البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (100)

البدو البادية وهي خلاف الحاضرة .

ولما دخل يوسف مصر وجلس في مجلسه على سريره ، واجتمعوا إليه ، أكرم أبويه فرفعهما معه على السرير .

ويحتمل أن يكون الرفع والخرور قبل دخول مصر بعد قوله : ادخلوا مصر ، فكان يكون في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال أو الإبل ، فحين دخلوا إليه آوى إليه أبويه وقال : ادخلوا مصر ، ورفع أبويه .

وخروا له ، والضمير في وخروا عائد على أبويه وعلى إخوته .

وقيل : الضمير في وخروا عائد على إخوته وسائر من كان يدخل عليه لأجل هيبته ، ولم يدخل في الضمير أبواه ، بل رفعهما على سرير ملكة تعظيماً لهما .

وظاهر قوله : وخروا له سجداً أنه السجود المعهود ، وأن الضمير في له عائد على يوسف لمطابقة الرؤيا في قوله : { إني رأيت أحد عشر كوكباً } الآية وكان السجود إذ ذاك جائزاً من باب التكريم بالمصافحة ، وتقبيل اليد ، والقيام مما شهر بين الناس في باب التعظيم والتوقير .

وقال قتادة : كانت تحية الملوك عندهم ، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة .

وقيل : هذا السجود كان إيماء بالرأس فقط .

وقيل : كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض .

ولفظة وخروا تأبى هذين التفسرين .

قال الحسن : الضمير في له عائد على الله أي : خرُّوا لله سجداً شكراً على ما أوزعهم من هذه النعمة ، وقد تأول قوله : رأيتهم لي ساجدين ، على أن معناه رأيتهم لأجلي ساجدين .

وإذا كان الضمير ليوسف فقال المفسرون : كان السجود تحية لا عبادة .

وقال أبو عبد الله الداراني : لا يكون السجود إلا لله لا ليوسف ، ويبعد من عقله ودينه أن يرضي بأن يسجد له أبوه مع سابقته من صون أولاده ، والشيخوخة ، والعلم ، والدين ، وكمال النبوة .

وقيل : الضمير وإن عاد على يوسف فالسجود كان لله تعالى ، وجعلوا يوسف قبلة كما تقول : صليت للكعبة ، وصليت إلى الكعبة ، وقال حسان :

ما كنت أعرف أن الدهر منصرف *** عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم *** وأعرف الناس بالأشياء والسنن

وقيل : السجود هنا التواضع ، والخرور بمعنى المرور لا السقوط على الأرض لقوله : { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً } أي لم يمروا عليها .

وقال ثابت : هذا تأويل رؤياي من قبل أي : سجودكم هذا تأويل ، أي : عاقبة رؤياي أنّ تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين : ومن قبل متعلق برؤياي ، والمحذوف في من قبل تقديره : من قبل هذه الكوائن والحوادث التي جرت بعد رؤياي .

ومن تأول أنّ أبويه لم يسجدا له زعم أن تعبير الرؤيا لا يلزم أن يكون مطابقاً للرؤيا من كل الوجوه ، فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس .

ولا شك أن ذهاب يعقوب عليه السلام مع ولده من كنعان إلى مصر لأجل يوسف نهاية في التعظيم له ، فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا وعن ابن عباس : أنه لما رأى سجود أبويه وإخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه .

وقال ليعقوب : هذا تأويل رؤياي من قبل ، ثم ابتدأ يوسف عليه السلام بتعديد نعم الله عليه فقال : قد جعلها ربي حقاً أي : صادقة ، رأيت ما يقع في المنام يقظة ، لا باطل فيها ولا لغو .

وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض .

قيل : ثمانون سنة ، وقيل : ثمانية عشر عاماً .

وقيل : غير ذلك من رتب العدد .

وكذا المدة التي أقام يعقوب فيها بمصر عند ابنه يوسف خلاف متناقض ، وأحسن أصله أن يتعدى بإلى قال : { وأحسن كما أحسن الله إليك } وقد يتعدى بالباء قال تعالى : { وبالوالدين إحساناً } كما يقال أساء إليه ، وبه قال الشاعر :

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقلية إن تقلت

وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف ، فعداه بالباء ، وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه من الجب صفحاً عن ذكر ما تعلق بقول إخوته ، وتناسياً لما جرى منهم إذ قال : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم } وتنبيهاً على طهارة نفسه ، وبراءتها مما نسب إليه من المراودة .

وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب ، إلى أن بيع مع العبيد ، وجاء بكم من البدو من البادية .

وكان ينزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام ببادية فلسطين ، وكان رب إبل وغنم وبادية .

وقال الزمخشري : كانوا أهل عمد وأصحاب مواش يتنقلون في المياه والمناجع .

قيل : كان تحول إلى بادية وسكنها ، فإنّ الله لم يبعث نبياً من أهل البادية .

وقيل : كان خرج إلى بدا وهو موضع وإياه عني جميل بقوله :

وأنت التي جببت شعباً إلى بدا *** إليّ وأوطاني بلاد سواهما

وليعقوب عليه السلام بهذا الموضع مسجد تحت جبل .

يقال : بداً القوم بدوا ، إذا أتوا بدا كما يقال : غاروا غوراً .

إذ أتوا الغور .

والمعنى : وجاء بكم من مكان بدا ، ذكره القشيري ، وحكاه الماوردي عن الضحاك ، وعن ابن عباس .

وقابل يوسف عليه السلام نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو ، والإشارة بذلك إلى الاجتماع بابيه وإخوته ، وزوال حزن أبيه .

ففي الحديث : « من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة » من بعد أن نزغ أي أفسد ، وتقدم الكلام على نزع ، وأسند النزغ إلى الشيطان لأنه الموسوس كما قال : { فأزلهما الشيطان عنها } وذكر هذا القدر من أمر إخوته ، لأنّ النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء كانت أحسن موقعاً .

إن ربي لطيف ، أي : لطيف التدبير لما يشاء من الأمور ، رفيق .

ومن في قوله من الملك ، وفي من تأويل للتبعيض ، لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا ، ولا علمه إلا بعض التأويل .

ويبعد قول من جعل من زائدة ، أو جعلها البيان الجنس ،