الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{سَنُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ بِمَآ أَشۡرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗاۖ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (151)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب}، فانهزموا إلى مكة من غير شيء، {بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا}، يعني ما لم ينزل به كتابا فيه حجة لهم بالشرك، {ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين} يعني مأوى المشركين النار.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بذلك جلّ ثناؤه: سيلقى الله -أيها المؤمنون- في قلوب الذين كفروا بربهم، وجحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ممن حاربكم بأُحد الرعب، وهو الجزع والهلع بما أشركوا بالله، يعني بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام، وطاعتهم الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة، وهي السلطان التي أخبر عزّ وجلّ أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم، وهذا وعد من الله جلّ ثناؤه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائهم، والفلج عليهم ما استقاموا على عهده، وتمسكوا بطاعته، ثم أخبرهم ما هو فاعل بأعدائهم بعد مصيرهم إليه، فقال جلّ ثناؤه: {وَمأْوَاهُمُ النّارُ} يعني: ومرجعهم الذي يرجعون إليه يوم القيامة النار {وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِمِينَ} يقول: وبئس مقام الظالمين الذين ظلموا أنفسهم باكتسابهم ما أوجب لها عقاب الله النار...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أُحد متوجهين نحو مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنّهم ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، قتلناهم حتى لم يبق منهم إلاّ الشريد وتركناهم رجعوا. فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عمّا همّوا به...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

إن الله سبحانه خصّ نبيّنا -صلى الله عليه وسلم- بإلقاءِ الرعبِ منه في قلوب أعدائه، قال عليه السلام:"نُصِرْتُ بالرعب" فكذلك أجرى هذه السُّنّة مع أوليائه؛ يطرح الهيبة منهم في القلوب، فلا يكاد يكون محق إلا ومنه -على المبطلين وأصحاب الدعوى والتمويه- هيبةٌ في القلوب وقهرٌ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره، فإنه تعالى ذكر وجوها كثيرة في الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار، ومن جملتها ما ذكر في هذه الآية أنه تعالى يلقي الخوف في قلوب الكفار، ولا شك أن ذلك مما يوجب استيلاء المسلمين عليهم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اختلفوا في أن هذا الوعد هل هو مختص بيوم أحد، أو هو عام في جميع الأوقات؟ قال كثير من المفسرين: إنه مختص بهذا اليوم، وذلك لأن جميع الآيات المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة، ثم القائلون بهذا القول ذكروا في كيفية إلقاء الرعب في قلوب المشركين في هذا اليوم وجهين: الأول: أن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم، فتركوهم وفروا منهم من غير سبب، حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل، وقال: أين ابن أبي كبشة، وأين ابن أبي قحافة، وأين ابن الخطاب، فأجابه عمر، ودارت بينهما كلمات، وما تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل والذهاب إليهم، والثاني: أن الكفار لما ذهبوا إلى مكة، فلما كانوا في بعض الطريق قالوا: ما صنعنا شيئا، قتلنا الأكثرين منهم، ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم. والقول الثاني: أن هذا الوعد غير مختص بيوم أحد، بل هو عام. قال القفال رحمه الله: كأنه قيل إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك في قلوب الكافرين حتى يقهر الكفار، ويظهر دينكم على سائر الأديان. وقد فعل الله ذلك حتى صار دين الإسلام قاهرا لجميع الأديان والملل...

الرعب: الخوف الذي يحصل في القلب، وأصل الرعب الملء، يقال سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار، وإنما سمي الفزع رعبا لأنه يملأ القلب خوفا...

