البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖۚ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (280)

{ وإن كان ذو عسرة فظرة إلى ميسرة } شكا بنو المغيرة العسرة وقالوا : أخرونا إلى أن تدرك الغلات ، فأبوا أن يؤخروا ، فنزلت .

قيل : هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين ، وقيل : أمر به في صدر الإسلام ، فإن ثبت هذا فهو نسخ ، وإلا فليس بنسخ والعسرة ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه : جيش العسرة ، والنظرة : التأخير ، والميسرة : اليسر .

وقرأ الجمهور : ذو عسرة ، على أن : كان ، تامة ، وهو قول سيبويه ، وأبي علي ، وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ، وأجاز بعض الكوفيين أن تكون : كان ، ناقصة هنا .

وقدّر الخبر : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة فحذف المجرور الذي هو الخبر ، وقدر أيضاً : وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق ، وحذف خبر كان لا يجوز عند أصحابنا ، لا إقتصاراً ولا اختصاراً لعلة ذكروها في النحو .

وقرأ أبي ، وابن مسعود ، وعثمان ، وابن عباس : ذا عسرة .

وقرأ الأعمش : معسراً .

وحكى الداني عن أحمد بن موسى أنها كذلك في مصحف أبي علي إن في كان إسمها ضميراً تقديره : هو ، أي : الغريم ، يدل على إضماره ما تقدم من الكلام ، لأن المرابي لا بد له ممن يرابيه .

وقرئ : ومن كان ذا عسرة ، وهي قراءة أبان بن عثمان .

وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان : فإن كان ، بالفاء ، فمن نصب ذا عسرة أو قرأ معسراً ، وذلك بعد : إن كان ، فقيل : يختص بأهل الربا .

ومن رفع فهو عام في جميع من عليه دين وليس بلازم ، لأن الآية إنما سيقت في أهل الربا ، وفيهم نزلت .

وقيل : ظاهر الآية يدل على أن الأصل الإيسار ، وأن العدم طارىء جاذب يحتاج إلى أن يثبت .

{ فنظرة إلى ميسرة } قرأ الجمهور : فنِظرة ، على وزن نِبقة .

وقرأ أبو رجاء ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، وقتادة : بسكون الظاء وهي لغة تميمية ، يقولون في : كبد كبد .

وقرأ عطاء : فناظرة ، على وزن : فاعلة وخرجه الزجاج على أنها مصدر كقوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } وكقوله : { تظن أن يفعل بها فاقرة } وكقوله : { يعلم خائنة الأعين } وقال : قرأ عطاء : فناظره ، بمعنى : فصاحب الحق ناظره ، أي : منتظره ، أو : صاحب نظرته ، على طريقة النسب ، كقولهم : مكان عاشب ، وباقل ، بمعنى : ذو عشب وذو بقل .

وعنه : فناظره ، على الأمر بمعنى : فسامحه بالنظرة ، وباشره بها . انتهى .

ونقلها ابن عطية .

وعن مجاهد : جعلاه أمراً ، والهاء ضمير الغريم .

وقرأ عبد الله : فناظروه ، أي : فأنتم ناظروه .

أي : فأنتم منتظروه .

فهذه ست قراآت ، ومن جعله اسم مصدر أو مصدراً فهو يرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالأمر والواجب على صاحب الدين نظرة منه لطلب الدين من المدين إلى ميسرة منه .

وقرأ نافع وحده : ميسرة ، بضم السين ، والضم لغة أهل الحجاز ، وهو قليل ؛ كمقبرة ، ومشرفة ، ومسربة .

والكثير مفعلة بفتح العين .

وقرأ الجمهور بفتح السين على اللغة الكثيرة ، وهي لغة أهل نجد .

