البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (93)

{ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوّة } : تقدم تفسير هذه الجمل ، وإنما كررت هنا لدعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم ، وهم كاذبون في ذلك .

ألا ترى أن اتخاذ العجل ليس في التوراة ؟ بل فيها أن يفرد الله بالعبادة ، ولأن عبادة غير الله أكبر المعاصي ، فكرر عبادة العجل تنبيهاً على عظيم جرمهم .

ولأن ذكر ذلك قبل ، أعقبه تعداد النعم بقوله : { ثم عفونا عنكم } و { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } وهنا أعقبه التقريع والتوبيخ .

ولأن في قصة الطور ذكر توليهم عما أمروا به ، من قبول التوراة وعدم رضاهم بأحكامها اختياراً ، حتى ألجئوا إلى القبول اضطراراً ، فدعواهم الإيمان بما أنزل إليهم غير مقبولة .

ثم في قصة الطور تذييل لم يتقدم ذكره .

والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء أو تعظيمه ، كررته .

وفي هذا التكرار أيضاً من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم ونقمه منهم ، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف .

{ واسمعوا } أي : اقبلوا ما سمعتم ، كقوله : { سمع الله لمن حمده } ، أو { اسمعوا متدبرين لما سمعتم } ، أو { اسمعوا وأطيعوا } لأن فائدة السماع الطاعة ، قاله المفضل .

والمعنى في هذه الأقوال الثلاثة قريب .

قال الماتريدي : معنى اسمعوا : افهموا .

وقيل : اعملوا ، ووجهه أن السمع يسمع به ، ثم يتخيل ، ثم يعقل ، ثم يعمل به إن كان مما يقتضي عملاً .

ولما كان السماع مبتدأ ، والعمل غاية ، وما بينهما وسائط ، صح أن يراد بعض الوسائط ، وصح أن يراد به الغاية .

{ قالوا } : هذا من الالتفات ، إذ لو جاء على الخطاب لقال : قلتم { سمعنا وعصينا } : ظاهره أن كلتا الجملتين مقولة ، ونطقوا بذلك مبالغة في التعنت والعصيان .

ويؤيده قول ابن عباس : كانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا : { سمعنا وأطعنا } ، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا : { سمعنا وعصينا } .

وقيل : القول هنا مجاز ، ولم ينطقوا بشيء من الجملتين ، ولكن لما لم يقبلوا شيئاً مما أمروا به ، جعلوا كالناطقين بذلك .

وقيل : يعبر بالقول للشيء عما يفهم به من حاله ، وإن لم يكن نطق .

وقيل : المعنى سمعنا بآذاننا وعصنيا بقلوبنا ، وهذا راجع لما قاله الزمخشري ، قال : قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك .

فإن قلت : فكيف طابق قوله جوابهم ؟ قلت : طابقه من حيث أنه قال لهم اسمعوا ، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة ، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة ، انتهى كلامه .

والقول الأوّل أحسن ، لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره ، لا سيما إذا لم يقم دليل على خلافه .

{ وأشربوا } : عطف على قالوا سمعنا وعصينا .

فيكون معطوفاً على قالوا ، أي خذوا ما آتيناكم بقوّة ، قلتم كذا وكذا وأشربتم ، أو عطف مستأنف لا داخل في باب الالتفات ، بل إخبار من الله عنهم بما صدر منهم من عبادة العجل ، أو الواو للحال ، أي وقد أشربوا والعامل قالوا ، ولا يحتاج الكوفيون إلى تقدير قد في الماضي الواقع حالاً ، والقول الأول هو الظاهر .

{ في قلوبهم } : ذكر مكان الإشراب ، كقوله : { إنما يأكلون في بطونهم } { العجل } : هو على حذف مضافين ، أي حب عبادة العجل من قولك : أشربت زيداً ماء ، والإشراب مخالطة المائع الجامد ، وتوسع فيه حتى صار في اللونين ، قالوا : وأشربت البياض حمرة ، أي خلطتها بالحمرة ، ومعناه أنه داخلهم حب عبادته ، كما داخل الصبغ الثوب ، وأنشدوا :

إذا ما القلب أشرب حب شيء *** فلا تأمل له عند انصرافاً

وقال ابن عرفة : يقال أشرب قلبه حب كذا ، أي حل محل الشراب ومازجه .

انتهى كلامه .

وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل ، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها ، ولهذا قال بعضهم :

جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي *** فأصبح لي عن كل شغل بها شغل

وأما الطعام فقالوا : وهو مجاور لها ، غير متغلغل فيها ، ولا يصل إلى القلب منه إلا يسير ، وقال :

تغلغل حبّ عثمة في فؤادي *** فباديه مع الخافي يسير

وحسن حذف ذينك المضافين ، وأسند الإشراب إلى ذات العجل مبالغة كأنه بصورته أشربوه ، وإن كان المعنى على ما ذكرناه من الحذف .

وقيل : معنى اشربوا : أي شدّ في قلوبهم حب العجل لشغفهم به ، من أشربت البعير : إذا شددت حبلاً في عنقه .

وقيل : هو من الشرب حقيقة ، وذلك أنه نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم : اشربوا ، فشرب جميعهم .

فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه ، وهذا قول يردّه في قوله : { في قلوبهم } .

وروي أن الذين تبين لهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن .

وبناؤه للمفعول في قوله : وأشربوا ، دليل على أن ذلك فعل بهم ، ولا يفعله إلا الله تعالى .

وقالت المعتزلة : جاء مبنياً للمفعول لفرط ولوعهم بعبادته ، كما يقال : معجب برأيه ، أو لأن السامري وإبليس وشياطين الأنس والجنّ دعوهم إليه ، ولما كان الشرب مادّة لحياة ما تخرجه الأرض ، نسب ذلك إلى المحبة ، لأنها مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال .

{ بكفرهم } : الظاهر أن الباء للسبب ، أي الحامل لهم على عبادة العجل هو كفرهم السابق ، قيل : ويجوز أن يكون الباء بمعنى مع ، يعنون أن يكون للحال ، أي مصحوباً بكفرهم ، فيكون ذلك كفراً على كفر .

{ قل } يا محمد ، أو قل يا من يجالهم .

{ بئسما ما يأمركم به إيمانكم } : تقدم الكلام في بئس ، وفي المذاهب في ما ، فأغنى عن إعادته .

وقرأ الحسن ومسلم بن جندب : بهو إيمانكم ، بضم الهاء ووصلها بواو ، وهي لغة ، والضم في الأصل ، لكن كسرت في أكثر اللغات لأجل كسرة الباء ، وعني بإيمانهم الذي زعموا في قولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } ، وأضاف الأمر إلى إيمانهم على طريق التهكم ، كما قال أصحاب شعيب : أصلواتك تأمرك أن نترك ؟ وقيل : ثم محذوف تقديره صاحب إيمانكم ، وهو إبليس .

وقيل : ثم صفة محذوفة التقدير إيمانكم الباطل ، وأضاف : الإيمان إليهم لكونه إيماناً غير صحيح ، ولذلك لم يقل الإيمان ، قاله بعض معاصرينا رحمهم الله .

والمخصوص بالذمّ محذوف بعدما ، فإن كانت منصوبة ، فالتقدير : بئس شيئاً يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء والعصيان وعبادة العجل ، فيكون يأمركم صفة للتمييز ، أو يكون التقدير : بئس شيئاً شيء يأمركم به إيمانكم ، فيكون يأمركم صفة للمخصوص بالذمّ المحذوف ، أو يكون التقدير : بئس شيئاً ما يأمركم ، أي الذي يأمركم ، فيكون يأمركم به إيمانكم .

والمخصوص مقدر بعد ذلك ، أي قتل الأنبياء ، وكذا وكذا .

فيكون ما موصولة ، أو يكون التقدير : بئس الشيء شيء يأمركم به إيمانكم ، فيكون ما تامّة .

وهذا كله تفريع على قول من جعل لما وحدها موضعاً من الإعراب .

{ إن كنتم مؤمنين } ، قيل : إن نافية ، وقيل : شرطية .

قال الزمخشري : تشكيك في إيمانهم ، وقدح في صحة دعواهم .

انتهى كلامه .

وقال ابن عطية : وقد يأتي الشرط ، والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين ، كما قال الله عن عيسى عليه السلام : { إن كنت قلته فقد علمته } ، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله ، وكذلك { إن كنتم مؤمنين } ، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين ، لكنه أقام حجة لقياس بين .

انتهى كلامه ، وهو يؤول من حيث المعنى إلى نفي الإيمان عنهم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي إن كنتم مؤمنين فبئس ما يأمركم به إيمانكم .

وقيل تقديره : إن كنتم مؤمنين فلا تقتلوا الأنبياء ، ولا تكذبوا الرسل ، ولا تكتموا الحق .

وتقدير الحذف الأول أعرب وأقوى .

/خ96