[و] ظاهر قوله: {سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب} يقتضي وقوع الرعب في جميع الكفار، فذهب بعض العلماء إلى إجراء هذا العموم على ظاهره، لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه ضرب من الرعب من المسلمين، إما في الحرب، وإما عند المحاجة. وقوله تعالى: {سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب} لا يقتضي وقوع جميع أنواع الرعب في قلوب الكفار، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوه، وذهب جمع من المفسرين إلى أنه مخصوص بأولئك الكفار. أما قوله: {بما أشركوا بالله} فاعلم أن «ما» مصدرية، والمعنى: بسبب إشراكهم بالله. واعلم أن تقدير هذا بالوجه المعقول هو أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار كما قال: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} ومن اعتقد أن لله شريكا لم يحصل له الاضطرار، لأنه يقول: إن كان هذا المعبود لا ينصرني، فذاك الآخر ينصرني، وإن لم يحصل في قلبه الاضطرار لم تحصل الإجابة ولا النصرة، وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعب والخوف في قلبه، فثبت أن الإشراك بالله يوجب الرعب... ثم قال تعالى: {ومأواهم النار}. واعلم أنه تعالى بين أن أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا هو وقوع الخوف في قلوبهم، وبين أحوالهم في الآخرة، وهي أن مأواهم ومسكنهم النار. ثم قال: {وبئس مثوى الظالمين} المثوى: المكان الذي يكون مقر الإنسان ومأواه، من قولهم: ثوى يثوي ثويا، وجمع المثوى مثاوي.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} أي هؤلاء الكفار، وإنْ كانوا ظاهرين عليكم يوم أحد فإنا نخذلهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وأتى بالسين القريبة الاستقبال، وكذا وقع. ألقى الله في قلوبهم الرّعب يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب من المسلمين، ولهم إذ ذاك القوة والغلبة... {ومأواهم النار} أخبر تعالى بأن مصيرهم ومرجعهم إلى النار فهم في الدنيا مرعوبون وفي الآخرة معذبون، بسبب إشراكهم. فهو جالب لهم الشر في الدنيا والآخرة. {وبئس مثوى الظالمين} بالغ في ذم مثواهم والمخصوص بالذم محذوف، أي: وبئس مثوى الظالمين النار. وجعل النار مأواهم ومثواهم. وبدأ بالمأوى وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ولا يلزم منه الثواء، لأن الثواء دال على الإقامة، فجعلها مأوى ومثوى كما قال تعالى: {والنار مثوى لهم} ونبه على الوصف الذي استحقوا به النار وهو الظلم، ومجاوزة الحد إذ أشركوا بالله غيره. كما قال: {إن الشرك لظلم عظيم}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم قرر ذلك بقوله محققاً للوعد: {سنلقي} أي بعظمتنا {في قلوب الذين كفروا الرعب} أي المقتضي لامتثال ما أمر به من الجرأة عليهم وعدم الوهن في أمرهم، كما افتتح القصة بالإيماء إلى ذلك بالأمر بالسير في الأرض والنظر في عاقبة المكذبين، ثم بين سبب ذلك فقال: {بما أشركوا بالله} أي ليعلموا قطعاً أنه لا ولي لعدوه لأنه لا كفوء له، وبين بقوله: {ما لم ينزل} أي في وقت من الأوقات {به سلطاناً} أنه لا حجة لهم في الإشراك، وما لم ينزل به سلطاناً فلا سلطان له، ومادة سلط ترجع إلى القوة، ولما كان التقدير: فعليهم الذل في الدنيا لاتباعهم ما لا قوة به، عطف عليه: {ومأواهم النار} ثم هوّل أمرها بقوله: {وبئس مثوى الظالمين} أي هي، وأظهر في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

المتبادر لنا أن الآية تعليل أو تصوير لكونه تعالى خير الناصرين للمؤمنين الموحدين مبينة لبعض وجوهه تبيينا يقبح لهم الشرك ويزيدهم حبا في الإيمان، وبيانه أنه سيحكم في أعدائهم المشركين سنته العادلة، وهي أنه يلقي في قلوبهم الرعب وهو: شدة الخوف التي تملأ القلب بسبب إشراكهم بالله أصناما ومعبودات لم ينزل بها سلطانا، أي لم يقم برهانا من العقل ولا من الوحي على ما زعموا من ألوهيتها وكونها واسطة بين الله وبين خلقه، وإنما قلدوا في اتخاذها واعتقادها آباءهم الذين اتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، ومن كان كذلك غير مطمئن في دينه ولا متبع للدليل في اعتقاده فهو دائما عرضة لاضطراب القلب واتباع خطرات الوهم، يعد الوساوس أسبابا ويرى الهواجس مؤثرات وعللا، قياسا على اتخاذه بعض المخلوقات أولياء، وجعلهم وسائط عند الله وشفعاء، واعتياده بذلك أن يرجو ما لا يرجى منه خير ويخاف ما لا يخاف منه ضير. فالإشراك قد يكون سببا طبيعيا لوقوع الرعب في القلب وما كان كذلك فإن الله يسنده إلى نفسه وإن لم يذكر السبب لأنه هو واضع الأسباب والسنن، ولكنه قد صرح به هنا ليكون برهانا على بطلان الشرك وسوء أثره، وهذا الوجه المختار في تفسير الآية يوافق قول من جعل الوعيد فيها عاما وليس كل الكفر يثير الرعب بطبيعته. وإنما تلك طبيعة الشرك. وهو اعتقاد أن لبعض المخلوقات تأثيرا غيبيا وراء السنن الإلهية والأسباب...

