البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

{ أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق } أو ، لها خمسة معان : الشك ، والإبهام ، والتخيير ، والإباحة ، والتفصيل .

وزاد الكوفيون أن تكون بمعنى الواو وبمعنى بل ، وكان شيخنا أبو الحسن بن الصائغ يقول : أو لأحد الشيئين أو الأشياء .

وقال السهيلي : أو للدلالة على أحد الشيئين من غير تعيين ، ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه من حيث أن الشك تردد بين أمرين من غير ترجيح ، لا أنها وضعت للشك ، فقد تكون في الخبر ، ولا شك إذا أبهمت على المخاطب .

وأما التي للتخيير فعلى أصلها لأن المخبر إنما يريد أحد الشيئين ، وأما التي زعموا أنها للإباحة فلم تؤخذ الإباحة من لفظ أو ولا من معناها ، إنما أخذت من صيغة الأمر مع قرائن الأحوال ، وإنما دخلت لغلبة العادة في أن المشتغل بالفعل الواحد لا يشتغل بغيره ، ولو جمع بين المباحين لم يعص ، علماً بأن أو ليست معتمدة هنا .

الصيب : المطر ، يقال : صاب يصوب فهو صيب إذا نزل والسحاب أيضاً ، قال الشاعر :

حتى عفاها صيب ودقه *** داني النواحي مسبل هاطل

وقال الشماخ :

وأشحم دان صادق الرعد صيب***

ووزن صيب فيعل عند البصريين ، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين ، إلا ما شذ في الصحيح من قولهم : صيقل بكسر القاف علم لامرأة ، وليس وزنه فعيلاً ، خلافاً للفراء .

وقد نسب هذا المذهب للكوفيين وهي مسألة يتكلم عليها في علم التصريف .

وقد تقدم الكلام على تخفيف مثل هذا السماء : كل ما علاك من سقف ونحوه ، والسماء المعروفة ذات البروج ، وأصلها الواو لأنها من السمو ، ثم قد يكون بينها وبين المفرد تاء تأنيث .

قالوا : سماوة ، وتصح الواو إذ ذاك لأنها بنيت عليها الكلمة ، قال العجاج :

طيّ الليالي زلفاً فزلفاً *** سماوة الهلال حتى احقوقفا

والسماء مؤنث ، وقد يذكر ، قال الشاعر :

فلو رفع السماء إليه قوماً *** لحقنا بالسماء مع السحاب

والجنس الذي ميز واحده بتاء ، يؤنثه الحجازيون ، ويذكره التميميون وأهل نجد ، وجمعهم لها على سموات ، وعلى اسمية ، وعلى سماء .

قال : فوق سبع سمائنا شاذ لأنه ، أولاً : اسم جنس فقياسه أن لا يجمع ، وثانياً : فجمعه بالألف والتاء ليس فيه شرط ما يجمع بهما قياساً ، وجمعه على أفعلة ليس مما ينقاس في المؤنث ، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال .

الرعد ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، وشهر بن حوشب ، وعكرمة : الرعد ملك يزجر السحاب بهذا الصوت ، وقال بعضهم : كلما خالفت سحابة صاح بها ، والرعد اسمه .

وقال علي : وعطاء ، وطاوس ، والخليل : صوت ملك يزجر السحاب .

وروي هذا أيضاً عن ابن عباس ، ومجاهد .

وقال مجاهد : أيضاً صوت ملك يسبح ، وقيل : ريح تختنق بين السماء والأرض .

وروي عن ابن عباس : أنه ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت ، وقيل : اصطكاك الأجرام السحابية ، وهو قول أرباب الهيئة .

والمعروف في اللغة : أنه اسم الصوت المسموع ، وقاله علي ، قال بعضهم : أكثر العلماء على أنه ملك ، والمسموع صوته يسبح ويزجر السحاب ، وقيل : الرعد صوت تحريك أجنحة الملائكة الموكلين بزجر السحاب .

وتلخص من هذه النقول قولان : أحدهما : أن الرعد ملك ، الثاني : أنه صوت .

