تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{سَنُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ بِمَآ أَشۡرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗاۖ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (151)

ثم بشرهم بأنه سَيُلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم ، بسبب كفرهم وشركهم ، مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنَّكال ، فقال : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } .

وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي : نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَة وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً{[5812]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ عن سليمان - يعني التيمي - عن سَيّار ، عن أبي أمامة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فَضَّلَني [ رَبِّي ]{[5813]} عَلَى الأنْبِيَاء - أو قال : عَلَى الأمَمِ - بأَرْبَعٍ " قال " أُرْسِلْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ كُلُّهَا وَلأمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأيْنَمَا أدْرَكَتْ{[5814]} رَجُلا مِنْ أُمَّتِي الصَّلاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ و{[5815]} طَهُوُرهُ ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَة شَهْرٍ يَقْذِفُهُ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِي وأحَل لِيَ{[5816]} الغنائِم " .

ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي ، عن سَيَّار القُرَشي الأموي مولاهم الدمشقي - سكن البصرة - عن أبي أمامة صُدَيّ بن عَجْلان ، رضي الله عنه ، به . وقال : حسن صحيح{[5817]} .

وقال سعيد بن منصور : أخبرنا ابن وَهْب ، أخبرني عمرو بن الحارث : أن أبا يونس حدثه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ عَلَى الْعَدُوِّ " .

ورواه{[5818]} مسلم من حديث ابن وهب{[5819]} .

وروى الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق عن أبي بُرْدَة ، عن أبيه{[5820]} أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُعْطِيتُ خَمْسًا : بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ وَالأسْوَدِ ، وَجعلَتْ لِيَ الأرْض طَهُورًا ومَسْجِدًا ، وأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِم وَلَمْ تَحِل لِمَنْ كَانَ قَبْلِي ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ{[5821]} شَهْرًا ، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ، وَلَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إلا وَقَدْ سَأَل شَفَاعَتَهُ ، وإنِّي اخْتَبَأتُ شَفَاعَتِي ، ثُمَّ جَعَلْتُهَا لِمَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا " .

تفرد به أحمد{[5822]} .

وروى العَوْفيّ ، عن ابن عباس في قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } قال : قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب ، فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفا ، وَقَدْ رَجَعَ ، وقَذَفَ الله فِي قَلْبِهِ الرُّعْبِ " . رواه ابن أبي حاتم .


[5812]:صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
[5813]:زيادة من جـ، ر، أ، و، والمسند.
[5814]:في و: "أدركه".
[5815]:في جـ ر: "مسجده وعنده طهوره".
[5816]:في جـ: "لنا".
[5817]:المسند (5/248) وسنن الترمذي برقم (1553).
[5818]:في جـ، ر: "رواه".
[5819]:صحيح مسلم برقم (523).
[5820]:في أ: "عن أبيه عن أبي موسى".
[5821]:في و: "بالرعب مسيرة شهر".
[5822]:المسند (4/416) وقال الهيثمي في المجمع (8/258): "رجاله رجال الصحيح".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{سَنُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ بِمَآ أَشۡرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗاۖ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (151)

وقوله تعالى : { سنلقي } استعارة ، إذ حقيقة الإلقاء إنما هي في الأجرام ، وهذا مثل قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات }{[3602]} ونحوه قول الفرزدق : [ الطويل ]

هما نفثا في فيّ من فَمَوَيْهِما . . . عَلى النَّابحِ الْعاوي أَشَدَّ رَجَامِ{[3603]}

