الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (27)

قوله تعالى : { بِالْحَقِّ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه حال من فاعل " اتلُ " أي : اتلُ ذلك حالَ كونِك ملتبساً بالحق أي : بالصدق .

الثاني : أنه حالٌ من مفعولِه وهو " نبأ " أي : اتلُ نبأَهما ملتبساً بالصدق موافقاً لِما في كتب الأولين لتثبتَ عليهم الحجةُ برسالتك . الثالث : أنه صفةٌ لمصدرِ " اتلُ " أي : اتل ذلك تلاوةً ملتبسةً بالحقِّ والصدق ، وكأنه اختيار الزمخشري إذ به بدأ ، وعلى الأوجهِ الثلاثةِ فالباء للمصاحبة ، وهي متعلقةٌ بمحذوفٍ . وقرأ أبو عمرو بسكون الميم من " آدم " قبل باءِ " بالحق " ، وكذا كلُّ ميمٍ قبلها متحركٌ وبعدها باءٌ .

قوله : { إِذْ قَرَّبَا } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها - وبه بدأ الزمخشري وأبو البقاء - أن يكونَ متعلقاً بنفسِ النبأ ، أي : قصتُهما وحديثهما في ذلك الوقتِ ، وهذا واضحٌ . الثاني : أنه بدلٌ من " نبأ " على حذف مضافٍ تقديرُه : واتلُ عليهم النبأَ نبأَ ذلك الوقتِ ، كذا قَدَّره الزمخشري . قال الشيخ : " ولا يجوزُ ما ذَكَر لأنَّ " إذ " لا يُضافُ إليهما إلا الزمانُ ، و " نبأ " ليس بزمان . الثالث : ذكَره أبو البقاء - أنه حالٌ من " نبأ " وعلى هذا فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، لكن هذا الوجهَ غيرُ واضحٍ ، قال أبو البقاء : " ولا يكونُ ظرفاً ل " اتلُ " قلت : لأنَّ الفعلَ مستقبل و " إذ " وقتٌ ماضٍ فيكف يتلاقيان ؟

والقُرْبان : فيه احتملان ، احدُهما : وبه قال الزمخشري - أنه اسمٌ لِما يُتَقَرَّب به ، قال : " كما أنَّ الحُلْوان اسم ما يُحَلِّي أو يُعْطي يقال : " قَرَّبَ صدقةً وتقرَّب بها " لأن " تقرَّب " مطاوعُ " قَرَّب " قال الأصمعي : " تَقَرَّبوا قِرْفَ القِمَع " فيُعَدَّى بالباء حتى يكون بمعنى قَرَّب " أي : فيكونُ قوله : { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً } يَطْلُبُ مطاوعاً له ، فالتقدير : إذ قَرَّباه فتقرَّبا به ، وفيه بُعْدٌ . قال الشيخ : " وليس " تقرَّب بصدقة " مطاوع " قَرَّب صدقة " لاتحاد فاعلِ الفعلين ، والمطاوعةُ يختلف فيها الفاعل يكونُ من أحدِهما فعلٌ ومن الآخر انفِعال نحو : كَسَرْتُه فانكسر وفَلَقْتُه فانقلق ، فليس قَرَّب صدقته وتقرَّب بها من هذا الباب ، فهو غلط فاحش " . وفيما قاله الشيخ نظرٌ ، لأنَّا لا نسَلِّم هذه القاعدة . والاحتمال الثاني : أن يكونَ في الأصلِ مصدراً ثم أُطلق على الشيء المتقرَّب به كقولهم : " نَسْج اليمن " و " ضَرْب الأمير " ويؤيِّد ذلك أنه لم يُثَنَّ والموضعُ موضعُ تثنية ؛ لأنَّ كلاً من قابيل وهابيل له قُرْبان يَخُصُّه ، فالأصلُ : إذ قَرَّبا قربانين وإنما لم يُثَنَّ لأنه مصدرٌ في الأصل . وللقائل بانه اسمُ ما يُتَقَرَّب [ به ] لا مصدرٌ أن يقولَ : إنما لم يُثَنَّ ، .

لأنَّ المعنى - كما قاله أبو علي الفارسي - إذ قَرَّبَ كلُّ واحدٍ منهما قرباناً كقوله تعالى : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] أي : كلَّ واحدٍ منهم .

وقوله : { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ } أي : قال الذي لم يُتَقَبَّلْ منه للمقبول منه . وقرأ الجمهور : " لأقتلنَّك " بالنون الشديدة . وهذا جوابُ قسم محذوف ، وقرأه زيد بالخفيفة . قال : إنما يتقبَّل الله " مفعولُه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه أي : قرابينَهم وأعمالَهم ، ويجوز ألاَّ يُراد له مفعول كقوله : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } [ الليل : 5 ] هذه الجملة قال أبو محمد بن عطية : " قبلها كلامٌ محذوف ، تقديره : لِمَ تَقْتُلني وأنا لم أَجْنِ شيئاً ولا ذنبَ لي في تقبُّل الله قرباني دونَ قربانِك ؟ " وذكَر كلاماً كثيراً . وقال غيرُه : " فيه حذْفٌ يَطُول " وذكرَ نحوه ، ولا حاجة إلى تقدير ذلك كلِه ، إذ المعاني المفهومةُ من فَحْوى الكلام إذا قُدِّرَتْ قصيرةً كان أحسنَ ، والمعنى هنا : قال لأقلنك حسداً على تقبُّل قربانك فعرّض له بأنَّ سببَ التقبُّل التقوى . وقال الزمخشري : " فإنْ قلت : كيف كان قولُه : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } جواباً لقوله : " لأقتلنَّك " ؟ قلت : لَمَّا كان الحَسَدُ لأخيه على تقبُّل قربانه هو الذي حَمَله على توعُّدِه بالقتل ، قال : إنما أُتيت مِنْ قِبل نفسك لانسلاخِها من لباس التقوى " انتهى . وهذا ونحوه من تفسير المعنى لا الإِعراب . وقيل : إن هذه الجملةَ اعتراضٌ بين كلام القاتل وبين كلام المقتول . والضمير في " قال " إنما يعود على الله تعالى ، أي : قال الله ذلك لرسوِله فيكونُ قد اعترضَ بقوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ } بين كلامِ قابيل وهو : " قال لأقتلنَّك " وبين كلامِ هابيل ، وهو " لئن بَسَطْتَ " إلى آخره ، وهو في غاية البُعْد لتنافِرِ النظم .