قالوا : وسمي هذا الصوت رعداً لأنه يرعد سامعه ، ومنه رعدت الفرائص ، أي حركت وهزت كما تهزه الرعدة .

واتسع فيه فقيل : أرعد ، أي هدد وأوعد لأنه ينشأ عن الإيعاد .

والتهدد : ارتعاد الموعد والمهدد .

البرق : مخراف حديد بيد الملك يسوق به السحاب ، قاله علي ، أو أثر ضرب بذلك المخراف .

وروي عن علي : أو سوط نور بيد الملك يزجرها به ، قاله ابن عباس ، أو ضرب ذلك السوط ، قاله ابن الأنباري وعزاه إلى ابن عباس .

وروي نحوه عن مجاهد : أو ملك يتراءى .

وروي عن ابن عباس أو الماء ، قاله قوم منهم أبو الجلد جيلان بن فروة البصري ، أو تلألؤ الماء ، حكاه ابن فارس ، أو نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب ، قاله بعضهم .

والذي يفهم من اللغة : أن الرعد عبارة عن هذا الصوت المزعج المسموع من جهة السماء ، وأن البرق هو الجرم اللطيف النوراني الذي يشاهد ولا يثبت .

{ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله بالكافرين } جعل : يكون بمعنى خلق أو بمعنى ألقى فيتعدى لواحد ، وبمعنى صبر أو سمى فيتعدى لاثنين ، وللشروع في الفعل فتكون من أفعال المقاربة ، تدخل على المبتدأ والخبر بالشروط المذكورة في بابها .

الأصبع : مدلولها مفهوم ، وهي مؤنثة ، وذكروا فيها تسع لغات وهي : الفتح للهمزة ، وضمها ، وكسرها مع كل من ذلك للباء .

وحكوا عاشرة وهي : أصبوع ، بضمها ، وبعد الباء واو .

وجميع أسماء الأصابع مؤنثة إلا الإبهام ، فإن بعض بني أسد يقولون : هذا إبهام ، والتأنيث أجود ، وعليه العرب غير من ذكر .

الأذن : مدلولها مفهوم ، وهي مؤنثة ، كذلك تلحقها التاء في التصغير قالوا : أذينة ، ولا تلحق في العدد ، قالوا : ثلاث آذان ، قال أبو ثروان في أحجية له :

ما ذو ثلاث آذان *** يسبق الخيل بالرديان

يريد السهم وآذانه وقدده .

الصاعقة : الوقعة الشديدة من صوت الرعد معها قطعة من نار تسقط مع صوت الرعد ، قالوا : تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه ، وهي مع حدتها سريعة الخمود ، ويهلك الله بها من يشاء .

قال لبيد يرثي أخاه أربد ، وكان ممن أحرقته الصاعقة :

فجعني البرق والصواعق بال *** فارس يوم الكريهة النجد

ويشبه بالمقتول بها من مات سريعاً ، قال علقمة بن عبدة :

كأنهم صابت عليهم سحابة *** صواعقها لطيرهن دبيب

وروى الخليل عن قوم من العرب : الساعقة بالسين ، وقال النقاش : صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد .

قال أبو عمرو : الصاقعة لغة بني تميم ، قال الشاعر :

ألم تر أن المجرمين أصابهم *** صواقع لا بل هن فوق الصواقع

وقال أبو النجم :

يحلون بالمقصورة القواطع *** تشقق البروق بالصواقع

فإذا كان ذلك لغة ، وقد حكوا تصريف الكلمة عليه ، لم يكن من باب المقلوب خلافاً لمن ذهب إلى ذلك ، ونقل القلب عن جمهور أهل اللغة .

ويقال : صعقته وأصعقته الصاعقة ، إذا أهلكته ، فصعق : أي هلك .

والصاعقة أيضاً العذاب على أي حال كان ، قاله ابن عرفة ، والصاعقة والصاقعة : إما أن تكون صفة لصوت الرعد أو للرعد ، فتكون التاء للمبالغة نحو : راوية وإما أن تكون مصدراً ، كما قالوا في الكاذبة .

