وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } قيل { بِحَبْلِ اللَّهِ } أي : بعهد الله ، كما قال في الآية بعدها : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } [ آل عمران : 112 ] أي بعهد وذمة{[5440]} وقيل : { بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ } يعني : القرآن ، كما في حديث الحارث الأعور ، عن علِيّ مرفوعا في صفة القرآن : " هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ ، وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ " .
وقد وَرَدَ في ذلك حديث خاص بهذا المعنى ، فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أسباط بن {[5441]}محمد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي ، عن عطية عن [ أبي ]{[5442]} سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كِتَابُ اللهِ ، هو حَبْلُ اللهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ " {[5443]} .
وروى ابن مَرْدُويَه من طريق إبراهيم بن مسلم الهَجَريّ ، عن أبي الأحْوَص ، عن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هو حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ ، وهو النور المبين وهُوَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ ، ونَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ " {[5444]} .
وُروي من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك . [ وقال وَكِيع : حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال : قال عبد الله : إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين ، يا عبد الله ، بهذا الطريق هلم إلى الطريق ، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن ]{[5445]} .
وقوله : { وَلا تَفَرَّقُوا } أمَرَهُم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة{[5446]} وقد وردت الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف{[5447]} كما في صحيح مسلم من حديث سُهَيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا ، يَرْضى لَكُمْ : أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا : قيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وإِضَاعَةَ الْمَالِ " {[5448]} .
وقد ضُمِنتْ لهم العِصْمةُ ، عند اتفاقهم ، من الخطأ ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضًا ، وخِيفَ عليهم الافتراق ، والاختلاف ، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة{[5449]} ناجية إلى الجنة ومُسَلمة من عذاب النار ، وهم الذين على ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
وقوله : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ] {[5450]} } إلى آخر الآية ، وهذا السياق في شأن الأوْس والخَزْرَج ، فإنه كانت{[5451]} بينهم حُروبٌ كثيرة في الجاهلية ، وعداوة شديدة وضغائن ، وإحَنٌ وذُحُول{[5452]} طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى ، قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ]{[5453]} } [ الأنفال : 62 ] وكانوا على شفا حُفْرة من النار بسبب كفرهم ، فأبعدهم{[5454]} الله منها : أنْ هَدَاهُم للإيمان . وقد امتن عليهم بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم قَسَم غنائم حُنَيْنٍ ، فَعتَبَ من عتب{[5455]} منهم لمّا فَضَّل عليهم في القِسْمَة بما أراه الله ، فخطبهم فقال : " يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ، ألَمْ أجدْكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي ، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَألَّفَكُمُ اللهُ بِي ، وَعَالَةً فأغْنَاكُمْ اللهُ بِي ؟ " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمنّ .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار وغيره : أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ، وذلك أن رجلا من اليهود مَرَّ بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هُمْ عليه من الاتفاق والألْفَة ، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم{[5456]} ما كان من حروبهم يوم بُعَاث وتلك الحروب ، ففعل ، فلم يزل ذلك دأبُه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم ، وتواعدوا إلى الحرة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يُسكِّنهم ويقول : " أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ ؟ " وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا ، وألقوا السلاح ، رضي الله عنهم {[5457]} وذكر عِكْرِمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفْك . والله أعلم .
وقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } معناه تمنعوا وتحصنوا به ، فقد يكون الاعتصام بالتمسك باليد ، وبارتقاء القنن ، وبغير ذلك ما هو منعة ، ومنه الأعصم في الجبل ، ومنه عصمة النكاح ، و «الحبل » في هذه الآية مستعار لما كان السبب الذي يعصم به ، وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم ، ونسبة بينهما ، شبه ذلك بالحبل الذي شأنه أن يصل شيئاً بشيء ، وتسمى العهود والمواثيق حبالاً ، ومنه قول الأعشى{[3382]} :
وإذَا تَجَوَّزَها حِبالُ قَبِيلَةٍ . . . أَخَذَتْ مِنَ الأَدْنَى إِلَيْكَ حِبَالهَا
إني بحبلِكِ واصلٌ حبلي{[3383]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه قول الله تعالى : { إلا بحبل من الله وحبل من الناس }{[3384]} واختلفت عبارة المفسرين في المراد في هذه الآية { بحبل الله } ، فقال ابن مسعود : «حبل الله » الجماعة ، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبيعن فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قال فقيل يا رسول الله : وما هذه الواحدة ؟ قال فقبض يده وقال : الجماعة وقرأ ، { واعتصموا بحبل الله جميعاً }{[3385]} » ، وقال ابن مسعود في خطبة : عليكم جميعاً بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به ، وقال قتادة رحمه الله : «حبل الله » الذي أمر بالاعتصام به هوا لقرآن ، وقال السدي : «حبل الله » كتاب الله ، وقاله أيضاً ابن مسعود والضحاك ، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض »{[3386]} ، وقال أبو العالية : «حبل الله » في هذه الآية هو الإخلاص في التوحيد وقال ابن زيد : «حبل الله » هو الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض ، وقوله تعالى : { جميعاً } حال من الضمير في قوله ، { اعتصموا } ، فالمعنى : كونوا في اعتصامكم مجتمعين : { ولا تفرقوا } يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى ، وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد ، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية ، بل ذلك ، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خلاف أمتي رحمة »{[3387]} ، وقد اختلف الصحابة في الفروع أشد اختلاف ، وهم يد واحدة على كل كافر ، وأما الفتنة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه ، أما أن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم .
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءَ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج ، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها ، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة ، وحينئذ نزلت هذه الآية ، فهي في الأوس والخزرج ، كانت بينهم عداوة وحروب ، منها يوم بعاث وغيره ، وكانت تلك الحروب والعداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة ، حتى رفعها الله بالإسلام ، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجاً ، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم ، وتلا عليهم القرآن ، كما كان يصنع مع قبائل العرب ، فآمنوا به وأراد الخروج معهم ، فقالوا يا رسول الله : إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب ، خفنا أن لا يتم ما نريده منك ، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك ، ونداخل الناس ، وموعدنا وإياك العام القابل ، فمضوا وفعلوا ، وجاءت الأنصار في العام القابل ، فكانت العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً ، فيهم خمسة من الستة الأولين ، ثم جاؤوا من العام الثالث ، فكانت بيعة العقبة ، الكبرى ، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر نقيباً ، ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام{[3388]} ، ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجهين ، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب ، يبعث لنا نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما رأى النفر من الأنصار محمداً صلى الله عليه وسلم ، قال بعضهم لبعض : هذا والله النبي الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه ، والوجه الآخر ، الحرب التي كانت ضربتهم وأفنت سراتهم ، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم كالذي كان ، فعدد الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة ، وذكرهم بها ، وقوله تعالى : { فأصبحتم } عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع{[3389]} : [ المنسرح ]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . . أَمْلِكُ رَأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرا
و «الإخوان » جمع أخ ، ويجمع إخوة ، وهذان أشهر الجمع فيه ، على ان سيبويه رحمه الله يرى أن إخوة اسم جمع ، وليس ببناء جمع لأن فعلاً لا يجمع على فعلة ، قال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخواناً ، والأخ في النسب يجمع إخوة : هكذا كثر استعمالهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي كتاب الله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة }{[3390]} وفيه ، { أو بني إخوانهن }{[3391]} ، فالصحيح أنهما يقالان في النسب ، ويقالان في الدين ، و «الشفا » حرف كل جرم له مهوى ، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه ، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى ، كقوله { شفا جرف }{[3392]} وإلى الأسفل كقوله { شفا حفرة } ، ويثنى شفوان ، فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدنية من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً ، فأنقذهم الله بالإسلام ، والضمير في { منها } عائد على النار ، أو على «الحفرة » ، العود على الأقرب أحسن ، وقال بعض الناس حكاه الطبري : إن الضمير عائد على «الشفا » ، وأنث الضمير من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث ، فالآية كقول جرير :
رَأَتْ مَرَّ السنينِ أَخَذْنَ مِنّي . . . كَمَا أَخذَ السّرارُ مِنَ الهِلاَلِ{[3393]}
قال القاضي : وليس الأمر كما ذكر ، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه الصناعة ، إلا لو لم تجد معاداً للضمير إلا «الشفا » ، وأما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة وقوله تعالى : { كذلك يبين لكم آياته } إشارة إلى ما بين في هذه الآيات ، أي فكذلك يبين لكم غيرها ، وقوله ، { لعلكم } ترجٍّ في حق البشر ، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء{[3394]} .
