{ ولو نشاء لأريناكهم } : أي لعرَّفناك بهم فلعرفتهم .
{ ولتعرفنهم في لحن القول } : أي إذا تكلموا عندك في لحن القول أي معناه وذلك بأن يُعرِّضوا فيه بتهجين أمر المسلمين أي تقبيح أمرهم .
{ والله يعلم أعمالكم } : أي أيها المؤمنون إن الله يعلم أعمالكم وسيجزيكم بها خيراً .
وقوله تعالى لرسوله { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم } بعلامات النفاق فيهم وقوله { ولتعرفنّهم في لحن القول } أي وعزتي وجلالي لتعرفنهم في لحن القول أي في معاني كلامهم إذا تكلموا عندك وبين يديك فإِن كلامهم لا يخلو من التعريض بالمؤمنين بانتقاصهم والقدح في أعمالهم ، كما قيل " من أضمر سريرة ألبسه الله رداءها " وقوله تعالى في خطابه المؤمنين { والله يعلم أعمالكم } ولازمه أنه سيجزيكم بها فاصبروا على الإِيمان والتقوى .
{ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } أي : بعلاماتهم التي هي كالوسم في وجوههم . { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } أي : لا بد أن يظهر ما في قلوبهم ، ويتبين بفلتات ألسنتهم ، فإن الألسن مغارف القلوب ، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر { وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } فيجازيكم عليها .
قوله تعالى :{ ولو نشاء لأريناكهم } أي لأعلمناكم وعرفناكهم ، { فلعرفتهم بسيماهم } بعلامتهم ، قال الزجاج : لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها . قال أنس : ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم . { ولتعرفنهم في لحن القول } في معناه ومقصده . واللحن : وجهان صواب وخطأ ، فالفعل من الصواب : لحن يلحن لحناً فهو لحن إذا فطن للشيء ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " . والفعل من الخطأ لحن يلحن لحناً فهو لاحن . والأصل فيه : إزالة الكلام عن جهته . والمعنى : إنك تعرفهم فيما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم ، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه بقوله ، ويستدل بفحوى كلامه على فساد خلقه وعقيدته .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولو نشاء يا محمد لعرّفناك هؤلاء المنافقين حتى تعرفهم وقوله:"فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ" يقول: فلتعرفنهم بعلامات النفاق الظاهرة منهم في فحوى كلامهم، وظاهر أفعالهم، ثم إن الله تعالى ذكره عرّفه إياهم. وقوله: "وَلَتَعْرِفَنّهُمْ فِي لَحْنٍ القَوْلِ "يقول: ولتعرفنّ هؤلاء المنافقين في معنى قولهم ونحوه... قال: قال ابن زيد، في قوله: فِي لَحْنِ القَوْلِ قال قولهم: واللّهُ يَعْلَمُ أعمالَكُمْ لا يخفى عليه العامل منكم بطاعته، والمخالف ذلك، وهو مجازي جميعكم عليها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي لو نشاء لجعلنا لهم أعلاما في الوجه والقول لتعرفهم، ولكن لم يجعل لهم، ولكن جعل معرفتهم بأعمال؛ يعملون فيظهر نفاقهم بذلك، والله أعلم، كقوله: {ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا} [البقرة: 204] وقوله في آية أخرى: {وإذا رأيتهم تُعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} [المنافقون: 4] وقوله [في آية أخرى]: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كُسالى ولا يُنفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54] وقوله في آية أخرى: {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم} [التوبة: 45] ونحو ذلك من الآيات مما يظهر نفاقهم وخلافهم بالأعمال التي كانوا يعملون. فدلّت هذه الآيات على أنه كان لا يعرفهم بالسّيماء والنّطق والقول والأجسام، وإنما يعرفهم بأفعال كانوا يفعلونها، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} فيه وجهان: أحدهما: في كذب القول...الثاني: في فحوى كلامهم، واللحن هو الذهاب بالكلام في غير جهته، مأخوذ من اللحن في الإعراب وهو الذهاب عن الصواب...
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالُكُم} فيه وجهان:
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولو نشاء لأريناكهم} مقاربة في شهرتهم، ولكنه تعالى لم يعينهم قط بالأسماء والتعريف التام إبقاء عليهم وعلى قرابتهم، وإن كانوا قد عرفوا ب {لحن القول} وكانوا في الاشتهار على مراتب كعبد الله بن أبيّ والجد بن قيس وغيرهم ممن دونهم في الشهرة. والسيما: العلامة التي كان تعالى يجعل لهم لو أراد التعريف التام بهم...
وقوله تعالى: {والله يعلم أعمالكم} مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر...
{فلتعرفنهم}... التعريف قد يطلق ولا يلزمه المعرفة، يقال عرفته ولم يعرف وفهمته ولم يفهم فقال هاهنا {فلعرفتهم} يعني عرفناهم تعريفا تعرفهم به، إشارة إلى قوة التعريف،... {في لحن القول}...