قال الأستاذ الإمام: في الآية وجهان:

(أحدهما) أن إلقاء الرعب خاص بتلك الواقعة، ولو كان عاما لشمل غزوة حنين. ولم يكن الكفار فيها مرعوبين. بل كانوا مستميتين، وكذلك نرى أن كثيرا من الكافرين قد حاربوا ولم يصبهم الرعب وهذا الوجه هو الذي عليه مفسرنا (الجلال) وكثير من المفسرين.

(والوجه الثاني) أن الآية بيان لسنة إلهية عامة وهو: الحق وبيانه يتوقف على فهم المعنى المراد من لفظ المؤمنين "ولفظ "الكافرين "وهو ما كان عليه المؤمنون والكافرون في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات. فأما أولئك المؤمنون فهم الذين كانوا في مرتبة من اليقين والإذعان قد صدقها العمل الذي كان منه بذل الأنفس والأموال في سبيل الإيمان الذين عاتبهم الله ووبخهم على تلك الهفوة التي وقعت من بعضهم بما تقدم وما يأتي في هذا السياق من الآيات. وأما أولئك الكافرون فهم الذين دعوا إلى الإيمان، وأقيم لهم على الدعوة الدليل والبرهان، فجاحدوا وعاندوا وكابروا الحق، وآثروا مقارعة الداعي ومن استجاب له بالسيف، وقعدوا له ولهم كل مرصد. فإذا نظرنا في شرك هؤلاء الكافرين وفي حالهم مع أولئك المؤمنين، نجد أن شأنهم معهم كشأن من يرى نور الحق مع خصمه فيحمله البغي والعدوان على مجاحدته من غير حجة ولا دليل يرتاب فيما هو فيه ويتزلزل، فإذا شاهد الذين دعوه ثابتين مطمئنين يعظم ارتيابه ويهاب خصمه حتى يمتلأ قلبه رعبا منهم. هذا هو شأن الكافرين المعاندين مع المؤمنين الصادقين. كأنه تعالى يقول: هذه هي الطبيعة في المشركين إذا قاوموا المؤمنين فلا تخافوهم ولا تبالوا بقول من يدعوكم إلى موالاتهم والالتجاء إليهم. قال: وبهذا يندفع قول من يقول: ما بالنا نجد الرعب كثيرا ما يقع في قلوب المسلمين ولا يقع في قلوب الكافرين. فإن الذين يسمون أنفسهم مسلمين قد يكونون على غير ما كان عليه أولئك الذين خوطبوا بهذا الوعد من قوة اليقين والإذعان والثبات والصبر وبذل النفس والمال في سبيل الله وتمني الموت في الدفاع عن الحق. فمعنى المؤمنين غير متحقق فيهم وإنما رعب المشركين مرتبط بإيمان المؤمنين وما يكون له من الآثار. فحال المسلمين اليوم لا يقوم حجة على القرآن لأن أكثرهم قد انصرفوا عن الاجتماع على ما جاء به الإسلام من الحق وما كان عليه سلفهم من الإيمان والصفات والأعمال، فالقرآن باق على وعده ولكن هات لنا المؤمنين الذين ينطبق إيمانهم على آياته ولك من إنجاز وعده في هذه الآية وغيرها ما تشاء: وتلا قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} [النور: 55] الآية. قال: وعلى هذا يكون الإشراك سببا للرعب كسائر الأسباب العادية التي ربط الله بها المسببات كالشرب للري والأكل للشبع. فمن وصل إليه الحق تزلزل الباطل في نفسه لا محالة. أقول: ومن تمام التشبيه أن تكون بعض الوقائع التي لا يقع فيها الرعب في قلوب المشركين. كالوقائع التي يشرب فيها المرء ولا يروى لعارض مرضي فسنن الاجتماع كسنن الأجسام الطبيعية لها عوارض وشروط وموانع...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والوعد من الله الجليل القادر القاهر، بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، كفيل بنهاية المعركة، وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه.. وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان. فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم، ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم. ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين. حقيقة الشعور بولاية الله وحده، والثقة المطلقة بهذه الولاية، والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون، وأن الله غالب على أمره، وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه! والتعامل مع وعد الله هذا، مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه، فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم! إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح. لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة. إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها، لأن الله لم يمنحها سلطانا. والتعبير (ما لم ينزل به سلطانا) ذو معنى عميق، وهو يصادفنا في القرآن كثيرا. مرة توصف به الآلهة المدعاة، ومرة توصف به العقائد الزائفة.. وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة: إن أية فكرة، أو عقيدة، أو شخصية، أو منظمة.. إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر. هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من "الحق "أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون، ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون. وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود. وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية، مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش! والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى -في صور شتى- ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله -سبحانه- شيئا ما من خصائص الألوهية ومظاهرها. وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها؛ وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم؛ وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم.. ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه، وواحدة منها! فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون؟ إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد؛ وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك؛ ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع؛ ولتعبده وحده حق عبادته بلا انداد..

فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل، فهو زائف باطل، مناقض للحق الكامن في بنية الكون. ومن ثم فهو واه هزيل، لا يحمل قوة ولا سلطانا، ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة؛ بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة! وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا؛ من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء، وهم أبدا خوارون ضعفاء؛ وهم أبدا في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

البَاء في قوله: {بما أشركوا بالله} للعِوض وتسمّى باء المقابلة مثل قولهم: هذه بتلك، وقوله تعالى: {جزاء بما كسبا} [المائدة: 38]، وهذا جزاء دنيوي رتّبهُ الله تعالى على الإشراك به، ومن حكمته تعالى أن رتّب على الأمور الخبيثة آثاراً خبيثة، فإنّ الشرك لمّا كان اعتقاد تأثير من لا تأثير له، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرِب النَّفس متحيّراً في العاقبة في تغلّب بعض الآلهة على بعض، فيكون لكلّ قوم صَنم هم أخصّ به، وهم في تلك الحالة يعتقدون أنّ لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة. فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة. كمَا لا يزال أتباعهم كذلك، والَّذين حالهم كما وصفنا لا يستقرّ لهم قرار في الثِّقة بالنَّصر في حروبهم، إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها، وعليه فقوله: {ما لم ينزل به سلطاناً} صلة أجريت على المشرك به ليس القصد بها تعريف الشركاء، ولكن قصد بها الإيماء إلى أنَّه من أسبابِ إلقاء الرعب في قلوبهم، إذ هم على غير يَقين فيما أشركوا واعتقدوا، فقلوبهم وَجِلة متزلزلة، إذ قد علم كلّ أحد أن الشركاء يَستحيل أن ينزل بهم سلطان. فإن قلتَ: ما ذكرتَه يقتضي أنّ الشرك سبب في إلقاء الرعب في قلوب أهله، فيتعيّن أن يكون الرعب نازلاً في قلوبهم من قبل هذه الوقعة، والله يقول {سنلقي}» أي في المستقبل، قلت: هو كذلك إلاّ أنّ هذه الصّفات تستكنّ في النفوس حتَّى يدعو داعي ظهورها، فالرعب والشجاعة صفتان لا تظهران إلا عند القتال، وتقويان وتضعفان، فالشجاع تزيد شجاعته بتكرّر الانتصار، وقد ينزوي قليلاً إذا انهزم ثُمّ تعود له صفته سرعَى... وكذلك الرعب والجبن قد يضعف عند حصول بارقة انتصار، فالمشركون لما انهزموا بادِئ الأمر يومَ أُحُد، فُلَّت عزيمتهم، ثُمّ لمّا ابتلَى الله المؤمنين بالهزيمة راجعَهم شيء من الشجاعة والازدهاء، ولكنّهم بعد انصرافِهم عَاوَدَتْهم صفاتهم، (وتأبَى الطِبَاعُ عَلى الناقل). فقوله: {سنُلقي} أي إلقاءَ إعادةِ الصفة إلى النُّفوس، ولك أن تجعل السين فيه لمجرّد التَّأكيد أي ألقينا ونُلقي، ويندفع الإشكال...