قوله : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } ثَنَّى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم ، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم ، وذلك بالاجتماع على هذا الدّين وعدم التَّفرّق ليكتسبوا باتّحادهم قوّة ونماء . والاعتصام افتعال من عَصَم وهو طلب ما يعصم أي يمنع .
والحَبْل : ما يشدّ به للارتقاء ، أو التدلّي ، أو للنَّجاة من غَرَق ، أو نحوه ، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفافهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقى إليهم من مُنقذ لهم من غرق أو سقوط ، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التَّمثيل .
وقوله : { جميعاً } حال وهو الّذي رجّح إرادة التَّمثيل ، إذ ليس المقصود الأمر باعتصام كُلّ مسلم في حال انفراده اعتصاماً بهذا الدّين ، بل المقصود الأمر باعتصام الأمَّة كُلّها ، ويحصل في ضِمن ذلك أمرُ كُلّ واحد بالتَّمسك بهذا الدّين ، فالكلام أمر لهم بأن يكونوا على هاته الهيئة ، وهذا هو الوجه المناسب لتمام البلاغة لكثرة ما فيه من المعاني ، ويجوز أن يستعار الاعتصام للتَّوثيق بالدّين وعهوده ، وعدم الانفصال عنه ، ويستعار الحبل للدّين والعهود كقوله : { إلاّ بحَبْل من الله وحبْل من النَّاس } [ آل عمران : 112 ] ويكون كُلّ من الاستعارتين ترشيحاً للأخرى ، لأنّ مبنى التَّرشيح على اعتبار تقوية التَّشبيه في نفس السامع ، وذلك يحصل له بمجرد سماع لفظ ما هو من ملائمات المستعار ، بقطع النَّظر عن كون ذلك الملائم معتبرة فيه استعارة أخرى ، إذ لا يزيده ذلك الاعتبار إلاّ قُوّة . وليست الاستعارة بوضع اللَّفظ في معنى جديد حتَّى يَتَوهّم متوهّم أنّ تلك الدّلالة الجديدة ، الحاصلة في الاستعارة الثَّانية ، صارت غير ملائمة لِمعنى المستعار في الاستعارة الأخرى ، وإنَّما هي اعتبارات لطيفة تزيد كثرتها الكلام حسناً . وقريب من هذا التوريةُ ، فإنّ فيها حُسناً بإيهام أحد المعنيين مع إرادة غيره ، ولا شكّ أنَّه عند إرادة غيره لا يكون المعنى الآخَر مقصوداً ، وفي هذا الوجه لا يكون الكلام صريحاً في الأمر بالاجتماع على الدّين بل ظاهره أنّه أمر للمؤمنين بالتمسّك بالدّين فيؤول إلى أمر كُلّ واحد منهم بذلك على ما هو الأصل في معنى مثل هذه الصّيغة ويصير قوله : { جميعاً } محتملاً لتأكيد العموم المستفاد من واو الجماعة .
وقوله : { ولا تفرقوا } تأكيد لمضمون اعتصموا جميعاً كقولهم : ذممت ولم تُحْمَد . على الوجه الأول في تفسير { واعتصموا بحبل الله جميعاً } . وأمّا على الوجه الثَّاني فيكون قوله : { ولا تفرّقوا } أمراً ثانياً للدلالة على طلب الاتّحاد في الدّين ، وقد ذكرنا أنّ الشيء قد يؤكّد بنفي ضدّه عند قوله تعالى : { قد ضلوا وما كانوا مهتدين } في سورة [ الأنعام : 140 ] وفي الآية دليل على أنّ الأمر بالشيء يستلزم النَّهي عن ضدّه .
وقوله : { واذكروا نعمت الله عليكم } تصوير لحالهم الَّتي كانوا عليها ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة الَّتي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعاً بجامعة الإسلام الَّذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة ، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى ، الّذي اختار لهم هذا الدّين ، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتِّفاق . والتَّذكيرُ بنعمة الله تعالى طريق من طُرق مواعظ الرّسل . قال تعالى حكاية عن هود : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] وقال عن شعيب : { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم } [ الأعراف : 86 ] وقال الله لموسى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] . وهذا التَّذكير خاصّ بمن أسلم من المسلمين بعد أن كان في الجاهلية ، لأنّ الآية خطاب للصّحابة ولكن المنّة به مستمرة على سائر المسلمين ، لأن كُلّ جيل يُقَدّر أن لو لم يَسبق إسلام الجيل الَّذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النَّار .
والظرفية في قوله : { إذ كنتم أعداء } معتبر فيها التَّعقيب من قوله : { فألف بين قلوبكم } إذ النعمة لم تكن عند العداوة ، ولكن عند حصول التأليف عقب تلك العداوة .
والخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرون والأنصار وأفراد قليلون من بعض القبائل القريبة ، وكان جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب ، فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة ، ومنها كان يوم بعاث ، والعرب كانوا في حروب وغارات{[211]} بل وسائر الأمم الَّتي دعاها الإسلام كانوا في تفرّق وتخاذل فصار الّذين دخلوا في الإسلام إخواناً وأولياء بعضهم لبعض ، لا يصدّهم عن ذلك اختلاف أنساب ، ولا تباعد مواطن ، ولقد حاولت حكماؤهم وأولو الرأي منهم التأليف بينهم ، وإصلاح ذات بينهم ، بأفانين الدّعاية من خطابة وجاه وشعر{[212]} فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتَّى ألَّف الله بين قلوبهم بالإسلام فصاروا بذلك التَّأليف بمنزلة الإخوان .
والإخوان جمع الأخ ، مثل الإخوة ، وقيل : يختصّ الإخوان بالأخ المجازي والإخوة بالأخِ الحقيقي ، وليس بصحيح قال تعالى : { أو بيوت إخوانكم } [ النور : 61 ] وقال : { إنَّما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] وليس يصحّ أن يكون للمعنى المجازي صيغة خاصّة في الجمع أو المفرد وإلا لبطل كون اللَّفظ مجازاً وصار مشتركاً ، لكن للاستعمال أن يُغلّب إطلاق إحدى الصيغتين الموضوعتين لمعنى واحد فيغلّبها في المعنى المجازي والأخرى في الحقيقي .
وقد امتنّ الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها : فحالة كانوا عليها هي حالة العداوة والتَّفاني والتقاتل ، وحالة أصبحوا عليها وهي حالة الأخُوّة ولا يدرِك الفرقَ بين الحالتين إلا من كانوا في السُّوأى فأصبحوا في الحُسنى ، والنَّاس إذا كانوا في حالة بُؤس وضنك واعتادوها صار الشقاء دأبهم ، وذلّت له نفوسهم فلم يشعروا بما هم فيه ، ولا يتفطّنوا لوخيم عواقبه ، حتَّى إذا هُيّىء لهم الصّلاح ، وأخذ يتطرّق إليهم استفاقوا من شقوتهم ، وعلموا سوء حالتهم ، ولأجل هذا المعنى جمعت لهم هذه الآية في الامتنان بين ذكر الحالتين وما بينهما فقالت : { إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } .
وقوله : { بنعمته } الباء فيه للملابسة بمعنى ( مع ) أي أصبحتم إخواناً مصاحبين نعمة من الله وهي نعمة الأخوَّة ، كقول الفضل بن عبَّاس بن عتبة اللهبي :
كُلُّ له نية في بغض صاحبه *** بنعمة الله نَقْلِيكُم وتَقْلُونَا
وقوله : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } عطف على { كنتم أعداء } فهو نعمة أخرى وهي نعمة الإنقاذ من حالة أخرى بئيسة وهي حالة الإشراف على المهلكات .
والشَّفا مثل الشَّفَة هو حرف القليب وَطرفه ، وألِفُه مبدلة من واو . وأما واو شفة فقد حذفت وعوضت عنها الهاء مثل سنة وعِزّة إلاّ أنهم لم يجمعوه على شفوات ولا على شَفِينَ بل قالوا شفاه كأنَّهم اعتدوا بالهاء كالأصل .
