تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

ثم قال : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } أي : يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ، ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين لله عز وجل .

وقوله : { وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } أي : إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ غير موقن مصدق .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

{ أن تقول } تعليل للأوَامر في قوله : { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } [ الزمر : 54 ] { واتبعوا أحسن ما أنزل } [ الزمر : 55 ] على حذف لام التعليل مع ( أَنْ ) وهو كثير .

وفيه حذف لا } النافية بعد { أن ، وهو شائع أيضاً كقوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } [ الأنعام : 155 - 157 ] ، وكقوله : { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } [ النساء : 135 ] . وعادة صاحب « الكشاف » تقدير : كراهية أن تفعلوا كذا . وتقدير ( لا ) النافية أظهر لكثرة التصرف فيها في كلام العرب بالحذف والزيادة .

والمعنى : لئلا تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله . وظاهر القول إنه القول جهرة وهو شأن الذي ضاق صَبْره عن إخفاء ندامته في نفسه فيصرخ بما حدَّث به نفسه فتكون هذه الندامة المصرح بها زائدة على التي أسرّها ، ويجوز أن يكون قولاً باطناً في النفس . وتنكير { نَفْسٌ } للنوعية ، أي أن يَقول صنف من النفوس وهي نفوس المشركين فهو كقوله تعالى : { علمت نفس ما أحضرت } [ التكوير : 14 ] . وقول لبيد :

أو يعتلق بعض النفوس حمامها

يريد نفسه .

وحرف ( يا ) في قوله : { يا حسرتي } استعارة مكنية بتشبيه الحسرة بالعاقل الذي ينادي ليقبل ، أي هذا وقتك فاحضري ، والنداء من روادف المشبه به المحذوف ، أي يا حسرتي احضري فأنا محتاج إليك ، أي إلى التحسر ، وشاع ذلك في كلامهم حتى صارت هذه الكلمة كالمثل لشدة التحسر .

والحسرة : الندامة الشديدة . والألفُ عوض عن ياء المتكلم .

وقرأ أبو جعفر وحْده { يا حسرتاي } بالجمع بين ياء المتكلم والألف التي جُعلت عوضاً عن الياء في قولهم : { يا حسرتي } . والأشهر عن أبي جعفر أن الياء التي بعد الألف مفتوحة . وتعدية الحسرة بحرف الاستعلاء كما هو غالبها للدلالة على تمكن التحسر من مدخول { على } .

وما في { ما فَرَّطتُ } صدرية ، أي على تفريطي في جنب الله .

والتفريط : التضييع والتقصير ، يقال : فَرَّطَه . والأكثر أن يقال : فرّط فيه . والجنب والجانب مترادفان ، وهو ناحية الشيء ومكانه ومنه { والصاحبِ بالجنْب } [ النساء : 36 ] أي الصاحب المجاور .

وحرف في هنا يجوز أن يكون لتعدية فعل { فَرَّطتُ } فلا يكون للفعل مفعول ويكون المفرط فيه هو جنب الله ، أي جهته ويكون الجنب مستعاراً للشأن والحقِّ ، أي شأن الله وصفاته ووصاياه تشبيهاً لها بمكان السيد وحِماه إذا أُهمل حتى اعتُدي عليه أو أَقْفَرَ ، كما قال سابق البربري :

أما تتقين الله في جنب وامق *** له كبد حرَّى عليكِ تَقَطَّعُ

أو تكون جملة { فَرَّطت في جَنب الله } تمثيلاً لحال النفس التي أُوقفت للحساب والعقاببِ بحال العبد الذي عهد إليه سيّده حراسةَ حماهُ ورعايةَ ماشيته فأهملها حتى رُعي الحِمى وهَلكت المواشي وأحضر للثقاف فيقول : يا حسرتا على ما فرطت في جنْب سيدي .

وعلى هذا الوجه يجوز إبقاء الجنب على حقيقته لأن التمثيل يعتمد تشبيه الهيئة بالهيئة . ويجوز أن تكون { ما } موصولة وفعل { فَرَّطتُ } متعدياً بنفسه على أحد الاستعمالين ، ويكون المفعول محذوفاً وهو الضمير المحذوف العائد إلى الموصول ، وحذفه في مثله كثير ، ويكون المجرور ب { في } حالاً من ذلك الضمير ، أي كائناً ما فرطتُه في جانب الله .

وجملةُ { وإن كنت لَمِن الساخرين } خبر مستعمل في إنشاء الندامة على ما فاتها من قبول ما جاءها به الرسول من الهُدى فكانت تسخر منه ، والجملة حال من فاعل فرطت ، أي فرطت في جنب الله تفريطَ الساخر لا تفريط الغافل ، وهذا إقرار بصورة التفريط . و { إنْ } مخففة من { إنّ } المشددة ، واللام في { لَمِنَ الساخرين } فارقة بين { إنْ } المخففة و ( إنْ ) النافية .

و { من الساخرين } أشد مبالغةً في الدلالة على اتصافهم بالسخرية من أن يقال : وإن كنتُ لَساخرة ، كما تقدم غير مرة منها عند قوله تعالى : { قال أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين } في سورة [ البقرة : 67 ] .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

من قبل {أن تقول نفس يا حسرتى} يعني يا ندامتا.

{على ما فرطت} يعني ما ضيعت.

{في جنب الله} يعني في ذات الله يعني من ذكر الله.

{وإن كنت لمن الساخرين} يعني لمن المستهزئين بالقرآن في الدنيا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وأنيبوا إلى ربكم، وأسلموا له "أنْ تَقُولَ نَفْسٌ "بمعنى لئلا تقول نفس: "يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ في جَنْبِ اللّهِ"...