وقوله: {ما لم ينزل به سلطانا} أي ما لا سلطان له. والسلطان: الحجّة والبرهان لأنَّه يتسلّط على النّفس، ونُفي تنزيله وأريد نَفْيُ وجوده، لأنّه لو كان لنَزْل أي لأوْحى الله به إلى النَّاس، لأنّ الله لم يكتم النَّاسَ الإرشادَ إلى ما يجب عليهم من اعتقاد على ألْسنةِ الرسل، فالتنزيل إمَّا بمعنى الوحي، وإمَّا بمعنى نصب الأدلَّة عليهم... ولمَّا كان الحقّ لا يعدو هذين الحالين: لأنَّه إمَّا أن يعلم بالوحي، أو بالأمارات، كان نفي تنزيل السلطان على الإشراك كناية عن نفي السلطان نفسه...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

والسببية التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله: {بما أشركوا بالله} لها توجيهان: أحدهما:ان الله تعالى يلقى الرعب في قلوبهم لنهم عاندوا الله سبحانه، وحادّوه، وأشركوا معه في العبادة، ولنهم ينشرون بهذا التفكير الفاسد الشر والفساد في الأرض، والله تعالى لا يحب الفساد، وهو ينصر الخير على الشر، والصلاح على الفساد، فالسببية هي إرادة الله تعالى التي بها قوام كل معوج وصلاح كل فاسد. وثانيهما: ان السبب في إلقاء الرعب من حالهم هم؛ ذلك لنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر، ولا تقوم عندهم حجة ولا شبه حجة على صلاحية ما يعبدون للعبادة، ويكون الوهم هو الذي سيطر، والهوى هو الذي تحكم، ومن تتحكم فيه أهواؤه وأوهامه يكون مضطرب النفس مزلزل القلب تزعجه الكوارث، ويضطرب عند نول أي حادث، فكان الشرك وتحكمه في النفس هو السبب في الرعب والخوف والفزع؛ إذ هم يخافون من غير مخوف، ويفزعون في غير مفزع...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وكلمة {سَنُلْقِي} مأخوذة من "الإلقاء "وهو لا يكون إلا لمادة وعين... فالإلقاء أمر مادي، كأن الله يريد أن يجعل المعنى وهو الرعب شائعا، فقال: أنا سأجمع الرعب وأضعه في القلب، ويكون عمله ماديًّا. فإذا ما استقر الرعب في القلب جاء الخَور، وإذا سكن الخور القلب نضح على جميع الجوارح تخاذلا، فيقول: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} فكأنه مثل لنا الرعب، والرعب أمر معنوي وهو التخوف من كل شيء، فأوضح: بأنه سيأتيهم بالرعب ويلقيه في القلب، فيبقى به ليصنع الخور والخذلان...

{بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} والسلطان هو القوة والحجة والبرهان مأخوذة من مادة "السين واللام والطاء" ونقول: فلان تسلط على فلان، أي أرغمه بقدرته عليه... والمؤمنون دائما ذوو سلطان من الله؛ لأنهم إن انتصروا ماديا فذلك سلطان القهر، وإن انهزموا ماديا فعندهم سلطان الحق والدليل... والفرق بين القوة القاهرة وبين سلطان الدليل هو أن القوة القاهرة تجعلك تفعل وأنت مرغم غير راض عن الفعل. أما سلطان الدليل فيقنعك بأن تفعل؛ فتكون قد فعلت برضاك، فمرة يأتي السلطان بمعنى: قوة تقهرك على أن تفعل الفعل وأنت مرغم...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ثمّ إنه سبحانه يشير إلى نموذج من نماذج التأييد الإلهي للمسلمين في أحرج الظروف، وأحلك المراحل إذ يقول: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب).

ففي هذا المقطع من الآية يشير إلى نجاة المسلمين بعد معركة أُحد، وخلاصهم بأعجوبة، وهو بذلك كما أسلفنا يشير إلى واحد من موارد حماية الله للمسلمين وغضبه على الكفّار، ويطمئن المسلمين إلى المستقبل ويزيد من ثقتهم بأنفسهم، ويؤمّلهم في التأييدات الإلهية القادمة.

فالوثنيون المكيون كما سبق أن قلنا في قصة معركة أُحد مع أنهم أحرزوا في تلك المعركة انتصارا ملفتاً للنظر، واستطاعوا أن يبددوا الجيش الإسلامي ولو ظاهراً، رأوا أن يعودوا إلى ساحة المعركة، ويأتوا على البقية الباقية من القوّة الإسلامية، بل ولم يترددوا مطلقاً في إغارة على المدينة المنورة، والقضاء على شخص النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان قد بلغهم عدم صحة الخبر بمقتله في تلك المعركة.