فأرى أن شَفا حفرة النَّار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتَّفاني الَّذي عبَّر عنه زهير بقوله :
* تفانَوا ودَقُّوا بينَهم عِطْر مَنْشَم *
بحال قوم بلغ بهم المشي إلى شفا حفير من النَّار كالأُخدُود فليس بينهم وبين الهلاك السَّريع التَّام إلا خطوة قصيرة ، واختيار الحالة المشبَّه بها هنا لأن النَّار أشدّ المهلكات إهلاكاً ، وأسرعُها ، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما : نعمة الأخوة بعد العداوة ، ونعمة السلامة بعد الخطر ، كما قال أبو الطيب :
* نَجاة من البأساءِ بعدَ وقوع *
والإنقاذ من حالتين شنيعتين . وقال جمهور المفسرين : أراد نار جهنَّم . وعلى قولهم هذا يكون قوله : { شفا حفرة } مستعاراً للاقتراب استعارة المحسوس للمعقول . والنَّارُ حقيقة ، ويبعد هذا المحمل قوله تعالى : { حفرة } إذ ليست جهنّم حفرة بل هي عالم عظيم للعذاب . وورد في الحديث « فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان » لكن ذلك رؤيا جاءت على وجه التمثيل وإلا فهي لا يحيط بها النّظر . ويكون الامتنان على هذا امتناناً عليهم بالإيمان بعد الكفر وهم ليقينهم بدخول الكفرة النَّارَ علموا أنَّهم كانوا على شفاها . وقيل : أراد نار الحرب وهو بعيد جداً لأنّ نار الحرب لا توقد في حُفرة بل توقد في العلياء ليراها من كان بعيداً كما قال الحارث :
وبعينيك أوقدَتْ هند النَّارَ *** عِشــاء تُلْوي بها العَليَاء
فتنورتَ نَارها من بعيـد *** بخَزَازَى أيَّان منك الصِلاء
ولأنهم كانوا ملابسين لها ولم يكونوا على مقاربتها .
والضّمير في { منها } للنَّار على التَّقادير الثَّلاثة . ويجوز على التَّقدير الأول أن يكون لشَفا حفرة وعاد عليه بالتأنيث لاكتسابه التَّأنيث من المضاف إليه كقول الأعشى :
وتَشْرَقَ بالقَوْلِ الذي قد أذعتَه *** كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناة من الدم
وقوله : { كذلك يبين الله لكم آياته } نعمة أخرى وهي نعمة التَّعليم والإرشاد ، وإيضاح الحقائق حتَّى تكمل عقولهم ، ويَتَبَيَّنوا مَا فيه صلاحهم . والبيان هنا بمعنى الإظهار والإيضاح . والآيات يجوز أن يكون المراد بها النعم ، كقول الحرث بن حلزة :
مَنْ لنا عنده من الخَيْر آيا *** تٌ ثلاث في كلّهن القضاء
ويجوز أن يراد بها دلائل عنايته تعالى بهم وتثقيف عقولهم وقلوبهم بأنوار المعارف الإلهية . وأن يراد بها آيات القرآن فإنها غاية في الإفصاح عن المقاصد وإبلاغ المعاني إلى الأذهان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واعتصموا بحبل الله}، يعني بدين الله، {جميعا ولا تفرقوا}، يعني ولا تختلفوا في الدين كما اختلف أهل الكتاب، {واذكروا نعمت الله عليكم} الإسلام، {إذ كنتم أعداء} في الجاهلية يقتل بعضكم بعضا، {فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}، يعني برحمته إخوانا في الإسل.
{وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}، يقول للمشركين: الميت منكم في النار، والحي منكم على حرف النار، إن مات دخل النار، {فأنقذكم منها}، يعني من الشرك إلى الإيمان، {كذلك}، يعني: هكذا، {يبين الله لكم آياته}، يعني: علاماته في هذه النعمة، أعداء في الجاهلية، إخوانا في الإسلام، {لعلكم}: لكي {تهتدون}، فتعرفوا علاماته في هذه النعمة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعا، يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحقّ والتسليم لأمر الله. وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الاعتصام. وأما الحبل: فإنه السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة، ولذلك سمي الأمان حبلاً، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف والنجاة من الجزع والذعر... وقال آخرون: عَنَى بذلك القرآن، والعهد الذي عهد فيه... وقال آخرون: بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله ...
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَلا تَفَرّقُوا}: ولا تتفرّقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى أمره...
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ}: واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام...
واختلف أهل العربية في قوله: {إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم} فقال بعض نحويي البصرة في ذلك: انقطع الكلام عند قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ}، ثم فسر بقوله: {فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم} وأخبر بالذي كانوا فيه قبل التأليف، كما تقول: أمْسَكَ الحائط أن يميل. وقال بعض نحويي الكوفة: قوله {إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم} تابع قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} غير منقطعة منها. والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله: {إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم} متصل بقوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} غير منقطع عنه. وتأويل ذلك: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حين كنتم أعداء: أي بشرككم، يقتل بعضكم بعضا، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم، فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه...
قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُمْ} كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألف به بينكم. أما والله الذي لا إله إلا هو، إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب!...
فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الاَية أن يذكروها هي ألفة الإسلام واجتماع كلمتهم عليها، والعداوة التي كانت بينهم، التي قال الله عزّ وجلّ: {إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً} فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام، يزعم العلماء بأيام العرب، أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة...
وأما قوله: {فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا} فإنه يعني: فأصبحتم بتأليف الله عزّ وجلّ بينكم بالإسلام وكلمة الحقّ والتعاون على نصرة أهل الإيمان، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر، إخوانا متصادقين لا ضغائن بينكم، ولا تحاسد...
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ}: وكنتم يا معشر المؤمنين من الأوس والخزرج على حرف حفرة من النار، وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام، يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه، قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فانقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له. وشفا الحفرة: طرفها وحرفها، مثل شفا الركية والبئر...
يعني جلّ ثناؤه بقوله:"كذلك" كما بين لكم ربكم في هذه الآيات أيها المؤمنون من الأوس والخزرج، من غِلّ اليهود، الذي يضمرونه لكم، وغشهم لكم، وأمره إياكم بما أمركم به فيها، ونهيه لكم عما نهاكم عنه، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم، والتي صرتم إليها في إسلامكم، يعرّفكم في كل ذلك مواقع نعمه قبلكم، وصنائعه لديكم، فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. {لَعَلّكم تهتدون} يعني: لتهتدوا إلى سبيل الرشاد، وتسلكوها فلا تضلوا عنها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم} بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل: {فألف بين قلوبكم} بالإسلام، وقيل: بالقرآن، ولم يكن ذلك بالدين نفسه، ولكن بلطف من الله من به على أهل دينه، وأخبر أن التأليف بين قلوبهم نعمة، لأن التفرق يوجب التباغض، والتباغض يوجب التقاتل، وفي ذلك التفاني...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله: (وكنتم على شفا حفرة من النار) معنى الشفا: الحرف... وإنما قال:"فأنقذكم منها" وإن لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها من حيث كانوا مستحقين لدخولها. وإنما أنقذهم النبي (صلى الله عليه وآله) بدعائهم إلى الاسلام، ودخولهم فيه، فصاروا بمنزلة الخارج منها.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
203- {فألف بين قلوبكم} المراد بالألفة: نزع الغوائل من الصدور، وهي الأسباب المثيرة للفتن، المحركة للخصومات. [المستصفى: 2/262]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قولهم اعتصمت بحبله: يجوز أن يكون تمثيلاً لاستظهاره به ووثوقه بحمايته، بامتساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه، وأن يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد، أو ترشيحاً لاستعارة الحبل بما يناسبه. والمعنى: واجتمعوا على استعانتكم بالله ووثوقكم به ولا تفرقوا عنه...
{وَلاَ تَفَرَّقُواْ} ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادي بعضكم بعضاً ويحاربه أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة، وحينئذ نزلت هذه الآية، فهي في الأوس والخزرج...
وقوله تعالى: {فأصبحتم} عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار، وفيها مبدأ الأعمال، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب...
وقوله تعالى: {كذلك يبين لكم آياته} إشارة إلى ما بين في هذه الآيات، أي فكذلك يبين لكم غيرها، وقوله، {لعلكم} ترجٍّ في حق البشر، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الأولى: الْحَبْل: لفظٌ لغوي يَنْطلق على معانٍ كثيرة؛ أعظمها السبَبُ الواصل بين شيئين.
وهو هاهنا مما اختلف العلماءُ فيه؛ فمنهم من قال: هو عَهْد الله، وقيل: كِتابُه، وقيل: دِينُه؛ وقد روَى الأئمة في الصحيح أنَّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر له حديث رؤيا الظلَّة التي تَنْطُفُ عسلاً وسَمْناً، وفيه قال: «ورأيتُ شيئاً واصلاً من السماء إلى الأرض...» الحديث إلى آخره، وعبَّر الصدِّيق بحضرته عليه السلام، فقال: «وأما السبَبُ الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحقُّ الذي أنْتَ عليه، فضرب اللهُ تعالى على يدي ملك الرؤيا مثلاً للحقِّ الذي بُعِثَ به الأنبياء بالْحَبْلِ الواصل بين السماء والأرض، وهذا لأنهما جميعاً ينيران بمشكاةٍ واحدة.
