البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

{ إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة الأعراف وجاءتا عقب ذكر القرآن والتنبيه على المعاد .

ففي الأعراف : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه } وقوله : { يوم يأتي تأويله } وهنا تلك آيات الكتاب .

وذكر الإنذار والتبشير وثمرتهما لا تظهر إلا في المعاد .

ومناسبة هذه لما قبلها أنّ من كان قادراً على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين وهو ربكم الناظر في مصالحكم ، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته ويبشر على طاعته ، إذ ليس خلقهم عبثاً بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته ، إذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى .

{ يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه } : قال مجاهد : أي يقضيه وحده .

والتدبير تنزيل الأمور في مراتبها والنظر في أدبارها وعواقبها ، والأمر قيل : الخلق كله علويه وسفليه .

وقيل : يبعث بالأمر ملائكة ، فجبريل للوحي ، وميكائيل للقطر ، وعزرائيل للقبض ، وإسرافيل للصور .

وهذه الجملة بيان لعظيم شأنه وملكه .

ولما ذكر الإيجاد ذكر ما يكون فيه من الأمور ، وأنه لمنفرد به إيجاداً وتدبيراً لا يشركه أحد في ذلك ، وأنه لا يجترىء أحد على الشفاعة عنده إلا بإذنه ، إذ هو تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب .

وفي هذه دليل على عظم عزته وكبريائه كما قال : { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } الآية .

ولما كان الخطاب عاماً وكان الكفار يقولون عن أصنامهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ردّ ذلك تعالى عليهم ، وناسب ذكر الشفاعة التي تكون في القيامة بعد ذكر المبدأ ليجمع بين الطرفين : الابتداء والانتهاء .

وقال أبو مسلم الأصبهاني : الشفيع هنا من الشفع الذي يخالف الوتر ، فمعنى الآية : أنه أوجد العالم وحده لا شريك يعينه ، ولم يحدث شيء في الوجود إلا من بعد أن قال له : كن .

وقال أبو البقاء : يدبر الأمر ، يجوز أن يكون مستأنفاً وخبراً ثانياً وحالاً .

{ ذلكم الله ربكم فاعبدوه } : أي المتصف بالإيجاد والتدبير والكبرياء هو ربكم الناظر في مصالحكم ، فهو المستحق للعبادة ، إذ لا يصلح لأن يعبد إلا هو تعالى ، فلا تشركوا به بعض خلقه .

{ أفلا تذكرون } : حض على التدبير والتفكر في الدلائل الدالة على ربوبيته وإمحاض العبادة له .