الحذر ، والفزع ، والفرق ، والجزع ، والخوف : نظائر الموت ، عرض يعقب الحياة .

وقيل : فساد بنية الحيوان ، وقيل : زوال الحياة .

الإحاطة : حصر الشيء بالمنع له من كل جهة ، والثلاثي منه متعد ، قالوا : حاطه ، يحوطه ، حوطاً .

أو كصيب : معطوف على قوله : { كمثل الذي استوقد } ، وحذف مضافان ، إذ التقدير : أو : كمثل ذوي صيب ، نحو قوله تعالى : { كالذي يغشى عليه من الموت } أي كدوران عين الذي يغشى عليه .

وأو هنا للتفصيل ، وكان من نظر في حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد ، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب ، ولا ضرورة تدعو إلى كون أو للتخيير .

وأن المعنى أيهما شئت مثلهم به ، وإن كان الزجاج وغيره ذهب إليه ، ولا إلى أن أو للإباحة ، ولا إلى أنها بمعنى الواو ، كما ذهب إليه الكوفيون هنا .

ولا إلى كون أو للشك بالنسبة للمخاطبين ، إذ يستحيل وقوعه من الله تعالى ، ولا إلى كونها بمعنى بل ، ولا إلى كونها للإبهام ، لأن التخيير والإباحة إنما يكونان في الأمر أو ما في معناه .

وهذه الجملة خبرية صرف .

ولأن أو بمعنى الواو ، أو بمعنى بل ، لم يثبت عند البصريين ، وما استدل به مثبت ذلك مؤوّل ، ولأن الشك بالنسبة إلى المخاطبين ، أو الإبهام بالنسبة إليهم لا معنى له هنا ، وإنما المعنى الظاهر فيها كونها للتفصيل .

وهذا التمثيل الثاني أتى كاشفاً لحالهم بعد كشف الأول .

وإنما قصد بذلك التفصيل والإسهاب بحال المنافق ، وشبهه في التمثيل الأول بمستوقد النار ، وإظهاره الإيمان بالإضاءة ، وانقطاع جدواه بذهاب النور .

وشبه في الثاني دين الإسلام بالصيب وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيبهم من الإفزاع والفتن من جهة المسلمين بالصواعق ، وكلا التمثيلين من التمثيلات المفرقة ، كما شرحناه .

والأحسن أن يكون من التمثيلات المركبة دون المفرقة ، فلا تتكلف مقابلة شيء بشيء ، وقد تقدم الإشارة إلى ذلك عند الكلام على التمثيل الأول ، فوصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما حبطوا فيه من الحيرة والدهشة بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل ، وبحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق ، وإنما قدر كمثل ذوي صيب لعود الضمير في يجعلون .

والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدلّ على فرط الحيرة وشدة الأمر ، ولذلك أخر فصار ارتقاء من الأهون إلى الأغلظ .

وقد رام بعض المفسرين ترتب أحوال المنافقين وموازنتها في المثل من الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق ، فقال : مثل الله القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال ، وعماهم بالظلمات والوعيد والزجر بالرعد والنور والحجج الباهرة التي تكاد أحياناً أن تبهرهم بالبرق وتخوفهم بجعل أصابعهم ، وفضح نفاقهم وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوها بالصواعق ، وهذا قول من ذهب إلى أنه من التمثيل المفرق الذي يقابل منه شيء شيئاً من الممثل ، وستأتي بقية الأقوال في ذلك ، إن شاء الله تعالى .

وقرئ : أو كصايب ، وهو اسم فاعل من صاب يصوب وصيب ، أبلغ من صايب ، والكاف في موضع رفع لأنها معطوفة على ما موضعه رفع .

والجملة من قوله : { ذهب الله بنورهم } إذا قلنا ليست جواب لما جملة اعتراض فصل بها بين المعطوف والمعطوف عليه ، وكذلك أيضاً { صم بكم عمي } إذا قلنا إن ذلك من أوصاف المنافقين .