في لحن القول أي في الوجه الخفي من القول الذي يفهمه النبي عليه السلام ولا يفهمه غيره، وهذا يحتمل أمرين أيضا والنبي عليه السلام كان يعرف المنافق ولم يكن يظهر أمره إلى أن أذن الله تعالى له في إظهار أمرهم ومنع من الصلاة على جنائزهم والقيام على قبورهم، وأما قوله {بسيماهم} فالظاهر أن المراد أن الله تعالى لو شاء لجعل على وجوههم علامة أو يمسخهم كما قال تعالى: {ولو نشاء لمسخناهم}... {والله يعلم أعمالكم} وعد للمؤمنين، وبيان لكون حالهم على خلاف حال المنافق، فإن المنافق كان له قول بلا عمل، والمؤمن كان له عمل ولا يقول به...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولو} ويجوز أن تكون واو للحال أي أم حسبوا ذلك والحال أنا لو {نشاء} أي وقعت منا مشيئة الآن أو قبله أو بعده...
{لأريناكهم} أي رؤية تامة كاشفة لك الغطاء عنهم {فلعرفتهم} أي فتعقبت رؤيتك إياهم معرفتك لهم أنت بخصوصك {بسيماهم} أي بسبب علاماتهم التي نجعلها عالية عليهم غالبة لهم- في إظهار ضمائرهم عليها لا يقدرون على مدافعتها بوجه...
{ولتعرفنهم} أي بعد هذا الوقت معرفة تتجدد بحسب تجدد أقوالهم مستمرة باستمرار ضمائرهم الخبيثة وإسرارهم {في لحن القول} أي الصادر منهم، ولحنه فحواه أي معناه و- مذهبه وما يدل عليه ويلوح به من مثله عن حقائقه إلى عواقبه وما يؤول إليه أمره مما يخفى على غيرك...
فالله يعلم أقولكم: {والله} أي مما له من صفات الكمال {يعلم أعمالكم} كلها الفعلية والقولية جليها وخفيها، علماً ثابتاً غيبياً وعلماً راسخاً شهودياً يتجدد بحسب تجددها مستمراً باستمرار ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم).. أي لو نشاء لكشفنا لك عنهم بذواتهم وأشخاصهم، حتى لترى أحدهم فتعرفه من ملامحه [وكان هذا قبل أن يكشف الله له عن نفر منهم بأسمائهم، ومع ذلك فإن لهجتهم ونبرات صوتهم، وإمالتهم للقول عن استقامته، وانحراف منطقهم في خطابك سيدلك على نفاقهم: (ولتعرفنهم في لحن القول).. ويعرج على علم الله الشامل بالأعمال وبواعثها: (والله يعلم أعمالكم).. فلا تخفى عليه منها خافية...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: لأريناكَ أشخاصهم فعرفتهم، أو لذكرنَا لك أوصافهم فعرفتهم بها ثم يحتمل أن الله شاء ذلك وأراهم للرسول فعن أنس ما خفي على النبي بعد هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم ذكره البغوي والثعلبي بدون سند...
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول}. هذا في معنى الاحتراس مما يقتضيه مفهوم {لو نشاء لأريناكهم} من عدم وقوع المشيئة لإراءته إياهم بنعوتهم. والمعنى: فإن لم نرك إياهم بسيماهم فلتقعن معرفتك بهم من لحن كلامهم بإلهام يجعله الله في علم رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يخفى عليه شيء من لحن كلامهم فيحصل له العلم بكل واحد منهم إذا لحن في قوله، وهم لا يخلو واحد منهم من اللحن في قوله، فمعرفة الرسول بكل واحد منهم حاصلة وإنما ترك الله تعريفه إياهم بسيماهم ووكله إلى معرفتهم بلحن قولهم إبقاء على سنة الله تعالى في نظام الخلق بقدر الإمكان لأنها سنة ناشئة عن الحكمة فلما أريد تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاعه على دخائل المنافقين سلك الله في ذلك مسلك الرمز...