وقرأ عبد الله : إلى ميسوره ، على وزن مفعول مضافاً إلى ضمير الغريم ، وهو عند الأخفش مصدر كالمعقول والمجلود في قولهم : ما له معقول ولا مجلود ، أي : عقل وجلد ، ولم يثبت سيبويه مفعولاً مصدراً ، وقرأ عطاء ومجاهد : إلى ميسره ، بضم السين وكسر الراء بعدها ضمير الغريم .

وقرئ كذلك بفتح السين ، وخرج ذلك على حذف التاء لأجل الإضافة .

كقوله :

واخلفوك عد الأمر الذي وعدوا***

أي : عدة ، وهذا أعني حذف التاء لأجل الإضافة ، هو مذهب الفراء وبعض المتأخرين ، وأداهم إلى هذا التأويل : أن مفعلاً ليس في الأسماء المفردة ، فأما في الجمع فقد ذكروا ذلك في قول عدي بن زيد :

أبلغ النعمان عنى مألكا***

أنه قد طال حبسي وانتظار

وفي قول جميل :

بثين الزمي لا إنَّ لا إن لزمته***

على كثرة الواشين أي معون

فمألك ومعون جمع مألكة ومعونة .

وكذلك قوله :

ليوم روع أو فعال مكرم***

هذا تأويل أبي علي ، وتأول أبو الفتح على أنها مفردة حذف منها التاء .

وقال سيبويه : ليس في الكلام مفعل ، يعني في الآحاد ، كذا قال أبو علي ، وحكي عن سيبويه : مهلك ، مثلث اللام .

وأجاز الكسائي أن يكون : مفعل ، واحداً ولا يخالف قول سيبويه ، إذ يقال : ليس في الكلام كذا ، وإن كان قد جاء منه حرف أو حرفان ، كأنه لا يعتد بالقليل ، ولا يجعل له حكم .

وتقدّم شيء من الإشارة إلى الخلاف : أهذا الإنظار يختص بدين الربا ؟ وهو قول ابن عباس ، وشريح ، أم ذلك عام في كل معسر بدين ربا أو غيره ؟ وهو قول أبي هريرة ، والحسن ، وعطاء ، والضحاك ، والربيع بن خيثم ، وعامة الفقهاء .

وقد جاء في فضل إنظار المعسر أحاديث كثيرة ، منها : « من أنظر معسراً ، ووضع عنه ، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله » ومنها : « يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول : يا رب ما عملت لك خيراً قط أريدك به إلا أنك رزقتني مالاً فكنت أوسع على المقتر ، وأنظر المعسر ، فيقول الله عز وجل : أنا أحق بذلك منك .

فتجاوزوا عن عبدي »

{ وأن تصدقوا خير لكم } أي : تصدقوا على الغريم برأس المال أو ببعضه خير من الإنظار ، قاله الضحاك والسدي ، وابن زيد ، والجمهور .

وقيل : وان تصدقوا فالإنظار خير لكم من المطالبة ، وهذا ضعيف ، لأن الإنظار للمعسر واجب على رب الدين ، فالحمل على فائدة جديدة أولى .

ولأن : أفعل التفضيل باقية على أصل وصفها ، والمراد بالخير : حصول الثناء الجميل في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة .

وقال قتادة : ندبوا إلى أن يتصدقوا برؤوس أموالهم على الغني والفقير .

وقرأ الجمهور : وأن تصدقوا ، بادغام التاء في الصاد ، وقرأ عاصم : تصدقوا ، بحذف التاء .

وفي مصحف عبد الله : تتصدقوا ، بتاءين وهو الأصل ، والإدغام تخفيف .

والحذف أكثر تخفيفاً .

{ وإن كنتم تعلمون } : يريد العمل ، فجعله من لوازم العلم ، وقيل : تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض ، وقيل : تعلمون أن ما أمركم به ربكم أصلح لكم .

قيل : آخر آية نزلت آية الربا ، قاله عمر ، وابن عباس ، ويحمل على أنها من آخر ما نزل ، لأنه الجمهور قالوا : آخر آية نزلت : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } فقيل : قبل موته بتسع ليال ، ثم لم ينزل شيء .