وقرأ جمهور الناس «سنلقي » بنون العظمة ، وقرأ أيوب السختياني «سيلقي » بالياء على معنى هو ، وقرأ ابن عامر والكسائي «الرعُب » بضم العين حيث وقع ، وقرأ الباقون «الرعْب » بسكون العين ، وهذا كقولهم : عُنُق وعنْق وكلاهما حسن فصيح ، وسبب هذه الآية : أنه لما ارتحل أبو سفيان بالكفار بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال : انظر القوم ، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وركبوا الإبل فهم متشمرون إلى مكة ، وإن كانوا على الخيل فهم عامدون{[3604]} إلى المدينة ، فمضى علي فرآهم قد جنبوا الخيل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسر وسر المسلمون ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فتجهز واتبع المشركين يريهم الجلد ، فبلغ حمراء الأسد وأن أبا سفيان قال له كفار قريش : أحين قتلناهم وهزمناهم ولم يبق إلا الفل والطريد{[3605]} ننصرف عنهم ؟ ارجع بنا إليهم حتى نستأصلهم فعزموا على ذلك ، وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي{[3606]} قد جاء إلى رسول الله عليه السلام وهو على كفره ، إلا أن خزاعة كلها كانت تميل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له ، والله يا محمد لقد ساءنا ما أصابك ، ولوددنا أنك لم ترزأ في أصحابك ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بما عزمت عليه قريش من الانصراف ، اشتد ذلك عليهم ، فسخر الله ذلك الرجل معبد بن أبي معبد ، وألقى بسببه الرعب في قلوب الكفار ، وذلك أنه لما سمع الخبر ، ركب حتى لحق بأبي سفيان بالروحاء ، وقريش قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أرى مثله قط ، يتحرقون عليكم ، قد اجتمع إليه من كان تخلف عنه ، وندموا على ما صنعوا ، قال : ويلك ما تقول ؟ قال والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ، قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم ، قال : فإني أنهاك عن ذلك ، والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه شعراً قال وما قلت ؟ قال قلت : [ البسيط ]

كادت تُهَدُّ مِنَ الأَصْواتِ رَاحلتي . . . إذ سالتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأَبابيلِ

ترْدِي بِأُسْدٍ كِرامٍ لا تنابلةٍ . . . عندَ اللقاءِ ولا ميلٍ معازيلِ

فَظلْتُ عَدْواً أَظُنُّ الأَرْضَ مائلة . . . لمّا سَمَوْا برئيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ{[3607]}

إلى آخر الشعر ، فوقع الرعب في قلوب الكفار ، وقال صفوان بن أمية : لا ترجعوا فإني أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذي كان ، فنزلت هذه الآية في هذا الإلقاء{[3608]} ، وهي بعد متناولة كل كافر ، ويجري معها قول النبي عليه السلام : نصرت بالرعب مسيرة شهر{[3609]} ، ويظهر ان هذه الفضيلة إنما أعلم عليه السلام بها بعد هذه الأحوال كلها حين امتد ظل الإسلام ، قال بعض أهل العلم : إنه لما أمر الله المؤمن بالصبر ، ووعده النصر ، وأخبره أن الرعب ملقى في قلوب الكفار ، نقص الرعب من كل كافر جزءاً مع زيادة شجاعة المؤمن ، إذ قد وعد النصر فلذلك كلف المؤمن الوقوف للكافرين ، وقوله تعالى : { بما أشركوا } هذه باء السبب ، والمعنى : أن المشرك بالله نفسه مقسمة في الدنيا وليس له بالله تعالى ثقة ، فهو يكره الموت ويستشعر الرعب منه ، و «السلطان » ، الحجة والبرهان{[3610]} ، ثم أخبر تعالى بعاقبة الكفار في الآخرة ، و «المأوى » : مفعل من أويت إلى المكان إذا دخلته وسكنت فيه ، و «المثوى » ، مفعل من : ثويت ، والتقدير : وبئس مثوى الظالمين هي .


[3602]:- من الآية (4) من سورة النور.
[3603]:- البيت في الديوان، وروايته هي: هما تفلا في فيّ من فمويهما على النابح العاوي أشد رجام ونفث نفثا إذا بزق من فيه ولا ريق معه، وقوله: أشد رجام، أي: أشد نفث.
[3604]:-عامدون: قاصدون.
[3605]:- الفل: المنهزمون، والطريد: الذي لا يستشعر أمنا.
[3606]:- معبد الخزاعي ذكره أبو عمر بن عبد البر فقال: هو الذي رد أبا سفيان يوم أحد عن الرجوع إلى المدينة. قال ابن حجر العسقلاني: قلت: وزعم بعضهم أن معبدا هذا هو ولد أم معبد الخزاعية التي مر النبي صلى الله عليه وسلم بها في الهجرة، والذي يظهر لي أنه غيره. "الإصابة 3/442"
[3607]:- الهد: الهدم الشديد. الجرد: جمع أجرد، وهو الفرس الرقيق الشعر. الأبابيل جمع إبالة: القطعة من الخيل والإبل. تردي: تمشي مشيا فيه نوع من التبختر. التنابلة: القصار، واحدهم تنبال. ميل: جمع أميل، معازيل: جمع معزال، الذي ليس معه سلاح. وبقية القطعة الشعرية ورد في سيرة ابن هشام.
[3608]:- يريد إلقاء الرعب في قلوب الكفار.
[3609]:- أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن جابر وهو صحيح (الجامع الصغير 1/152).
[3610]:- قال أبو حيان: [ما لم ينزل به سلطان]، تسليط النفي على الإنزال والمقصود نفي السلطان، أي آلهة لا سلطان في إشراكها، فينزل نحو قوله: (على لاحب لا يهتدي بمناره)؛ أي لا منار له.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{سَنُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ بِمَآ أَشۡرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗاۖ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (151)