المسألة الثانية: إذا ثبت هذا فالأظهر أنه كتابُ اللهِ، فإنه يتضمَّن عَهْدَه ودينه.
المسألة الثالثة: التفرق الْمَنْهيّ عنه يحتمل ثلاثة أوجه:
الأول: التفرق في العقائد، لقوله تعالى: {شَرَعَ لكم مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً والذي أوْحَيْنا إليكَ وما وصَّيْنا به إبراهيمَ ومُوسَى وعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فيه} [الشورى:13].
الثاني: قوله عليه السلام: «لا تحاسَدُوا ولا تَدَابَرُوا ولا تَقَاطَعُوا وكونوا عبادَ الله إخواناً»، ويعضده قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً}.
الثالث: تَرْكُ التخطئة في الفروع والتبرِّي فيها، وليمض كلُّ أحدٍ على اجتهاده؛ فإنَّ الكلَّ بحَبْلِ الله معتصم، وبدليله عامل؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يصلينَّ أحدٌ منكم العَصْر إلاّ في بني قُرَيظة»؛ فمنهم من حضرَتِ العَصْرُ فأخَّرها حتى بلغ بني قريظة أخْذاً بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: لم يُرِدْ هذا منّا، يعني وإنما أراد الاستعجال فلم يعنف النبيُّ عليه السلام أحداً منهم.
والحكمةُ في ذلك أنَّ الاختلافَ والتفرقَ المنهيّ عنه إنما هو المؤدِّي إلى الفتنة والتعصُّب وتشتيت الجماعة؛ فأما الاختلافُ في الفروع فهو مِنْ محاسنِ الشريعة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فلَهُ أجْران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجْرٌ واحد». ورُوي أنَّ له إنْ أصاب عشرة أُجور.
المسألة الرابعة: قال بعضُ علمائنا قوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} دليل على أنه لا يصلِّي الْمفْتَرِض خَلْفَ المتنفِّل؛ لأنَّ نيتَهم قد تفرقت، ولو كان هذا متعلقاً لما جازت صلاةُ المتنفِّل خلْفَ المفترض؛ لأنَّ النيةَ أيضاً قد تفرقت؛ وفي الإجماع على جواز ذلك دليلٌ على أنَّ منزعَ الآية ما قدمناه لا ما تعلَّق به هذا العالم.
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات، وهو الاعتصام بحبل الله. واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله، فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف، ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق، وقد انزلق رجل الكثير من الخلق عنه، فمن اعتصم بدليل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف، فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين، وهو أنواع كثيرة، فذكر كل واحد من المفسرين واحدا من تلك الأشياء... والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلا لله، وأمروا بالاعتصام به...
ثم قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم} واعلم أن نعم الله على الخلق إما دنيوية وإما أخروية وإنه تعالى ذكرهما في هذه الآية، أما النعمة الدنيوية فهي قوله تعالى: {إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}... فإنهم قبل الإسلام كان يحارب بعضهم بعضا ويبغض بعضهم بعضا، فلما أكرمهم الله تعالى بالإسلام صاروا إخوانا متراحمين متناصحين وصاروا إخوة في الله... واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معاديا لأكثر الخلق، ومن كان وجهه إلى خدمة الله تعالى لم يكن معاديا لأحد، والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرى الكل أسيرا في قبضة القضاء والقدر فلا يعادي أحدا، ولهذا قيل: إن العارف إذا أمر برفق ويكون ناصحا لا يعنف ويعير فهو مستبصر بسر الله في القدر...
قوله {فأصبحتم بنعمته إخوانا} يدل على أن المعاملات الحسنة الجارية بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله، لأنه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم وكانت تلك الداعية نعمة من الله مستلزمة لحصول الفعل، وذلك يبطل قول المعتزلة في خلق الأفعال، قال الكعبي: إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعرفة والألطاف. قلنا: كل هذا كان حاصلا في زمان حصول المحاربات والمقاتلات، فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم...
ثم قال تعالى: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}. واعلم أنه تعالى لما شرح النعمة الدنيوية ذكر بعدها النعمة الأخروية، وهي ما ذكره في آخر هذه الآية. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حفرتها، فبين تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة، وقد قربوا من الوقوع فيها...
وفي قوله {فأنقذكم منها} سؤال وهو: أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذي كانوا فيه وهم كانوا على شفا حفرة، وشفا الحفرة مذكر فكيف قال منها؟. وأجابوا عنه من وجوه الأول: الضمير عائد إلى الحفرة ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منها والثاني: أنها راجعة إلى النار، لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة، وهذا قول الزجاج الثالث: أن شفا الحفرة، وشفتها طرفها، فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث...
المسألة الثالثة: أنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها، وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء، وبين ذلك الشيء، ثم قال: {كذلك يبين الله} الكاف في موضع نصب، أي مثل البيان المذكور يبين الله لكم سائر الآيات لكي تهتدوا بها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان عزم الإنسان فاتراً وعقله قاصراً، دلهم -بعد أن أوقفتهم التقوى- على الأصل لجميع الخيرات المتكفل بالحفظ من جميع الزلات فقال: {واعتصموا} أي كلفوا أنفسكم الارتباط الشديد والانضباط العظيم {بحبل الله} أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له التي نهجها لكم ومهدها، وأصل الحبل السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة، وكل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله عنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن الخوف، ولا يخفى دقة الصراط بما ورد به النقل الصحيح، وهذا الدين مثاله، فصعوبته وشدته على النفوس بما لها من النوازع والحظوظ مثال دقته، فمن قهر نفسه وحفظها على التمسك به حفظ عن السقوط عما هو مثاله. ولما أفهم كل من الضمير والحبل والاسم الجامع إحاطة الأمر بالكل أكده بقوله: {جميعاً} لا تدعوا أحداً منكم يشذ عنها، بل كلما عثرتم على أحد فارقها ولو قيد شبر فردوه إليها ولا تناظروه ولا تهملوا أمره، ولا تغفلوا عنه فيختل النظام، وتتعبوا على الدوام، بل تزالوا كالرابط ربطاً شديداً حزمة نبل بحبل، لا يدع واحدة منها تنفرد عن الأخرى، ثم أكد ذلك بقوله: {ولا تفرقوا} ثم ذكرهم نعمة الاجتماع، لأن ذلك باعث على شكرها، وهو باعث على إدامة الاعتصام والتقوى، وبدأ منها بالدنيوية لأنها أس الأخروية فقال: {واذكروا نعمة الله} الذي له الكمال كله {عليكم} يا من اعتصم بعصام الدين! {إذا كنتم أعداء} متنافرين أشد تنافر {فألف بين قلوبكم} بالجمع على هذا الصراط القويم والمنهج العظيم {فأصبحتم بنعمته إخواناً} قد نزع ما في قلوبكم من الإحن، وأزال تلك الفتن والمحن. ولما ذكر النعمة التي أنقذتهم من هلاك الدنيا ثنى بما تبع ذلك من نعمة الدين التي عصمت من الهلاك الأبدي فقال: {وكنتم على شفا} أي حرف وطرف {حفرة من النار} بما كنتم فيه من الجاهلية {فأنقذكم منها}. ولما تم هذا البيان على هذا الأسلوب الغريب نبه على ذلك بقوله -جواباً لمن يقول: لله در هذا البيان! ما أغربه من بيان!- {كذلك} أي مثل هذا البيان البعيد المنال البديع المثال {يبين الله} المحيط علمه الشاملة قدرته بعظمته {لكم آياته} وعظم الأمر بتخصيصهم به وإضافة الآي إليه. ولما كان السياق لبيان دقائق الكفار في إرادة إضلالهم ختم الآية بقوله: {لعلكم تهتدون} أي ليكون حالكم عند من ينظركم حال من ترجى وتتوقع هدايته، هذا الترجي حالكم فيما بينكم، وأما هو سبحانه وتعالى فقد أحاط علمه بالسعيد والشقي، ثم الأمر إليه، فمن شاء هداه، ومن أراد أرداه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أي دلائلَه {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} طلباً لثباتكم على الهدى وازديادِكم فيه.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
ومعنى إنجائهم من الشفا: إنجاؤهم من مظنة الهلاك...
{لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ} إلى ما لم تهتدوا إليه قبل، أو تبقون على الاهتداء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
حبل الله: هو القرآن، كما ورد في الحديث الصحيح عن ابن مسعود، وروى ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي سعيد الخدري مرفوعا "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض "علم عليه في الجامع الصغير بالحسن...
