{ النبي أولى بالمؤمنين من } : أي ما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلب منهم هو أنفسهم } أحق به من أنفسهم .
{ وأزواجه أمهاتهم } : في الحرمة وسواء من طلقت أو مات عنها منهن رضي الله عنهن .
{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } : أي في التوارث من المهاجرين والمتعاقدين المتحالفين .
{ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } : بأن توصوا لهم وصيَّة جائزة وهي الثلث فأقل .
{ كان ذلك في الكتاب مسطورا } : أي عدم التوارث بالإِيمان والهجرة والحلف مكتوب في اللوح المحفوظ .
لما أبطل الله تعالى عادة التبنّي وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة الكلبي فكان يعرف بزيد بن محمد صلى الله عليه وسلم وأصبح بذلك يدعى بزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم تعالى كافة المؤمنين أن نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأن أزواجه أمهاتهم في الحرمة فلا تحل امرأة النبي لأحد بعده صلى الله عليه وسلم ، ومعنى أن { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلبه منهم هو أحق به من أنفسهم ، وبذلك أعطى الله تعالى رسوله من الرفعة وعلوّ الشأن ما لم يُعط أحداً غيره جزاء له على صبره على ما أُخذ منه من بنوَّة زيد رضي الله عنه الذي كان يُدعَى بزيد بن محمد فأصبح يعرف بزيد بن حارثة .
وقوله تعالى { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } يريد في الإِرث فأبطل تعالى بهذه الآية التوارث بالإِيمان والهجرة والحلف الذي كان في صدر الإِسلام وأصبح التوارث بالنسب والمصاهرة والولاء لا غير . وقوله { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } التوارث بالأرحام أي بالقرابات مكتوب في اللوح المحفوظ وقوله { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } أي إلا أن توصوا بوصيّة جائزة وهي الثلث لأحد من المؤمنين والمهاجرين ومن حالفتم فلا بأس فهي جائزة ولا حرمة فيها ، وقوله { كان ذلك } أي المذكور من التوارث بالقرابات لا غير وجواز الوصيّة بالثلث لمن أبطل ارثهم بالإِيمان والهجرة والمؤاخاة ، في اللوح المحفوظ وهو كتاب المقادير مسطوراً أي مكتوباً مسطراً فلا يحل تبديله ولا تغييره .
وجوب تقديم ما يريده الرسول من المؤمن على ما يريده المؤمن لنفسه .
حرمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأنهن أُمهات المؤمنين وهو صلى الله عليه وسلم كالأب لهم .
بطلان التوارث بالمؤاخاة والهجرة والتحالف الذي كان في صدر الإِسلام .
قوله تعالى :{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه عليهم ووجوب طاعته عليهم ، وقال ابن عباس وعطاء : يعني إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهم من طاعتهم أنفسهم . وقال ابن زيد : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى فيهم ، كما أنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه . وقيل : هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه . وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الجهاد فيقول قوم : نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا ، فنزلت الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن محمد ، أنبأنا أبو عامر ، أنبأنا فليح ، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فأيما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته ، من كانوا ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه " .
قوله عز وجل : { وأزواجه أمهاتهم } وفي حرف أبي : وأزواجه وأمهاتهم وهو أب لهم وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأييد ، لا في النظر إليهن والخلوة بهن ، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب ، قال الله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن هم أخوال المؤمنين وخالاتهم . قال الشافعي : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر ، وهي أخت أم المؤمنين ، ولم يقل هي خالة المؤمنين . واختلفوا في أنهن هل كن أمهات النساء المؤمنات ؟ قيل : كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعاً . وقيل كن أمهات المؤمنين دون النساء ، روى الشعبي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها : يا أمه ! فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم ، فبان بهذا أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن . قوله عز وجل : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } يعني : في الميراث ، قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة . قال الكلبي : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس ، فكان يؤاخي بين رجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته ، حتى نزلت هذه الآية : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في حكم الله ، { من المؤمنين } الذين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، { والمهاجرين } يعني ذوي القرابات ، بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرث بالإيمان والهجرة ، فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت بالقرابة . قوله : { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } أراد بالمعروف الوصية للذين يتولونه من المعاقدين ، وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي الرجل لمن يتولاه بما أحب من ثلثه . وقال مجاهد : أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحق الإيمان والهجرة . وقيل : أراد بالآية إثبات الميراث بالإيمان والهجرة ، يعني : وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض ، أي : لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً ، يعني : إلا أن توصوا لذوي قراباتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة ، وهذا قول قتادة وعطاء وعكرمة . { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } أي : كان الذي ذكرت من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في اللوح المحفوظ مسطوراً مكتوباً . وقال القرظي : في التوراة .