إلاّ أن الله سبحانه قد ألقى في قلوبهم رعباً عجيباً، وخوفاً بالغاً صرفهم عن نيتهم تلك.

على أن هذا الخوف الذي لم يكن له ما يبرره أبداً سوى أنه من خواص الكفر والوثنية والاعتقاد بالخرافة قد شمل وجودهم كلّه حتّى أنهم كما نقرأ ذلك في الأحاديث كانوا عند عودتهم من «أُحد» واقترابهم من مكة أشبه ما يكونون بجيش منهزم مندحر، رغم ما قد حققوه من انتصار شبه ساحق.

وهذا هو ما تلخصه الآية إذ تقول: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) أي أننا كما ألقينا الرعب في قلوب الكفّار في أعقاب معركة «أُحد» ورأيتم نموذجاً منه بأم أعينكم، سنلقي مثله في قلوب الذين كفروا فيما بعد، ولهذا ينبغي أن تطمئنوا إلى المستقبل، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تهزكم ولا تزعزعكم شماتة شامت ووسوسة موسوس.

والجدير بالذكر أن الآية تعلل نشأة هذا الرعب الواقع في قلوب الكفّار كالتالي: (بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً).

لقد كانوا قوماً أهل خرافة، لا يتبعون دليلاً، ولا يلتمسون برهاناً، ولهذا كثيراً

ما كانت المحقرات من الأشياء تعظم في عيونهم وأفكارهم، فيتخذون الحجر والمدر والخشب معبودات وآلهة لهم، يضعفون أمام الحوادث ضعفاً عجيباً ويستكينون لها استكانة مذلة لأنهم سرعان ما يخطئون في حساباتهم وتقديراتهم، فإذا ما حدث حادث طفيف في حياتهم كما لو سمعوا مثلاً بأن المسلمين المهزومين عادوا مع جراحاتهم وجرحاهم إلى ساحة المعركة لملاحقة الأعداء، عظم ذلك في عيونهم وكبر في نظرهم، وحسبوا له أعظم حساب، وخافوا من ذلك أشد الخوف، وهي بعينها الحالة التي يعاني منها المستكبرون في عالمنا الراهن وعصرنا الحاضر، حيث إننا نشاهد كيف يخافون من أصغر حادث، فيتصورون الذرة جبلاً والحبة قبة، وذلك لأنهم لا يركنون إلى ركن وثيق، ولم يختاروا لأنفسهم كهفاً حصيناً، من إيمان صحيح وعقيدة مستقيمة.

لقد ظلم هؤلاء الكافرون أنفسهم وظلموا مجتمعاتهم ف: (مأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) وما أسوأه من مثوى ومآل.

الانتصار بسبب خوف العدو:

تفيد روايات كثيرة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمتاز في جملة ما يمتاز به أنه كان ينتصر على أعدائه بسبب خوفهم وإلقاء الرعب في قلوبهم.

إن هذا الموضوع يشير ـ في نفس الوقت ـ إلى أحد عوامل الانتصار في المعارك والحروب وخاصة في مثل هذا اليوم الذي تعتبر فيه معنويات المقاتلين من أهم الأُمور العسكرية، ومن أهم القضايا في شؤون التكتيك الحربي.

ولهذا فإن لمعنوية المقاتلين المرتفعة من التأثير في تحقيق النصر ما ليس للسلاح من حيث الكمية والكيفية.

من هنا بالغ الإسلام في رفع معنويات المقاتلين، فمضى يقوي فيهم روح الإيمان والحبّ للجهاد، والاعتزاز بالشهادة، والاتكال على الله القادر المنان وبهذا بلغ بالمجاهدين المسلمين أعلى قمم الاستقامة والثبات، والشجاعة والبسالة في حين كان المشركون وعبدة الأوثان، الذين لم يكونوا يعتقدون إلاّ بأصنام صم بكم لا تضر ولا تنفع، ولا يؤمنون بمعاد وقيامة وحياة بعد الموت، كانوا يعانون من نفسية ضعيفة منهزمة مهزوزة، فكان هذا التفاوت بين النفسيتين هو أحد العوامل المؤثرة لانتصار المسلمين عليهم.