وقوله ] :

نحن بني ضَبَّةَ أصحابُ الجملْ *** الموتُ أَحْلَى عندنا من العَسَلْ

" نحن العربَ أَقْرَى الناسِ للضيف " " نحن معاشرَ الأنبياءِ لا نورث " أو على المدح أي : أمدحُ أهلَ البيتِ .