رجوع إلى تسلية المؤمنين ، وتطْمينهم ، ووعدهم بالنَّصر على العدوّ . والإلقاءُ حقيقته رمي شيء على الأرض { فألقوا حبالهم وعصيّهم } [ الشعراء : 44 ] ، أو في الماء { فألقِيه في اليمّ } [ القصص : 7 ] ويطلق على الإفضاء بالكلام { يُلقُون السمع } [ الشعراء : 223 ] وعلى حصول الشيء في النفس كأنّ ملقياً ألقاه أي من غير سبق تهيّؤ { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } [ المائدة : 64 ] وهو هنا مجاز في الجعل والتَّكوين كقوله : { وقذف في قلوبهم الرعب } [ الأحزاب : 26 ] .

والرعب : الفزع من شدّة خوف ، وفيه لغتان الرعْب بسكون العين والرعُب بضم العين وقرأه الجمهور بسكون العين وقرأه ابن عامر ، والكسائي بضم العين .

والبَاء في قوله : { بما أشركوا بالله } للعِوض وتسمّى باء المقابلة مثل قولهم : هذه بتلك ، وقوله تعالى : { جزاء بما كسبا } [ المائدة : 38 ] ، وهذا جزاء دنيوي رتّبهُ الله تعالى على الإشراك به ، ومن حكمته تعالى أن رتّب على الأمور الخبيثة آثاراً خبيثة ، فإنّ الشرك لمّا كان اعتقاد تأثير من لا تأثير له ، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل ، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرِب النَّفس متحيّراً في العاقبة في تغلّب بعض الآلهة على بعض ، فيكون لكلّ قوم صَنم هم أخصّ به ، وهم في تلك الحالة يعتقدون أنّ لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة . فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة . كمَا لا يزال أتباعهم كذلك ، والَّذين حالهم كما وصفنا لا يستقرّ لهم قرار في الثِّقة بالنَّصر في حروبهم ، إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها ، وعليه فقوله : { ما لم ينزل به سلطاناً } صلة أجريت على المشرك به ليس القصد بها تعريف الشركاء ، ولكن قصد بها الإيماء إلى أنَّه من أسبابِ إلقاء الرعب في قلوبهم ، إذ هم على غير يَقين فيما أشركوا واعتقدوا ، فقلوبهم وَجِلة متزلزلة ، إذ قد علم كلّ أحد أن الشركاء يَستحيل أن ينزل بهم سلطان . فإن قلتَ : ما ذكرتَه يقتضي أنّ الشرك سبب في إلقاء الرعب في قلوب أهله ، فيتعيّن أن يكون الرعب نازلاً في قلوبهم من قبل هذه الوقعة ، والله يقول { سنلقي } » أي في المستقبل ، قلت : هو كذلك إلاّ أنّ هذه الصّفات تستكنّ في النفوس حتَّى يدعو داعي ظهورها ، فالرعب والشجاعة صفتان لا تظهران إلا عند القتال ، وتقويان وتضعفان ، فالشجاع تزيد شجاعته بتكرّر الانتصار ، وقد ينزوي قليلاً إذا انهزم ثُمّ تعود له صفته سرعَى . كما وصفه عمرو بن الإطْنابَةِ في قوله :

وقَوْلي كُلَّمَا جَشَأتْ وجَاشَتْ *** مَكَانَكِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحِي

وقول الحُصَيْننِ بن الحُمَام :

تَأخَّرْتُ أسْتَبْقِي الحياة فلم أجدْ *** لِنَفْسِي حَيَاة مثلَ أنْ أتَقدّمَا

وكذلك الرعب والجبن قد يضعف عند حصول بارقة انتصار ، فالمشركون لما انهزموا بادِىء الأمر يومَ أُحُد ، فُلَّت عزيمتهم ، ثُمّ لمّا ابتلَى الله المؤمنين بالهزيمة راجعَهم شيء من الشجاعة والازدهاء ، ولكنّهم بعد انصرافِهم عَاوَدَتْهم صفاتهم ، ( وتأبَى الطِبَاعُ عَلى الناقل ) .