فعلى هذين القولين تكون الجملتان جملتي اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ، وقد منع ذلك أبو علي ، وردّ عليه بقول الشاعر :

لعمرك والخطوب مغيرات *** وفي طول المعاشرة التقالي

لقد باليت مظعن أمّ أوفى *** ولكن أمّ أوفى لا تبالي

ففصل بين القسم وجوابه بجملتي الاعتراض .

من السماء متعلق بصيب فهو في موضع نصب ومن فيه لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تكون في موضع الصفة فتعلق بمحذوف ، وتكون من إذ ذاك للتبعيض ، ويكون على حذف مضاف التقدير ، أو كمطر صيب من أمطار السماء ، وأتى بالسماء معرفة إشارة إلى أن هذا الصيب نازل من آفاق السماء ، فهو مطبق عام .

قال الزمخشري : وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ، ومنها يأخذ ماءه ، لا كزعم من زعم أنه يأخذه من البحر ، ويؤيده قوله تعالى : { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } انتهى كلامه .

وليس في الآيتين ما يدل على أنه لا يكون منشأ المطر من البحر ، إنما تدل الآيتان على أن المطر ينزل من السماء ، ولا يظهر تناف بين أن يكون المطر ينزل من السماء ، وأن منشأه من البحر .

والعرب تسمي السحاب بنات بحر ، يعني أنها تنشأ من البحار ، قال طرفة :

لا تلمني إنها من نسوة *** رقد الصيف مقاليت نزر

كبنات البحر يمأدن كما *** أنبت الصيف عساليج الخضر

وقد أبدلوا الباء ميماً فقالوا : بنات المحر ، كما قالوا : رأيته من كثب ومن كثم .

وظلمات : مرتفع بالجار والمجرور على الفاعلية ، لأنه قد اعتمد إذا وقع صفة ، ويجوز أن تكون فيه من موضع الحال من النكرة المخصصة بقوله : { من السماء } ، إما تخصيص العمل ، وإما تخصيص الصفة على ما قدمناه من الوجهين في إعراب من السماء ، وأجازوا أن يكون ظلمات مرفوعاً بالابتداء ، وفيه في موضع الخبر .

والجملة في موضع الصفة ، ولا حاجة إلى هذا لأنه إذا دار الأمر بين أن تكون الصفة من قبيل المفرد ، وبين أن تكون من قبيل الجمل ، كان الأولى جعلها من قبيل المفرد وجمع الظلمات ، لأنه حصلت أنواع من الظلمة .

فإن كان الصيب هو المطر ، فظلماته ظلمة تكاثفه وانتساجه وتتابع قطره ، وظلمة : ظلال غمامه مع ظلمة الليل .

وإن كان الصيب هو السحاب ، فظلمة سجمته وظلمة تطبيقه مع ظلمة الليل .

والضمير في فيه عائد على الصيب ، فإذا فسر بالمطر ، فمكان ذلك السحاب ، لكنه لما كان الرعد والبرق ملتبسين بالمطر جعلا فيه على طريق التجوّز ، ولم يجمع الرعد والبرق ، وإن كان قد جمعت في لسان العرب ، لأن المراد بذلك المصدر كأنه قيل : وإرعاد وإبراق ، وإن أريد العينان فلأنهما لما كانا مصدرين في الأصل ، إذ يقال : رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً ، روعي حكم أصلهما وإن كان المعنى على الجمع ، كما قالوا : رجل خصم ، ونكرت ظلمات ورعد وبرق ، لأن المقصود ليس العموم ، إنما المقصود اشتمال الصيب على ظلمات ورعد وبرق .

والضمير في يجعلون عائد على المضاف المحذوف للعلم به ، لأنه إذا حذف ، فتارة يلتفت إليه حتى كأنه ملفوظ به فتعود الضمائر عليه كحاله مذكوراً ، وتارة يطرح فيعود الضمير الذي قام مقامه .