ولحن القول: الكلام المحال به إلى غير ظاهره ليفطن له من يُراد أن يفهمه دون أن يفهمه غيره بأن يكون في الكلام تعريض أو تورية أو ألفاظ مصطلح عليها بين شخصين أو فرقة كالألفاظ العلمية... كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذهم بظاهر كلامهم فنبهه الله إليه فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم. {والله يَعْلَمُ أعمالكم}. تذييل، فهو لعمومه خطاب لجميع الأمة المقصود منه التعليم وهو مع ذلك كناية عن لازمه وهو الوعيد لأهل الأعمال السيّئة على أعمالهم، والوعد لأهل الأعمال الصالحة على أعمالهم، وتنبيه لأهل النفاق بأن الله يوشك أن يفضح نفاقهم كما قال آنفاً {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم} [محمد: 29]. واجتلاب المضارع في قوله: {يعلم} للدلالة على أن علمه بذلك مستمر...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرف المنافقين جيداً، من خلال علاماتهم، بعد نزول هذه الآية... والشاهد على هذا الكلام هو أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أُمر بأن لا يصلّي على من مات منهم ولا يقوم على قبره داعياً الله له: (ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره). لقد كان الجهاد بالذات من المواقف التي كان المنافقون يعكسون فيها ما يعيشونه في داخلهم، وقد أشارت آيات كثيرة في القرآن الكريم، وخاصّةً في سورة التوبة والأحزاب إلى وضع هؤلاء قبل الحرب حين جمع المساعدات وإعداد العدّة للحرب، وفي أثناء الحرب في ساحتها إذا اشتد هجوم العدو واستعرت حملته، وبعد الحرب عند تقسيم الغنائم، حتى وصل الأمر بالمنافقين إلى أن يعرفهم حتى المسلمون العاديّون في هذه المشاهد والمواقف. واليوم أيضاً لا تصعب معرفة المنافقين من لحن قولهم ومواقفهم المضادة في المسائل الاجتماعية المهمة، وخاصة عند الاضطرابات أو الحروب، ويمكن التعرف عليهم بأدنى دقة في أقوالهم وأفعالهم، وما أروع أن يعي المسلمون أمرهم ويستيقظوا ويستلهموا من هذه الآية تعليماتها ليعرفوا هذه الفئة الحاقدة الخطرة ويفضحوها...
" ولو نشاء لأريناكهم " أي لعرفناكهم . قال ابن عباس : وقد عرفه إياهم في سورة " التوبة " {[13956]} . تقول العرب : سأريك ما أصنع ، أي سأعلمك ، ومنه قوله تعالى : " بما أراك الله " {[13957]} [ النساء : 105 ] أي بما أعلمك . " فلعرفتهم بسيماهم " أي بعلاماتهم . قال أنس . ما خفي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم . وقد كنا في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشك فيهم{[13958]} الناس ، فأصبحوا ذات ليلة وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب ( هذا منافق ) فذلك سيماهم . وقال ابن زيد : قدر الله إظهارهم وأمر أن يخرجوا من المسجد فأبوا إلا أن يتمسكوا بلا إله إلا الله ، فحقنت دماؤهم ونكحوا وأنكحوا بها . " ولتعرفنهم في لحن القول " أي في فحواه ومعناه . ومنه قول الشاعر :
أي ما عرف بالمعنى ولم يصرح به . مأخوذ من اللحن في الإعراب ، وهو الذهاب عن الصواب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ] أي أذهب بها في الجواب لقوته على تصريف الكلام . أبو زيد : لحنت له ( بالفتح ) ألحن لحنا إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره . ولحنه هو عني ( بالكسر ) يلحنه لحنا أي فهمه . وألحنته أنا إياه ، ولاحنت الناس فاطنتهم ، قال الفزاري :
وحديثٍ ألذُّه هو مما *** ينعَت الناعتون يوزن وزنا
منطقٌ رائع وتلحَنُ أحيانا *** وخير الحديث ما كان لَحْنَا
يريد أنها تتكلم بشيء وهي تريد غيره ، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها . وقد قال تعالى : " ولتعرفنهم في لحن القول " . وقال القتال الكلابي :
ولقد وَحَيْت{[13959]} لكم لكَيْما تفهموا *** ولحنت لحنا ليس بالمرتاب
ولحنتِ لحنًا فيه غِشٌّ ورابني *** صدودُك تُرْضين الوشاةَ الأعادِيَا
قال الكلبي : فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى الله عليه وسلم منافق إلا عرفه . وقيل : كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك ويأخذ بالظاهر المعتاد ، فنبهه الله تعالى عليه ، فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم . قال أنس : فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عرفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه . " والله يعلم أعمالكم " أي لا يخفى عليه شيء منها .