وقولهّ: "يا حَسْرَتا" يعني أن تقول: يا ندما... والألف في قوله يا حَسْرَتا هي كناية المتكلم، وإنما أريد: يا حسرتي، ولكن العرب تحوّل الياء في كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفا، فتقول: يا ويلتا، ويا ندما، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء... وقوله: "على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ" يقول: على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به، وقصرت في الدنيا في طاعة الله...

وقوله: "وَإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ" يقول: وإن كنت لمن المستهزئين بأمر الله وكتابه ورسوله والمؤمنين به.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

ذلك صلة ما تقدم من قوله: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} {واتّبِعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم من قبل} أن يقول ما ذكر في وقت لا ينفعه ذلك القول، ولا يغنيه من عذاب الله، ولا يدفعه.

{على ما فرّطت في جنب الله} قال بعضهم: في ذات الله.

ولسنا نحتاج إلى تفسير قول ذلك الرجل الذي كان منه حتى قال ذلك، وهو تضييع توحيد الله أو تضييع حدّ الله، أو كان منه من تكذيب البعث.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{أَن تَقُولَ نَفْسٌ} كراهة أن تقول.

فإن قلت: لم نكرت؟ قلت: لأنّ المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر. ويجوز أن يراد: نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج في الكفر شديد. أو بعذاب عظيم. ويجوز أن يراد التكثير...

قالوا: فرّط في جنبه وفي جانبه، يريدون: في حقه، والمعنى: فرطت في طاعة الله وعبادة الله، وما أشبه ذلك...

{وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{في جنب الله} معناه: في مقاصدي إلى الله وفي جهة طاعته، أي في تضييع شريعته والإيمان به.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب، بين تعالى أن بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون، فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أنواع من الكلمات؛ فالأول: قوله تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان الموقع للإنسان في النقصان إنما هو حظوظه وشهواته المخالفة لعقله، عبر بقوله: {نفس} أي عند وقوع العذاب لها، وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد؛ لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد.

{يا حسرتى}...،وحل المصدر لأن ما حل إليه أصرح في الإسناد وأفخم، وأدل على المراد وأعظم، فقال: {على ما فرطت} أي بما ضيعت فانفرط مني نظامه، وتعذر انضمامه والتئامه.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{من الساخرين} أشد مبالغةً في الدلالة على اتصافهم بالسخرية من أن يقال: وإن كنتُ لَساخرة، كما تقدم غير مرة منها عند قوله تعالى: {قال أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين} في سورة [البقرة: 67].

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هذا نموذجٌ للنفس حين تتحسَّر وتلوم نفسها، لماذا أوصلتَ نفسك إلى هذا الموقف، طلبنا منك أنْ تنيبَ إلى الله، وأنْ تسلمَ له في أحكامه، وأن تتبع أحسن ما أُنزل إليك لترفع عن نفسك الحرج وتُجنِّبها اللوم، ولا تقف هذا الموقف لكنك لم تستجب.

كلمة {يٰحَسْرَتَا} [الزمر: 56] هذا أسلوب نداء، فأيُّ شيء ينادي العبد؟ ينادي الحسرة والحزن والأسى يقول: يا حسرتي احضري تعالَيْ، فهذا أوانك، يتحسَّر على نفسه بعد أن فاتته الفرصة، ومعلوم في النداء أنه لا ينادي إلا النافع لكن الموقف هنا موقف تحسُّر وندم، والحسرة هنا مضافة لياء المتكلم والألف للإطلاق.

ومعنى {عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] على ما قصَّرت في حق الله وفي طاعته، والتفريط: هو إهمال ما يجب أنْ يتقدم، لأن الفرصة إنْ فاتت لا تُعوَّض...

إذن: أنت تتحسَّر على نفسك وتلومها، لأنك لم تستغل الفرصة وأهملتَ حتى فاتتك وهي لا تُعوَّض، فليس أمامك إذن إلا التحسُّر وعضّ أصابع الندم، فكأن الأمرين اللذين سبقا هذه الآية وهما: {وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ..} [الزمر: 54]

{وَاتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ..} [الزمر: 55] كان ينبغي العمل بهما ليحموا أنفسهم من أنْ يقولوا ساعةَ يرون العذاب {يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ..} [الزمر: 56] فرحمته تعالى ورفقه بعباده لا يحب منهم أنْ يقولوا هذه الكلمة، فالله لا يريد لعبده أنْ يقف موقف التحسُّر، ولا يرضى له ذلك، فحين يقول لنا: لا تقنطوا من رحمة الله، وأنيبوا، وأسلموا، وابتغوا أحسن ما أنزل إليكم يريد أن ينبه الغافل ويحذر مَنْ يفكر في الكفر ويُذكِّره بالعواقب، وبما سيكون منه حين يرى العذاب من حسرة.

والحسرة: أسف وندم على خير فات لا يمكن تداركه، والكافر لا يتحسَّر حسرةً واحدة إنما حسرات كثيرة ملازمة له، فكلما رأى العذاب الذي ينزل به تحسَّر، وكلما رأى المؤمنين في نعيم تحسَّر، وكلما تذكَّر دُنياه تحسَّر.

وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56] يعني: الأمر لم ينته عند حَدِّ التفريط والتقصير في جنب الله، إنما تعدَّاه إلى السخرية ممَّنْ يقفون في جنب الله، فالذنب مُضَاعف، وسبق أنْ ذكرنا نموذجاً من سخرية أهل الباطل بأهل الحق، واستهزائهم بهم في قوله تعالى من سورة المطففين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 29-36]...