فمن الأول هذه الآية وقوله تعالى : { أو كظلمات في بحر لجِّيِّ يغشاه موج من فوقه } ، التقدير ، أو كذي ظلمات ، ولذلك عاد الضمير المنصوب عليه في قوله : يغشاه .

ومما اجتمع فيه الالتفات والاطراح قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون } المعنى من أهل قرية فقال : فجاءها ، فأطرح المحذوف وقال : أو هم ، فالتفت إلى المحذوف .

والجملة من قوله : يجعلون لا موضع لها من الإعراب ، لأنها جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد ؟ فقيل : يجعلون ، وقيل : الجملة لها موضع من الإعراب وهو الجر لأنها في موضع الصفة لذوي المحذوف ، كأنه قيل : جاعلين ، وأجاز بعضهم أن تكون في موضع نصب على الحال من الضمير الذي هو الهاء في فيه .

والراجع على ذي الحال محذوف ثابت الألف واللام عنه التقدير من صواعقه .

وأراد بالأصابع بعضها ، لأن الأصبع كلها لا تجعل في الأذن ، إنما تجعل في الأنملة ، لكن هذا من الاتساع ، وهو إطلاق كل على بعض ، ولأن هؤلاء لفرط ما يهولهم من إزعاج الصواعق كأنهم لا يكتفون بالأنملة ، بل لو أمكنهم السد بالأصبع كلها لفعلوا ، وعدل عن الاسم الخاص لما يوضع في الأذن إلى الاسم العام ، وهو الأصبع ، لما في ترك لفظ السبابة من حسن أدب القرآن ، وكون الكنايات فيه تكون بأحسن لفظ ، لذلك ما عدل عن لفظ السبابة إلى المسبحة والمهللة وغيرها من الألفاظ المستحسنة ، ولم تأت بلفظ المسبحة ونحوها لأنها ألفاظ مستحدثة ، لم يتعارفها الناس في ذلك العهد ، وإنما أحدثت بعداً .

وقرأ الحسن : من الصواقع ، وقد تقدم أنها لغة تميم ، وأخبرنا أنها ليست من المقلوب ، والجعل هنا بمعنى الإلقاء والوضع كأنه قال : يضعون أصابعهم ، ومن تتعلق بقوله يجعلون ، وهي سببية ، أي من أجل الصواعق وحذر الموت مفعول من أجله ، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه ، إذ هو مصدر متحد بالعامل فاعلاً وزماناً ، هكذا أعربوه ، وفيه نظر لأن قوله : من الصواعق هو في المعنى مفعول من أجله ، ولو كان معطوفاً لجاز ، كقول الله تعالى : { ابتغاء مرضات الله } وتثبيتاً من أنفسهم ، وقول الراجز :

يركب كل عاقر جمهور *** مخافة وزعل المحبور

والهول من تهول الهبور***

وقالوا أيضاً : يجوز أن يكون مصدراً ، أي يحذرون حذر الموت ، وهو مضاف للمفعول .

وقرأ قتادة ، والضحاك بن مزاحم ، وابن أبي ليلى : حذار الموت ، وهو مصدر حاذر ، قالوا وانتصابه على أنه مفعول له .

الإحاطة هنا : كناية عن كونه تعالى لا يفوتونه ، كما لا يفوت المحاط المحيط به ، فقيل : بالعلم وقيل : بالقدرة ، وقيل : بالإهلاك .

وهذه الجملة اعتراضية لأنها دخلت بين هاتين الجملتين اللتين هما : يجعلون أصابعهم ، { ويكاد البرق } وهما من قصة واحدة .

وقد تقدم لنا أن هذا التمثيل من التمثيلات المركبة ، وهو الذي تشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور ، وإن لم يكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى ، فيكون المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدين والدنيا بحيرة من انطفأت ناره بعد إيقادها ، وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق .

وهذا الذي سبق أنه المختار .

وقالوا : أيضاً : يكون من التشبيه المفرق ، وهو أن يكون المثل مركباً من أمور ، والممثل يكون مركباً أيضاً ، وكل واحد من المثل مشبه لكل واحد من الممثل .