ولما{[59837]} علم من ذلك إحاطة علمه سبحانه وتعالى وشمول قدرته علم ما له سبحانه من باهر العظمة وقاهر العزة ، فنقل الكلام إلى أسلوبها تنبيهاً على ذلك عاطفاً على ما تقديره : خابت{[59838]} ظنونهم وفالت{[59839]} آراؤهم فلنخرجن{[59840]} ما يبالغون في ستره حتى لا ندع منه شيئاً يريدون إخفاءه{[59841]} إلا كشفناه وأبديناه للناس وأوضحناه ، فإنا نعلمهم ونعلم ذلك منهم من قبل أن نخلقهم ، فلو نشاء لفضحناهم حتى يعرفهم الناس أجمعون ، فلا يخفى منهم أحد على أحد منهم-{[59842]} فقال تعالى : { ولو } ويجوز أن تكون واو للحال أي أم حسبوا ذلك والحال أنا لو { نشاء } أي وقعت منا مشيئة الآن أو قبله أو بعده . ولما كانوا لشدة جهلهم لا يتصورون أن سرائرهم كلها معلومة مقدور على أن يعلمها بشر{[59843]} مثلهم ، أكد قوله : { لأريناكهم } {[59844]}أي رؤية تامة كاشفة لك الغطاء عنهم{[59845]} { فلعرفتهم } أي فتعقبت رؤيتك إياهم معرفتك لهم أنت بخصوصك { بسيماهم } أي بسبب علاماتهم التي نجعلها عالية عليهم غالبة لهم-{[59846]} في إظهار ضمائرهم عليها لا{[59847]} يقدرون على مدافعتها بوجه ، ولم يذكرهم سبحانه بأسمائهم إبقاء{[59848]} على قراباتهم المخلصين{[59849]} من الفتن .
ولما انقضى ما علق بالمشيئة مما كان ممكناً له في الماضي وغيره ، عطف عليه ما يجزه له مما كشف من أمرهم في المستقبل فقال مؤكداً لاستبعاد من يستبعد ذلك منهم أو ممن شاركهم{[59850]} في مرض القلب من غيرهم فقال في جواب قسم محذوف دل عليه باللام{[59851]} : { ولتعرفنهم } أي بعد هذا الوقت{[59852]} معرفة تتجدد بحسب تجدد أقوالهم مستمرة باستمرار ضمائرهم الخبيثة وإسرارهم { في لحن القول } أي الصادر منهم ، ولحنه فحواه{[59853]} أي معناه و-{[59854]} مذهبه وما يدل عليه ويلوح به من مثله عن حقائقه إلى عواقبه وما {[59855]}يؤول إليه{[59856]} أمره مما يخفى على غيرك ، وقال ابن برجان : هو ما تنحو إليه بلسانك أي تميل{[59857]} إليه ليفطن لك صاحبك وتخفيه على من لم يكن له عهد بمرادك ، وعلى القول بالتحقيق فلحن القول ما يبدو من غرض الكلام وخفيات الخطاب وسياق اللفظ وهيئة السحنة حال القول وإن لم يرد المتكلم أن يظهره ولكنه على الأغلب يغلبه حالاً ، فلا يقدر على كل كتمه وإن كان في تكليمه معتمداً على ذلك ، وحقيقته حال يلوح عن السر وإظهار كلام الباطن يكاد يناقض كلام اللسان بحال خفية ومعان يقف{[59858]} عليها باطن التخاطب و-{[59859]} قال :
ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا{[59860]} *** واللحن يعرفه ذوو الألباب
وقال آخر-{[59861]} :
عيناك قد دلتا{[59862]} عيناي منك على *** أشياء لولاهما ما كنت أدريها
وقال أبو حيان{[59863]} : كانوا اصطلحوا على الفاظ يخاطبون بها الرسول صلى الله عليه وسلم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح ، وقال الأصبهاني : وقيل للمخطىء : لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب : وقال البغوي{[59864]} : للحن{[59865]} وجهان{[59866]} : صواب وخطأ-{[59867]} ، فالفعل من الصواب لحن يلحن لحناً فهو لحن - إذا فطن{[59868]} للشيء ، والفعل من الخطأ لحن يلحن لحناً فهو لاحن ، والأصل فيه إزالة الكلام عن جهته ، قال-{[59869]} : فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه ، وقال الثعلبي : وعن أنس رضي الله عنه : ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنا في غزوة وفيها سبعة من المنافقين-{[59870]} يشكرهم{[59871]} الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا على جبهة كل واحد منهم مكتوب " هذا منافق " ومثل ابن عباس رضي الله عنهم بقوله : " ما لنا إن أطعنا من الثواب " قال : ولا يقولون : ما لنا-{[59872]} إن عصينا من العقاب{[59873]} .
ولما أخبر سبحانه أنه يعلم ظواهرهم وبواطنهم ، وأنه يجليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم في صور ما يخفونه من أقوالهم ، وأكد ذلك لعلمه بشكهم{[59874]} فيه ، واجههم بالتبكيت زيادة في إهانتهم عاماً لغيرهم إعلاماً بأنه محيط بالكل{[59875]} فقال عاطفاً على ما تقديره : فالله يعلم أقولكم : { والله } أي مما له من صفات الكمال{[59876]} { يعلم أعمالكم * } كلها الفعلية والقولية جليها وخفيها ، علماً{[59877]} ثابتاً غيبياً وعلماً راسخاً شهودياً يتجدد بحسب تجددها مستمراً باستمرار ذلك .