فقوله : { سنُلقي } أي إلقاءَ إعادةِ الصفة إلى النُّفوس ، ولك أن تجعل السين فيه لمجرّد التَّأكيد أي ألقينا ونُلقي ، ويندفع الإشكال .

وكثير من المفسِّرين ذكروا أنّ هذا الرعب كانت له مظاهر : منها أنّ المشركين لمَّا انتصروا على المسلمين كان في مكنتهم أن يوغلوا في استيصالهم إلاّ أنّ الرعب صدّهم عن ذلك ، لأنَّهم خافوا أن تعود عليهم الهزيمة ، وتدور عليهم الدائرة ، ومنها أنَّهم لمَّا انصرفوا قاصدين الرجوع إلى مكَّة عنّ لهم في الطريق ندم ، وقالوا : لو رجعنا فاقتفينا آثار محمد وأصحابه ، فإنّا قتلناهم ولم يبق إلاّ الفَلّ والطَّريد ، فلْنرجع إليهم حتَّى نستأصلهم ، وبلغ ذلك النَّبيء صلى الله عليه وسلم فندب المسلمين إلى لقائهم ، فانتدبوا ، وكانوا في غاية الضعف ومثقّلين بالجراحة ، حتَّى قيل : إنّ الواحد منهم كان يحمل الآخر ثمّ ينزل المحمول فيحمل الَّذي كان حامله ، فقيّض الله مَعْبَد بنَ أبي مَعْبَد الخُزَاعي وهو كافر فجاء إلى رسول الله فقال : « إنّ خزاعة قد ساءها ما أصابك ولوَدِدْنا أنَّك لم تُرزأ في أصحابك » ثُمّ لحق معبد بقريش فأدركهم بالرّوْحَاء قد أجمعوا الرجعة إلى قتال المسلمين فقال له أبو سفيان : ما وراءَك يا معبد ، قال : محمد وأصحابه قد خرجوا يطلبونكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرّقون عليكم ، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه ، فقال : ويلك ، ما تقول ؟ قال : ما أرى أنَّك ترتحلُ حتَّى ترى نواصي الخيل ولقد حملني ما رأيت منه على أن قلتُ فيه :

كَادَت تُهَدّ من الأصوات راحلتي *** إذْ سالت الأرض بالجُرْد الأبابيلِ

تَرْدِي بأسْدٍ كراممٍ لا تَنابِلَـــةٍ *** عند اللِّقاء ولا مِيـــلٍ مَعَازِيلِ

فَظَلْتُ أعْدُو وأظُنّ الأرض مائلة *** لمّا سَمَوا برَئيس غير مخــذولِ

فوقع الرّعب في قلوب المشركين وقال صفوان بن أميَّة : لا ترجعوا فإنِّي أرى أنَّه سيكون للقوم قتال غير الَّذي كان .

وقوله : { ما لم ينزل به سلطانا } أي ما لاسلطان له . والسلطان : الحجّة والبرهان لأنَّه يتسلّط على النّفس ، ونُفي تنزيله وأريد نَفْيُ وجوده ، لأنّه لو كان لنَزْل أي لأوْحى الله به إلى النَّاس ، لأنّ الله لم يكتم النَّاسَ الإرشادَ إلى ما يجب عليهم من اعتقاد على ألْسنةِ الرسل ، فالتنزيل إمَّا بمعنى الوحي ، وإمَّا بمعنى نصب الأدلَّة عليهم كقولهم : « نزلت الحكمة على ألْسنة العرب وعقول الفرس وأيدي الصّين » ولمَّا كان الحقّ لا يعدو هذين الحالين : لأنَّه إمَّا أن يعلم بالوحي ، أو بالأمارات ، كان نفي تنزيل السلطان على الإشراك كناية عن نفي السلطان نفسه ، كقول الشاعر الّذي لا يعرف اسمه :

لا تُفْزع الأرْنَبَ أهوالُهَا *** ولا تَرَى الضبّ بها يَنْجَحِرْ

وقوله : { ومأواهم النار } ذِكر عقابهم في الآخرة . والمأوى مَفعل من أوى إلى كذا إذا ذهب إليه ، والمَثْوَى مَفعل من ثَوَى إذا أقام ؛ فالنَّار مصيرهم ومقرّهم والمرادُ المشركون .