وصور الأستاذ الإمام التمثيل بما هو أظهر من هذا، قال ما معناه: الأشبه أن تكون العبارة تمثيلا، كأن الدين في سلطانه على النفوس واستيلائه على الإرادات وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال على حسب هديه: حبل متين يأخذ به الآخر فيأمن السقوط، كأن الآخذين به قوم على نشر من الأرض يخشى عليهم السقوط منه فأخذ بحبل موثق جمعوا به قوتهم فامتنعوا من السقوط. وأقول: إن المختار هو ما ورد في الحديث المرفوع من تفسير حبل الله بكتابه، ومن اعتصم به كان آخذا بالإسلام. ولا يظهر تفسيره بالجماعة والاجتماع؛ وإنما الاجتماع هو نفس الاعتصام، فهو يوجب علينا أن نجعل اجتماعنا ووحدتنا بكتابه، عليه نجتمع، وبه نتحد، لا بجنسيات نتبعها، ولا بمذاهب نبتدعها، ولا بمواضعات نضعها، ولا بسياسات نخترعها، ثم نهانا عن التفرق والانفصام، بعد هذا الاجتماع والاعتصام، لما في التفرق من زوال الوحدة، التي هي معقد العزة والقوة، وبالعزة يعتز الحق فيعلو في العالمين، وبالقوة يحفظ هو وأهله من هجمات الواثبين وكيد الكائدين، فهذا الأمر والنهي في معنى الأمر والنهي في قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) [الأنعام: 152] فحبل الله هو صراطه وسبيله. وما أشرنا إليه هنا من بيان أنواع التفرق هو السبل التي نهى عن اتباعها في تلك الآية، وهي قد نزلت قبل هذه التي نفسرها. لأنها في سورة الأنعام وهي مكية، وسورة آل عمران مدنية. فكأنه قال: ولا تتفرقوا باتباع السبل غير سبيل الله الذي هو كتابه. فمن تلك السبل المفرقة: إحداث المذاهب والشيع في الدين كما قال: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) [الأنعام: 159] ومنها عصبية الجنسية الجاهلية وهي التي نزلت الآية التي نفسرها وما معها فيها لما كان بين الأوس والخزرج ما كان كما تقدم. وورد في النهي عنها أحاديث كثيرة صحاح وحسان، كقوله صلى الله عليه وسلم "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه" رواه البخاري من حديث ابن عباس، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من دعا إلى عصبية". رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم...
فالإسلام يأمر باتحاد واتفاق كل قوم تضمهم أرض وتحكمهم الشريعة على الخير والمصلحة فيها، وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم، ويأمر مع ذلك باتفاق أوسع، وهو الاعتصام بحبل الله بين جميع الأقوام والأجناس لتتحقق بذلك الأخوة في الله، ولذلك قال بعد الأمر بالاعتصام والاجتماع والنهي عن التفرق: (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) يشير إلى ما كان عليه المؤمنون في عصر التنزيل من أخوة الإيمان التي بها قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم وبها كانوا يؤثرون بعضهم بعضا بالشيء على نفسه، وهو في خصاصة وحاجة شديدة إلى ذلك الشيء بعد ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة والبغضاء وتسافك الدماء ما هو معروف في جملته للجماهير وفي تفاصيله الغربية للمطلعين على أخبارهم المروية والمدونة. ومنها أن الحروب تطاولت بين الأوس والخزرج مئة وعشرين سنة حتى أطفأها الإسلام، وألف الله بين قلوبهم برسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا بعض ما أفادهم الإسلام في حياتهم الدنيا، وقد أنقذهم فيما يستقبلون من أمر الآخرة مما هو شر، وأدهى وأمر، وذلك قوله عز وجل: (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) أي كنتم كذلك، بوثنيتكم وشرككم بالله تعالى وما يتبعه من الخرافات والمفاسد فهي التي أطفأت نور الفطرة وهبطت بالأرواح إلى درك سافل حتى كانت كأنها على طرف حفرة يوشك أن تنهار بها في النار. فشفا الحفرة أو البئر طرفها، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك، قال الراغب: ومنه أشفى على الهلاك، أي حصل على شفاه. وليس بين الشرك وبين الهلاك في النار إلا الموت، والموت أقرب غائب ينتظر. فما أعظم منة الله تعالى على المؤمنين الصادقين، لا سيما الأولين الذين خوطبوا بهذه الآية، أولا: أن أخرجهم بالإسلام من الشرك ومخازيه وشقائه، وألف بينهم حتى صاروا بهذه الألفة أسعد الناس، ثم صاروا سادات الأرض، وأنقذهم بذلك من النار. فكانوا به سعداء الدارين والفائزين بالحسنيين. أفليس أول واجب من شكر هذه النعمة التي لا تفضلها نعمة أن يعرضوا عن وساوس ودسائس أولئك المغرورين بسلفهم من الأنبياء وهم ليسوا على شيء من هدايتهم؟ بلى، فقد وضح ا لحق وبطل الإفك. قال الأستاذ الإمام: انظر آية الله، قوم متخالفون بين العداوات والإحن يتربص كل واحد بالآخر الهلكة على يده، فيأتي الله بهذه الهداية فيجمعهم ويزيل كل ما في نفوسهم من التنافر ويجعلهم إخوانا ترجع أهواؤهم كلها إلى شيء واحد لا يختلفون فيه، وهو حكم الله. ولذلك قال: (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) أن ليعدكم ويؤهلكم بها للاهتداء الدائم المستمر فلا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان. ثم قال: التفرق والاختلاف قسمان: قسم لا يمكن أن يسلم منه البشر، فالنهي عنه من قبيل تكليف ما لا يستطاع، وليس بمراد في الآيات؛ وقسم يمكن الاحتراس منه وهو المراد بها. أما الأول فهو الخلاف في الفهم والرأي ولا مفر منه لأنه مما فطر عليه البشر. كما قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) [هود: 118] فاستواء الناس في العقول والأفهام مما لا سبيل إليه ولا مطمع فيه. إذ هو من قبيل الحب والبغض، فالأخوة الأشقاء في البيت الواحد تختلف أفهامهم في الشيء كما يختلف حبهم له وميلهم إليه. وأما الثاني- وهو ما جاءت الأديان لمحوه- فهو تحكيم الأهواء في الدين والأحكام، وهو أشد الأشياء ضررا في البشر، لأنه يطمس أعلام الهداية التي يلجأ إليها في إزالة المضمار التي في النوع الأول من الخلاف... هذا النوع من الخلاف هو الذي ذلت به الأمم بعد عزها، وهوت بعد رفعتها وضعفت بعد قوتها- هو الافتراق في الدين وذهاب أهله مذاهب تجعلهم شيعا تتحكم فيهم الأهواء...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام، ثم ذكرهم تعالى نعمته وأمرهم بذكرها فقال: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء} يقتل بعضكم بعضا، ويأخذ بعضكم مال بعض، حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا، وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال، وكانوا في شر عظيم، وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض، ولهذا قال: {فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار}... وفي هذه الآية ما يدل أن الله يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا له ومحبة، وليزيدهم من فضله وإحسانه، وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى الإسلام، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما الركيزة الثانية، فهي ركيزة الأخوة.. الأخوة في الله، على منهج الله، لتحقيق منهج الله...
فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام.. من الركيزة الأولى.. أساسها الاعتصام بحبل الله -أي عهده ونهجه ودينه- وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة! (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).. هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى. وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائما. وهو هنا يذكرهم هذه النعمة. يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية "أعداء".. وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد... فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام.. وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة. وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخوانا. وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والأطماع الشخصية والرايات العنصرية. ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال...
والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط: "القلب".. فلا يقول: فألف بينكم. إنما ينفذ إلى المكمن العميق: (فألف بين قلوبكم) فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه. كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه. بل مشهدا حيا متحركا تتحرك معه القلوب: (وكنتم على شفا حفرة من النار).. وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة، إذا بالقلوب ترى يد الله، وهي تدرك وتنقذ! وحبل الله وهو يمتد ويعصم. وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب! وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة، وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} ثَنَّى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم، وذلك بالاجتماع على هذا الدّين وعدم التَّفرّق ليكتسبوا باتّحادهم قوّة ونماء. والاعتصام افتعال من عَصَم وهو طلب ما يعصم أي يمنع. والحَبْل: ما يشدّ به للارتقاء، أو التدلّي، أو للنَّجاة من غَرَق، أو نحوه، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفافهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقى إليهم من مُنقذ لهم من غرق أو سقوط، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التَّمثيل. وقوله: {جميعاً} حال وهو الّذي رجّح إرادة التَّمثيل، إذ ليس المقصود الأمر باعتصام كُلّ مسلم في حال انفراده اعتصاماً بهذا الدّين، بل المقصود الأمر باعتصام الأمَّة كُلّها،...
