يقول تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي : فأجابهم ربهم ، كما قال الشاعر :
وداعٍ دعا : يَا مَن يجيب إلى النّدى *** فَلم يَسْتجبْه عنْد ذاك مجيب{[6378]}
قال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن سلمة ، رجل من آل أم سلمة ، قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا نَسْمَع اللهَ ذَكَر النساء في الهجرة بشيء ؟ فأنزل الله [ عز وجل ]{[6379]} { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } إلى آخر الآية . وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قَدمت علينا .
وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عُيَيْنة ، ثم قال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه{[6380]} .
وقد روى ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، عن أم سَلَمة قالت : آخر آية أنزلت هذه الآية : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } إلى آخرها . رواه ابن مَرْدُويَه .
ومعنى الآية : أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا - مما تقدم ذكره - فاستجاب لهم ربهم - عقب ذلك بفاء التعقيب ، كما قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة : 186 ] .
وقوله : { أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } هذا تفسير للإجابة ، أي قال لهم مُجِيبًا{[6381]} لهم : أنه لا يضيع عمل عامل لديه ، بل يُوَفّي كل عامل بقسط عمله ، من ذكر أو أنثى .
وقوله : { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي : جميعكم في ثوابي سَواء { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا } أي : تركوا دار الشِّرك وأتَوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران ، { وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي : ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ؛ ولهذا قال : { وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي } أي : إنما كان ذنْبُهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده ، كما قال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] . وقال تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] .
وقوله : { وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله ، فيُعْقَر جَواده ، ويعفَّر وجهه بدمه وترابه ، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال : يا رسول الله ، أرأيت إن قُتلت في سبيل الله صابرا مُحْتَسبا مُقْبلا غير مُدبِر ، أيُكَفِّر الله عني خطاياي ؟ قال : " نعم " ثم قال : " كيف قلت ؟ " : فأعاد عليه{[6382]} ما قال ، فقال : " نعم ، إلا الدَّين ، قاله لي جبريل آنفًا " .
ولهذا قال تعالى : { لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب ، من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك ، مما لا عَيْنَ رَأتْ ، ولا أذن سَمِعت ، ولا خَطَر على قلب بَشَر .
وقوله : { ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أضافه إليه ونسبه إليه لِيدل على أنه عظيم ؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جَزيلا كثيرًا ، كما قال الشاعر :
إن يُعَذب يَكُن غَرامًا وإن يُعْ *** طِ جَزيلا فإنَّه لا يُبَالي
وقوله : { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } أي : عنده حُسْن الجزاء لمن عمل صالحا .
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن دُحَيم بن إبراهيم : حدثنا الوليد بن مسلم ، أخبرني حَرِيز{[6383]} بن عثمان : أن شداد بن أوس كان يقول : يا أيها الناس ، لا تَتهِموا الله في قضائه ، فإنه{[6384]} لا يبغي على مؤمن ، فإذا نزل بأحدكم شيء مما يُحِب فليحْمَد الله ، وإذا أنزل{[6385]} به شيء مما يكره فَليَصْبر وليحتسب ، فإن الله عنده حسن الثواب .
دلّت الفاء على سرعة الإجابة بحصول المطلوب ، ودلّت على أنّ مناجاة العبد ربّه بقلبه ضرب من ضروب الدعاء قابل للإجابة .
و ( استجاب ) بمعنى أجاب عند جمهور أيمّة اللغة ، فالسين والتاء للتأكيد ، مثل : استوقد واستخلص . وعن الفرّاء ، وعليّ بن عيسى الربعي : أنّ استجاب أخصّ من أجاب لأنّ استجاب يقال لمن قَبِل ما دُعِي إليه ، وأجاب أعمّ ، فيقال لمن أجاب بالقبول وبالردّ . وقال الراغب : الاستجابة هي التحرّي للجواب والتهيُّؤ له ، لكن عبّر به عن الإجابة لقلّة انفكاكها منها . ويقال : استجاب له واستجابه ، فعدّي في الآية باللام ، كما قالوا : حَمِدَ له وشكر له ، ويعدّي بنفسه أيضاً مثلهما . قال كعب بن سعد الغنوي ، يرثي قريباً له :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وتعبيرهم في دعائهم بوصف { ربنا } دون اسم الجلالة لما في وصف الربوبية من الدلالة على الشفقة بالمربوب ، ومحبّة الخير له ، ومن الاعتراف بأنّهم عبيده ولتتأتّى الإضافة المفيدة التشريف والقرب ، ولردّ حسن دعائهم بمثله بقولهم : « ربَّنا ، ربَّنا » .
ومعنى نفي إضاعة عملهم نفي إلغاء الجزاء عنه : جَعله كالضائع غير الحاصل في يد صاحبه .
فنفي إضاعة العمل وعد بالاعتداد بعملهم وحسبانه لهم ، فقد تضمّنت الاستجابة تحقيق عدم إضاعة العمل تطميناً لقلوبهم من وَجل عدم القبول ، وفي هذا دليل على أنّهم أرادوا من قولهم : { وآتنا ما وعدتنا على رسلك } [ آل عمران : 194 ] تحقيق قبول أعمالهم والاستعاذة من الحَبَط .