ولما نهى سبحانه عن التبني ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة مولاه{[55054]} لما اختاره على أبيه وأمه{[55055]} ، علل سبحانه النهي فيه بالخصوص بقوله دالاً على أن الأمر أعظم من ذلك : { النبي } أي{[55056]} الذي ينبئه الله بدقائق الأحوال في بدائع الأقوال ، ويرفعه دائماً في مراقي الكمال ، ولا يريد أن يشغله بولد ولا مال { أولى بالمؤمنين } أي الراسخين في الإيمان ، فغيرهم أولى في{[55057]} كل شيء من أمور الدين والدنيا لما حازه من الحضرة الربانية { من أنفسهم } فضلاً عن آبائهم في{[55058]} نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم ، لأنه لا يدعوهم إلا إلى العقل والحكمة ، ولا يأمرهم إلا بما ينجيهم ، وأنفسهم إنما تدعوهم إلى الهوى والفتنة فتأمرهم بما يرديهم ، فهو يتصرف فيهم{[55059]} تصرف الآباء بل الملوك{[55060]} بل{[55061]} أعظم بهذا السبب الرباني ، فأيّ حاجة له{[55062]} إلى السبب{[55063]} الجسماني { وأزواجه } أي اللاتي دخل بهن لما لهن من حرمته { أمهاتهم } أي المؤمنين{[55064]} من الرجال خاصة دون النساء ، لأنه لا محذور من جهة النساء ، وذلك في الحرمة والإكرام ، والتعظيم والاحترام ، وتحريم النكاح دون جواز الخلوة والنظر وغيرهما من الأحكام ، والتعظيم بينهن وبين الأمهات في ذلك أصلاً ، فلا يحل انتهاك حرمتهن بوجه ولا الدنو من جنابهن بنوع نقص ، لأن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أعظم من حق الوالد على ولده ، وهو حي في قبره و{[55065]} هذا أمر جعله الله {[55066]}وهوالذي إذا جعل شيئاً كان{[55067]} ، لأن الأمر أمره والخلق خلقه{[55068]} ، وهو العالم بما يصلحهم وما يفسدهم
{ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير }[ الملك : 14 ] روى الشيخان{[55069]} عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه{[55070]} قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فأيما مؤمن ترك مالاً{[55071]} فلترثه عصبته من كانوا ، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني وأنا مولاه " .
ولما رد الله سبحانه الأشياء إلى أصولها ، ونهى عن التشتت والتشعب ، وكان من ذلك أمر التبني ، وكان من المتفرع عليه الميراث بما كان قديماً من الهجرة والنصرة والأخوة التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم لما كان الأمر{[55072]} محتاجاً إليها ، وكان ذلك قد نسخ بالآية{[55073]} التي في آخر الأنفال ، وهي قبل هذه السورة ترتيباً ونزولاً ، وكان ما ذكر هنا فرداً داخلاً في عموم العبارة{[55074]} في تلك الآية{[55075]} ، أعادها منا{[55076]} تأكيداً وتنصيصاً على هذا الفرد للاهتمام به مع ما فيها من تفصيل وزيادة فقال : { و{[55077]} أولوا الأرحام } أي القرابات بأنواع النسب من النبوة وغيرها{[55078]} { بعضهم أولى } بحق القرابة { ببعض } في جميع المنافع العامة للدعوة والإرث والنصرة والصلة { في كتاب الله } أي قضاء الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ، وحكمه كما تقدم في كتابكم هذا ، وكما أشار إليه الحديث الماضي آنفاً .
ولما بين أنهم أولى بسبب القرابة ، بين المفضل عليه فقال : { من } أي هم أولى بسبب القرابة من { المؤمنين }{[55079]} الأنصار{[55080]} من غير{[55081]} قرابة مرجحة { والمهاجرين } المؤمنين من غير قرابة{[55082]} كذلك ، ولما كان المعنى : أولى{[55083]} في{[55084]} كل نفع ، استثنى منه على القاعدة الاستثناء من أعم العام قوله ، لافتاً النظم إلى أسلوب الخطاب ليأخذ المخاطبون منه أنهم متصفون بالرسوخ في الإيمان الذي مضى ما دل عليه في آية الأولوية من التعبير بالوصف ، فيحثهم ذلك على فعل المعروف : { إلا أن تفعلوا } أي{[55085]} حال كونكم موصلين ومسندين { إلى أوليائكم } بالرق أو التبني{[55086]} أو الحلف في الصحة مطلقاً وفي المرض من الثلث تنجيراً أو وصية { معروفاً } تنفعونهم{[55087]} به ، فيكون حينئذ ذلك الولي مستحقاً لذلك ، ولا يكون ذو الرحم أولى منه ، بل لا وصية لوارث .
ولما أخبر أن هذا الحكم في كتاب الله ، أعاد التنبيه على ذلك تأكيداً قلعاً لهذا الحكم الذي تقرر في الأذهان بتقريره سبحانه فيما مضى فقال مستأنفاً : { كان ذلك } أي الحكم العظيم { في الكتاب } أي القرآن في آخر سورة الأنفال { مسطوراً * } بعبارة تعمه ، قال الأصبهاني{[55088]} : وقيل : في التوراة ، لأن في التوراة : إذا نزل رجل بقوم من أهل دينه فعليهم أن يكرموه ويواسوه ، وميراثه لذوي قرابته ، فالآية من الاحتباك : أثبت وصف الإيمان أولاً دليلاً على حذفه ثانياً و{[55089]} وصف الهجرة ثانياً دليلاً على حذف النصرة أولاً .