وقوله: {ولا تفرقوا} تأكيد لمضمون اعتصموا جميعاً كقولهم: ذممت ولم تُحْمَد. على الوجه الأول في تفسير {واعتصموا بحبل الله جميعاً}. وأمّا على الوجه الثَّاني فيكون قوله: {ولا تفرّقوا} أمراً ثانياً للدلالة على طلب الاتّحاد في الدّين، وقد ذكرنا أنّ الشيء قد يؤكّد بنفي ضدّه عند قوله تعالى: {قد ضلوا وما كانوا مهتدين} في سورة [الأنعام: 140] وفي الآية دليل على أنّ الأمر بالشيء يستلزم النَّهي عن ضدّه. وقوله: {واذكروا نعمت الله عليكم} تصوير لحالهم الَّتي كانوا عليها ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة الَّتي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعاً بجامعة الإسلام الَّذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى، الّذي اختار لهم هذا الدّين، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتِّفاق. والتَّذكيرُ بنعمة الله تعالى طريق من طُرق مواعظ الرّسل. قال تعالى حكاية عن هود: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} [الأعراف: 69] وقال عن شعيب: {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم} [الأعراف: 86] وقال الله لموسى: {وذكرهم بأيام الله} [إبراهيم: 5]. وهذا التَّذكير خاصّ بمن أسلم من المسلمين بعد أن كان في الجاهلية، لأنّ الآية خطاب للصّحابة ولكن المنّة به مستمرة على سائر المسلمين، لأن كُلّ جيل يُقَدّر أن لو لم يَسبق إسلام الجيل الَّذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النَّار. والظرفية في قوله: {إذ كنتم أعداء} معتبر فيها التَّعقيب من قوله: {فألف بين قلوبكم} إذ النعمة لم تكن عند العداوة، ولكن عند حصول التأليف عقب تلك العداوة. والخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرون والأنصار وأفراد قليلون من بعض القبائل القريبة، وكان جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب، فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة، ومنها كان يوم بعاث، والعرب كانوا في حروب وغارات بل وسائر الأمم الَّتي دعاها الإسلام كانوا في تفرّق وتخاذل فصار الّذين دخلوا في الإسلام إخواناً وأولياء بعضهم لبعض، لا يصدّهم عن ذلك اختلاف أنساب، ولا تباعد مواطن، ولقد حاولت حكماؤهم وأولو الرأي منهم التأليف بينهم، وإصلاح ذات بينهم، بأفانين الدّعاية من خطابة وجاه وشعر فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتَّى ألَّف الله بين قلوبهم بالإسلام فصاروا بذلك التَّأليف بمنزلة الإخوان... وقد امتنّ الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها: فحالة كانوا عليها هي حالة العداوة والتَّفاني والتقاتل، وحالة أصبحوا عليها وهي حالة الأخُوّة ولا يدرِك الفرقَ بين الحالتين إلا من كانوا في السُّوأى فأصبحوا في الحُسنى، والنَّاس إذا كانوا في حالة بُؤس وضنك واعتادوها صار الشقاء دأبهم، وذلّت له نفوسهم فلم يشعروا بما هم فيه، ولا يتفطّنوا لوخيم عواقبه، حتَّى إذا هُيّئ لهم الصّلاح، وأخذ يتطرّق إليهم استفاقوا من شقوتهم، وعلموا سوء حالتهم، ولأجل هذا المعنى جمعت لهم هذه الآية في الامتنان بين ذكر الحالتين وما بينهما فقالت: {إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً}. وقوله: {بنعمته} الباء فيه للملابسة بمعنى (مع) أي أصبحتم إخواناً مصاحبين نعمة من الله وهي نعمة الأخوَّة... وقوله: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} عطف على {كنتم أعداء} فهو نعمة أخرى وهي نعمة الإنقاذ من حالة أخرى بئيسة وهي حالة الإشراف على المهلكات. و... شَفا حفرة النَّار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتَّفاني... فليس بينهم وبين الهلاك السَّريع التَّام إلا خطوة قصيرة، واختيار الحالة المشبَّه بها هنا لأن النَّار أشدّ المهلكات إهلاكاً، وأسرعُها، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما: نعمة الأخوة بعد العداوة، ونعمة السلامة بعد الخطر،...
ويكون الامتنان على هذا امتناناً عليهم بالإيمان بعد الكفر وهم ليقينهم بدخول الكفرة النَّارَ علموا أنَّهم كانوا على شفاها...
وقوله: {كذلك يبين الله لكم آياته} نعمة أخرى وهي نعمة التَّعليم والإرشاد، وإيضاح الحقائق حتَّى تكمل عقولهم، ويَتَبَيَّنوا مَا فيه صلاحهم. والبيان هنا بمعنى الإظهار والإيضاح. والآيات يجوز أن يكون المراد بها النعم،... ويجوز أن يراد بها دلائل عنايته تعالى بهم وتثقيف عقولهم وقلوبهم بأنوار المعارف الإلهية. وأن يراد بها آيات القرآن فإنها غاية في الإفصاح عن المقاصد وإبلاغ المعاني إلى الأذهان...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
لم يبيّن هنا ما بلغته معاداتهم من الشدة، ولكنّه بيّن في موضع آخر أن معاداتهم بلغت من الشدة أمرًا عظيمًا حتى لو أنفق ما في الأرض كله؛ لإزالتها وللتأليف بين قلوبهم لم يفد ذلك شيئًا وذلك في قوله: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ 62 وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حكيم 63}...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قد ذكر سبحانه أن الأمر بالاعتصام لا يؤدي غايته وحقيقته إلا إذا اعتصمت الأمة جميعها، ولذلك قال سبحانه: {واعتصموا بحبل الله جميعا} أي كونوا جميعا مستمسكين به؛ وذلك لأن هذا الدين كل لا يقبل التجزئة، والجماعة الإسلامية كل وطائفة واحدة، وكلمة {جميعا} يصح ان تكون حالا من الواو، ويصح ان تكون حالا من حبل الله تعالى، وعلى الأول يكون المعنى كونوا جميعا مستمسكين بحبل الله، ولا يصح ان ينفصل منكم طائفة لا تأخذ بذلك الحبل؛ لأن الشيطان ينفذ إليكم عن طريق هذه الطائفة التي شذت وعصت امر ربها. وعلى ان كلمة {جميعا} حال من حبل الله، يكون المعنى خذوا بالقرآن كله، ولا تجعلوه عضينا تؤمنون ببعضه وتكفرون ببعضه، أو خذوا بشريعته كلها ولا تأخذوا بجزء منها دون جزء، فإنها كل لا يقبل التجزئة. والأمران مرادان معا، فإن مقتضى النص ان نأخذ جميعا بالشريعة كلها، لا نفرق بينها، ولا نتفرق في أمرها؛ ولذا قال سبحانه: {ولا تفرقوا} أي لا تتفرقوا في أنفسكم، فلا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا تتنادوا بنداء الجاهلية، ولا تتفرقوا في دينكم، فتذهبوا في فهمه شيعا وفرقا مختلفة، فتضلوا عن سبيل الله، ولا شيء يذهب بنور الحق المبين أكثر من اختلاف الأنظار في فهمه وإدراكه، والنظر إليه بروح التعصب الذي يغفل عن الاتجاه إلى الحق في كل جوانبه، ولذلك جاء النهي عن التفرق في الدين، فقد قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء.159} [الأنعام]...
والنعمة التي يذكرنا الله بها في قوله تعالى: {واذكروا نعمت الله عليكم} هي نعمة الهداية والتأليف القلبي، وهو أعظم النعم على الجماعات والأمم، وقد بينها سبحانه بقوله: {إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم} فهذه نعمة بينة واضحة،وهذه النعمة ترتب عليها أثرها الجليل الخطير بفيض آخر من نعمته سبحانه أيضا ولذا قال: {فأصبحتم بنعمته إخوانا} فالنعمة الثانية التي كانت امتدادا للنعمة وفيضا لها هي نعمة الأخوة العامة، التي تجعل الأهواء مشتركة، والمصالح متشابكة متوحدة، يتعاون كل واحد في الأمر الذي يحسنه لمصلحة الجميع، والآية ترمي إلى بيان ان تألف القلوب وحده نعمة و الأخوة المترتبة عليه المتعاونة نعمة أخرى، والتألف معنى نفسي، والأخوة مظهر اجتماعي عملي، ولقد شدد- سبحانه- في التذكير بمآتم الاختلاف بعد ان أشار إلى نعمة الوفاق بقوله: {كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}...