وقوله : { من ذكر أو أنثى } بيان لعَامِلٍ ووجه الحاجة إلى هذا البيان هنا أنّ الأعمال التي أتوا بها أكبرها الإيمان ، ثم الهجرة ، ثم الجهاد ، ولمّا كان الجهاد أكثر تكرّراً خيف أن يتوهّم أنّ النساء لا حظّ لهنّ في تحقيق الوعد الذي وعد الله على ألسنة رسله ، فدفع هذا بأنّ للنساء حظّهنّ في ذلك فهنّ في الإيمان والهجرة يساوين الرجال ، وهنّ لهنّ حظّهنّ في ثواب الجهاد لأنّهن يقمن على المرضى ويُداوين الكلْمى ، ويسقين الجَيش ، وذلك عمل عظيم به استبقاء نفوس المسلمين ، فهو لا يقصر عن القتال الذي به إتلاف نفوس عدوّ المؤمنين .
وقوله : { بعضكم من بعض } ( من ) فيه اتّصالية أي بعضُ المستجاب لهم مُتّصل ببعض ، وهي كلمة تقولها العرب بمعنى أنّ شأنهم واحد وأمرهم سواء . قال تعالى : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر } [ التوبة : 67 ] إلخ . . . وقولهم : هو منّي وأنا منه ، وفي عكسه يقولون كما قال النابغة :
فإنّي لستُ مِنْكَ ولستَ مِنِّي
وقد حملها جمهور المفسّرين على معنى أنّ نساءكم ورجالكم يجمعهم أصل واحد ، وعلى هذا فمَوقع هذه الجملة موقع التعليل للتعميم في قوله : { من ذكر أو أنثى } أي لأنّ شأنكم واحد ، وكلّ قائم بما لو لم يقم به لضاعت مصلحة الآخر ، فلا جرم أن كانوا سواء في تحقيق وعد الله إيّاهم ، وإن اختلفت أعمالهم وهذا كقوله تعالى : { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } [ النساء : 32 ] .
والأظهر عندي أن ليس هذا تعليلاً لمضمون قوله : { من ذكر أو أنثى } بل هو بيان للتساوي في الأخبار المتعلّقة بضمائر المخاطبين أي أنتم في عنايتي بأعمالكم سواء ، وهو قضاء لحقّ ما لهم من الأعمال الصالحة المتساوين فيها ، ليكون تمهيداً لبساط تمييز المهاجرين بفضل الهجرة الآتي في قوله : { فالذين هاجروا } ، الآيات .
وقوله : { فالذين هاجروا } تفريع عن قوله : { لا أضيع عمل عامل } وهو من ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام بذلك الخاصّ ، واشتمل على بيان ما تفاضلوا فيه من العمل ، وهو الهجرة التي فاز بها المهاجرون .
والمهاجَرة : هي ترك الموطن بقصد استيطان غيره ، والمفاعلة فيها للتقوية كأنّه هَجر قومه وهَجَروه لأنّهم لم يحرصوا على بقائه ، وهذا أصل المهاجرة أن تكون لمنافرة ونحوها ، وهي تصدق بهجرة الذين هاجروا إلى بلاد الحبشة وبهجرة الذين هاجروا إلى المدينة .
وعطف قوله : { وأخرجوا من ديارهم } على { هاجروا } لتحقيق معنى المفاعلة في هاجر أي هاجروا مهاجرة لزّهم إليها قومهم ، سواء كان الإخراج بصريح القول أم بالإلجاء ، من جهة سوء المعاملة ، ولقد هاجر المسلمون الهجرة الأولى إلى الحبشة لما لاقوه من سوء معاملة المشركين ، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرته إلى المدينة والتحق به المسلمون كلّهم ، لما لاقوه من أذى المشركين . ولا يوجد ما يدلّ على أنّ المشركين أخرجوا المسلمين ، وكيف واختفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى المدينة يدلّ على حرص المشركين على صدّه عن الخروج ، ويدلّ لذلك أيضاً قول كعب :
في فتيةٍ من قريشٍ قال قائلهم . . . ببطْن مكّةَ لمَّا أَسلموا زُولوا
أي قال قائل من المسلمين اخرُجوا من مكّة ، وعليه فكلّ ما ورد ممّا فيه أنّهم أخرجوا من ديارهم بغير حقّ فتأويله أنه الإلجاء إلى الخروج ، ومنه قول ورقة ابن نوفل : « يا ليْتني أكون معكَ إذ يُخْرِجُك قومُك » ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له : " أوَ مُخْرِجيّ هُم ؟ فقال : مَا جاء نَبيء بمثلِ ما جئْتَ به إلاّ عُودي " وقوله : { وأَوذوا في سبيلي } أي أصابهم الأذى وهو مكروه قليل من قول أو فعل . وفهم منه أنّ من أصابهم الضرّ أولى بالثواب وأوفى . وهذه حالة تصدق بالذين أوذوا قبل الهجرة وبعدها .
وقوله : { وقاتلوا وقتلوا } جُمع بينهما للإشارة إلى أنّ للقسمين ثواباً . وقرأ الجمهور : وقاتلوا وقُتلوا . وقَرَأ حَمزَة ، والكسائي ، وخلف : وقُتلوا وقاتلوا عكس قراءة الجمهور ومآل القراءتين واحد ، وهذه حالة تصدق على المهاجرين والأنصار من الذين جاهدوا فاستشهدوا أو بقوا . وقوله : { لأكفرن عنهم سيئاتهم } إلخ مؤكّد بلام القسم . وتكفير السيّئات تقدّم آنفاً .