وقد تقدم قولان من جعل هذا المثل من التمثيل المفرق .

والثالث : أن الصيب مثل للإسلام والظلمات ، مثل لما في قلوبهم من النفاق والرعد والبرق ، مثلان لما يخوفون به .

والرابع : البرق مثل للإسلام والظلمات ، مثل للفتنة والبلاء .

والخامس : الصيب : الغيث الذي فيه الحياة مثل للإسلام والظلمات ، مثل لإسلام المنافقين وما فيه من إبطان الكفر ، والرعد مثل لما في الإسلام من حقن الدماء والاختلاط بالمسلمين في المناكحة والموازنة ، والبرق وما فيه من الصواعق مثل لما في الإسلام من الزجر بالعقاب في العاجل والآجل ، ويروى معنى هذا عن الحسن .

والسادس : أن الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق كانت حقيقة أصابت بعض اليهود ، فضرب الله مثلاً بقصتهم لبقيتهم ، وروي في ذلك حديث عن ابن مسعود ، وابن عباس .

السابع : أنه مثل ضربه الله للخير والشر الذي أصاب المنافقين ، فكأنهم كانوا إذا كثرت أموالهم وولدهم الغلمان ، أو أصابوا غنيمة أو فتحاً قالوا : دين محمد صدق ، فاستقاموا عليه ، وإذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا : هذا من أجل دين محمد ، فارتدوا كفاراً .

الثامن : أنه مثل الدنيا وما فيها من الشدة والرخاء والنعمة والبلاء بالصيب الذي يجمع نفعاً بإحيائه الأرض وإنباته النبات وإحياء كل دابة والانتفاع به للتطهير وغيره من المنافع ، وضراً بما يحصل به من الإغراق والإشراق ، وما تقدمه من الظلمات والصواعق بالإرعاد والإبراق ، وأن المنافق يدفع آجلاً بطلب عاجل النفع ، فيبيع آخرته وما أعد الله له فيها من النعيم بالدنيا التي صفوها كدر ومآله بعد إلى سقر .

التاسع : أنه مثل للقيامة لما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم وما فيه من البرق ، بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ، ومثل ما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل .

العاشر : ضرب الصيب مثل لما أظهر المنافقون من الإيمان والظلمات بضلالهم وكفرهم الذي أبطنوه ، وما فيه من البرق بما علاهم من خير الإسلام وعلتهم من بركته ، واهتدائهم به إلى منافعهم الدنيوية ، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وما فيه من الصواعق ، بما اقتضاه نفاقهم وما هم صائرون إليه من الهلاك الدنيوي والأخروي .

وقد ذكروا أيضاً أقوالاً كلها ترجع إلى التمثيل التركيبي : الأول : شبه حال المنافقين بالذين اجتمعت لهم ظلمة السحاب مع هذه الأمور ، فكان ذلك أشد لحيرتهم ، إذ لا يرون طريقاً ، ولا من أضاء له البرق ثم ذهب كانت الظلمة عنده أشد منها لو لم يكن فيها برق .

الثاني : أن المطر ، وإن كان نافعاً إلا أنه لما ظهر في هذه الصورة صار النفع به زائلاً ، كذلك إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن ، وأما مع عدم الموافق فهو ضر .

الثالث : أنه مثل حال المنافقين في ظنهم أن ما أظهروه نافعهم وليس بنافعهم بمن نزلت به هذه الأمور مع الصواعق ، فإنه يظن أن المخلص له منها جعل أصابعه في أذانه وهو لا ينجيه ذلك مما يريد الله به من موت أو غيره .

الرابع : أنه مثل لتأخر المنافق عن الجهاد فراراً من الموت بمن أراد دفع هذه الأمور بجعل أصابعهم في آذانهم .

الخامس : أنه مثل لعدم إخلاص المنافق من عذاب الله بالجاعلين أصابعهم في آذانهم ، فإنهم وإن تخلصوا من الموت في تلك الساعة ، فإن الموت من ورائهم .