...هذا يدلنا على أن كل نزغةِ جارحةٍ من الجوارح لا بد أن يكون وراءها هبَّة قلب وثورته وهياجه، فاليد لا تصفع أحدا من فراغ، ولكن الصفعة توجد في القلب أولا {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه الآية يُتابع القرآن تأكيد الأساس الذي تنطلق منه الوحدة في أسلوب إيحائي يربط الهدف بالقاعدة، في مسار لا يترك مجالاً للانحراف أو الضلال... ثُمَّ في توجيه المجتمع المؤمن إلى أن يدخل في عملية مقارنةٍ بين الماضي والحاضر، فقد كان الماضي يحمل في داخله الحقد والعداوة والبغضاء، بينما يتحرّك الحاضر على أساس المحبة والألفة والأخوّة...
وكان ذلك الواقع المظلم خاضعاً لممارسات تقف به على مشارف النَّار، فأنقذه اللّه منها برحمته في ما أنزله من وحي، وما أطلقه من مفاهيم، وما وجّهه من تعاليم...
"واعتصموا بحبل اللّه جميعاً" فهو في مضمونه الشامل الذي يشمل الإسلام كلّه، في مضمون الكتاب وحركة القيادة في خططها العملية، يمثِّل العروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انقطاع، فلا بُدَّ لكم من التمسك به والارتباط به، واعتباره الخطّ الذي يتواصل به الجميع والرابط الذي يربط بين الأفراد الذين قد يختلفون في خصوصياتهم ومواقعهم، "ولا تفرَّقوا" ليقف كلّ واحدٍ منكم في ناحية بعيدة عن الناحية التي يقف فيها الآخر على أساس العصبية الذاتية أو العائلية أو القومية أو العرقية أو الوطنية أو الإقليمية...
وغير ذلك مما يختلف عليه النَّاس في قضاياهم العامّة والخاصّة، فإنَّ التفرّق والاختلاف يؤدّيان إلى الضعف تارةً وإلى السقوط أخرى، وإلى الابتعاد عن الخطّ المستقيم ثالثة، "واذكروا نعمة اللّه عليكم" بالإسلام الذي هداكم إليه، وما كنتم لتهتدوا لولا أن هداكم اللّه، وجمعكم بعد فرقة ووحّدكم بعد تمزّق، [إذ كنتم أعداء] لا تلتقون على موقف، ولا ترتكزون على قاعدةٍ، يحقد بعضكم على بعض، ويلعن بعضكم بعضاً "فألَّف بين قلوبكم" بما أودعه في داخلها من الإسلام المنفتح على اللّه الذي يشيع الألفة الروحية من خلال العقيدة الواحدة والشريعة الواحدة والخطّ الواحد والهدف الواحد، "فأصبحتم بنعمته إخواناً" متراحمين، متناصحين، مجتمعين على أمرٍ واحدٍ، متحابين خاضعين لعنوان واحد، وهو الأخوّة في اللّه التي تفتح القلوب على بعضها البعض، وتزيل الحقد والعداوة والبغضاء. "وكنتم على شفا حفرةٍ من النَّار" أي: على حافة الهاوية التي تكاد أن تسقطكم في النَّار، من خلال الكفر الذي كنتم تقيمون عليه، وتتحرّكون في دائرته، وتختلفون فيما بينكم من خلال نوازعه وأوضاعه، "فأنقذكم منها" بالإسلام الذي فتح لكم أبواب الخير كلّه وأبواب رضوانه الذي ينتهي بكم إلى الجنَّة ويُبعدكم عن النَّار، "كذلك يبيِّن اللّه لكم آياته" التي توضح لكم سبيل السّلامة في الدُّنيا والآخرة، وموارد الهلاك، لتأخذوا تلك وتتركوا هذه "لعلَّكم تهتدون" إلى الحقّ والصواب، بالمعرفة الواضحة والحجّة القوية والمنهج القويم. من وحي «الاعتصام بحبل اللّه»: وقد نستوحي من كلمة «الاعتصام بحبل اللّه» وإلحاقها بكلمة: "ولا تفرَّقوا"، أنَّ من الضروري للمسلمين أن يتلمسوا الركائز التي ترتكز عليها الوحدة من خلال ما يلتقون عليه من مبادئ الإسلام ومفاهيمه العامّة، ليشعروا بالوحدة الفكرية والعملية التي تجمعهم، ويتركوا ما اختلفوا فيه من ذلك، فيرجعوا فيه إلى اللّه والرسول في ما أفاض فيه القرآن من أساليب وقواعد للحوار من أجل الوصول إلى الحقيقة، ويبتعدوا عن الاستغراق في خلافاتهم من مواقع العقدة الطائفية المشبعة بالحقد والضغينة ومختلف عوامل الإثارة... فإنَّ السير على هذا الخطّ ينطلق من الاعتصام بحبل اللّه، الذي يجمع ولا يفرّق. وقد يبدو للبعض أنَّ مفهوم «الاعتصام بحبل اللّه» يفرض الالتقاء على المبادئ الأصيلة في الكتاب والسنة، فلا يشمل الحالات التي يشعر فيها كلّ فريق بأنَّ الفريق الآخر لا يصدُر عن الحقيقة في عقيدته وفي علمه، ما يجعل الالتقاء به على هذا الصعيد التقاءً مع الانحراف والضلال...
ولكنَّنا نحسب أنَّ هذه الفكرة غير دقيقة، لأنَّ المفهوم من «الاعتصام بحبل اللّه» هو اعتبار الكتاب أساساً للوحدة في المبادئ المتفق عليها، وفي أسلوب الوصول إلى الوفاق في المبادئ المختلف عليها، لأنَّ الرجوع إلى الكتاب يعني الالتزام بقواعده وتشريعاته في طبيعة الفكرة وفي أسلوب الوصول إليها. وإنَّنا نعتقد أنَّ السبب في ما وصل إليه المسلمون من تناحر واختلاف وتفرّق هو أنَّهم انطلقوا من موقع العقد الذاتية التي تتحكم بأعصابهم وانفعالاتهم، ولم ينطلقوا في مواجهة خلافاتهم من موقع الحوار الإسلامي على هدي القرآن وطريقه...
المقارنة الواعية بين الماضي والحاضر:
ثُمَّ تنطلق الآية في تعميق الفكرة في داخلهم من خلال ربط المبدأ بالتجربة الحيّة في حركة الواقع، وذلك بالمقارنة بين الحياة التي كانوا يحيونها، حيثُ كانت علاقاتهم خاضعةً للعوامل الذاتية المنطلقة من المصالح والأنانيات والنوازع الشريرة، التي يفقد الإنسان معها الحسّ العميق بالروابط الطاهرة التي تربطه بالآخرين، فتدفعه إلى رعايتهم والتفكير بهم والشعور بآلامهم ومشاكلهم والتعاون على مواجهة الواقع، وقد تؤدّي بالإنسان إلى أن يعيش روح العداوة والبغضاء تجاه إخوانه إذا اصطدمت مصالحه بمصالحهم أو مشاعره بمشاعرهم، ويتحرّك نحو التقاتل والتباغض...
وبين الحياة التي يعيشونها الآن، حيثُ بدأوا يشعرون بالرابطة الوثيقة التي تحكم علاقاتهم الروحيّة والاجتماعيّة من خلال العقيدة الواحدة والمصالح المشتركة والهدف الواحد والمسيرة الواحدة، فلم يعد الإنسان في ظلّ هذا الواقع فرداً مستقلاً يملك مصالح خاصة تتصل بأنانيته، بل تحوّل إلى جزءٍ من أمّة تتشابك قضاياها ومصالحها في قضية واحدة، وتعيش فيها المشاعر في وحدة شعورية رائعة. وهذا ما عبّرت عنه الآية بقوله تعالى: "فألَّف بين قلوبِكُم"، فإنَّ هذا التأليف بين القلوب لم ينطلق من حالةٍ طارئة ساذجة في حساب العواطف، ولم يخضع لمعجزة إلهية خارجة عن النواميس الطبيعية للعلاقات؛ بل انطلق من القاعدة الفكرية الروحية الجديدة المرتكزة على أساس فكر الإسلام وروحه، وتلك هي القاعدة الأساسية التي تبني للمجتمع شخصيته الاجتماعية المتكاملة على صعيد العلاقات العامّة والخاصّة. إنَّ الآية تدعوهم إلى الدخول في عملية المقارنة الواعية بين علاقات الماضي والحاضر، ليعرفوا النتائج الإيجابية والسلبية، ليعمّقوا الإيجابيات التي تفرضها العلاقات الجديدة، ويخففوا السلبيات المتحرّكة في حياتهم من خلال علاقات الماضي، ليكونوا على وعي كامل عميق لكلّ الأساليب التي يُراد منها إثارة النوازع والعصبيات القديمة من خلال الرواسب الكامنة في الأعماق، مما قد يُعيد للماضي في نفوسهم ضراوته وشدّته. فإنَّ وعي الأمّة للواقع من خلال المبادئ العامّة يمنح التحرّك في نطاق العلاقات قوّة كبيرةً وامتداداً عميقاً نحو الهدف الكبير الشامل...
وهذا ما أراد اللّه للأمّة أن تعيه جيّداً، لتفهم أنَّ الحالة الماضية كانت تضع المجتمع على حافّة الهاوية التي تشتعل وتتأجج بالنَّار التي تحرقهم في الدُّنيا والآخرة، وأنَّ المسيرة الجديدة في خطّة العقيدة الجديدة تعتبر عملية إنقاذ من ذلك كلّه، ليعيش النَّاس روحيّة الجنَّة في علاقاتهم ومصيرهم... وتختم الآية الحديث بالإشارة إلى أنَّ هذه هي آيات اللّه التي يريد منها أن يضع للأمّة العلامات الواضحة البيّنة على مفارق الطريق في مسيرة الحقّ أو الباطل، لتكون الهدى للنَّاس عندما تضيع الخطوط أمام الرمال المتحرّكة التي تخفي عن النَّاس معالم الطريق، ويريد للنَّاس أن يجدوا الهدى في خطواتهم العملية التي تحوّل الفكرة إلى موقف، وتركّز الموقف على أساس التَّقوى والإيمان. إنَّ الآية تعود إلى الحديث عن الاعتصام باللّه، ولكن بأسلوب آخر، وهو الاعتصام بحبل اللّه، لأنَّ القضية التي تعالجها هذه الآية ليست قضية المسلم الفرد في ما يلتزم به ويحقّق له سلامة المصير الفردي، كما هو الحال في الآية السابقة، ولكنَّها قضية المسلمين في حياتهم الاجتماعية، في وحدتهم وتضامنهم على الخطّ الواحد؛ ولهذا كان الحديث ينطلق في ما تتمثّل به هذه الوحدة التي يرتبط بها الجميع، أو يُراد للجميع أن يعيشوا روح الارتباط بها من ناحية عملية لا من ناحية فكريّة مجرّدة، لأنَّ الاقتصار على الجانب الفكري الذاتي لا يوحي بوحدة الحركة أو الموقف في كثير من الحالات، بل يبقى مجرّد حالة فكريّة توحي بالتعاطف والتلاقي في مجال الحوار والتأمّل، ولذلك كان لا بُدَّ من أن يتحوّل الفكر إلى ممارسة ومعاناةٍ وحركةٍ تعيش في ساحة الواقع، وتتدخل في المشاعر والعلاقات والانتماءات والحركة.. حتّى يشعر الجميع بأنَّ حياتهم تخضع للفكر في حالة اليقظة والنوم، والحرب والسلم، وفي الحياة الفرديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، فلا ينفصل جانب عن جانب، كما لا يبتعد إنسان عن آخر في مصالحه ومشاكله وآماله وآلامه، فليست هناك مصلحة قومية لبعض المسلمين تصطدم بمصلحة قومية أخرى، وليست هناك مشكلة لبعضهم تصطدم بمشكلة خاصّة للبعض الآخر، بل لا بُدَّ من أن تكون الخطّة متكاملة في النطاق الإسلامي الشامل الذي يرتفع عن الخصوصية إلى التعميم، ويُعالج الخصوصية بروح الشمول؛ ولهذا كان التعبير ب «حبل اللّه» الذي يمثِّل التجسيد الحيّ للخطّ الواحد الذي يتمسك به كلّ الذين يخافون من الوقوع في الهاوية. وقد أكّد الفكرة بكلمة [ولا تفرَّقوا] التي هي الوجه السلبي للتعبير عن الفكرة الإيجابية للوحدة. الآية وواقع المسلمين الممزّق: وربَّما نستوحي من هذه الآية في واقعنا الإسلامي، الفكرة التي تدفع المسلمين إلى دراسة الواقع الممزّق الذليل الذي يجعلهم فِرَقاً متباعدة متشاحنة خاضعة لقوى الكفر والطغيان في أوضاعها الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة...حتّى تحوّلوا إلى لعبةٍ بيد تلك القوى في صراعاتها مع بعضها البعض، وفي تخطيطاتها لأساليب السيطرة على ثرواتها ومواردها، ما يحوّل البلاد الإسلامية إلى سوق استهلاكية لمنتوجاتها. ومن هنا تأتي الدعوة إلى الوقوف ضدَّ أيّة نزعةٍ استقلالية في المجال السياسي أو الاقتصادي، بل في كلّ المجالات الأخرى... وقد يتّجه التخطيط إلى إثارة المشاكل الطائفية والسياسية بين المسلمين من أجل استنزاف طاقاتهم وتعطيل فعاليتهم بغية إبقاء السيطرة كاملةً عليهم من خلال حاجتهم إلى الاستعانة بهذه الجهة أو تلك في التغلب على بعضهم البعض... ربَّما يحتاج المسلمون إلى وقفة تأمّل أمام هذا الواقع كلّه، ليفكّروا في حبل اللّه الذي يجب أن يعتصموا به ويرجعوا إليه في هذه الفوضى الفكرية والسياسية التي يعيشون فيها، ليعرفوا مواطن الوفاق فيلتقوا عليها، ويكتشفوا عناصر الخلاف فيتفاهموا عليها، ويتفهموا طبيعة الساحة التي يدور حولها الصراع من خلال الظروف الموضوعية المحيطة بها، ونوعية القوى الطاغية الكافرة المتحرّكة فيها وعلاقتها بتفجير الواقع الإسلامي من الداخل ضدَّ المصالح الحقيقية للإسلام والمسلمين...
فقد يجد المسلمون في ذلك كلّه سبيلاً للقاء على أساس الاعتصام بحبل اللّه، وقد يقف الواعون منهم وقفة مقارنةٍ بين ماضي الإسلام وحاضره، ولكن بطريقة معكوسة، لأنَّ الآية تدفع إلى الإصرار على الإخلاص للواقع الحاضر على أساس دراسة تجربة الماضي، بينما يفرض علينا الواقع أن نتخلص من واقعنا السيئ على أساس التجربة التي عاشها الإسلام في الماضي... إنَّ الاعتصام بحبل اللّه يمثِّل القاعدة الصلبة التي يمكن للمسلمين أن يستندوا إليها من أجل توحيد المسيرة وتوحيد الهدف في نطاق توحيد الأمّة، وذلك في ظلّ التخطيط الواعي الذي يتجاوز السلبيات إلى الإيجابيات، ويقف مع السلبيات وقفة فكر لا وقفة عاطفة، ويعتبر أنَّ وضوح الرؤية لدى أيّة جهة لا يعني وضوحها لدى الآخرين، ما يستدعي مزيداً من الصبر والتحمّل في سبيل الوصول إلى وحدة الرؤية للأشياء وللمواقف في اتجاه وحدة الهدف الكبير، وذلك هو ما يبعدنا عن متاهات النظريات والتحليلات التي يثيرها الآخرون في أجواء غير إسلامية مما استحدثوه واستنتجوه من تجارب ذاتية، أو أهواء منحرفة... ففي القرآن الكثير الكثير مما نستطيع أن نتعلّمه ونعمل به، وفيه الكثير الكثير مما يمكن أن يحل لنا مشاكلنا الفكرية والعملية إذا أحسنّا النظرة والأسلوب في كيفية التعامل مع الأشياء من خلال الأجواء القرآنية الواقعية.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد أن أوصت الآية السابقة كلّ المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى ومهدت بذلك النفوس وهيأتها، جاءت «الآية الثانية» تدعوهم بصراحة إلى مسألة الاتحاد، والوقوف في وجه كلّ ممارسات التجزئة وإيجاد الفرقة...
إن النقطة الجديرة بالاهتمام في هذه الآية هو التعبير عن هذه الأُمور بحبل الله، فهو إشارة إلى حقيقة لطيفة وهامة، وهي أن الإنسان سيبقى في حضيض الجهل، والغفلة، وفي قاع الغرائز الجامحة إذا لم تتوفر له شروط الهداية، ولم يتهيأ له الهادي والمربي الصالح فلابدّ للخروج من هذا القاع، والارتفاع من هذا الحضيض من حبل متين يتمسك به ليخرجه من بئر المادية والجهل والغفلة، وينقذه من أسر الطبيعة، وهذا الحبل ليس إلاَّ حبل الله المتين، وهو الارتباط بالله عن طريق الأخذ بتعاليم القرآن الكريم والقادة الهداة الحقيقيين، التي ترتفع بالناس من حضيض الحضيض إلى أعلى الذرى في سماء التكامل المادي والمعنوي...