البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{سَنُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ بِمَآ أَشۡرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗاۖ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (151)

الرعب : الخوف ، رعبته فهو مرعوب .

وأصله من الملي .

يقال : سيل راعب يملأ الوادي ، ورعبت الحوض ملأته .

السلطان : الحجة والبرهان ، ومنه قيل للوالي : سلطان .

وقيل : اشتقاق السلطان من السليط ، وهو ما يضيء به السراج من دهن السمسم .

وقيل : السليط الحديد ، والسلاطة الحدة ، والسلاطة من التسليط وهو القهر .

والسلطان من ذلك فالنون زائدة .

والسليطة : المرأة الصخابة .

والسليط : الرجل الفصيح اللسان .

المثوى : مفعل من ثوى يثوي أقام .

يكون للمصدر والزمان والمكان ، والثواء : الإقامة بالمكان .

{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } أي هؤلاء الكفار ، وإنْ كانوا ظاهرين عليكم يوم أحد فإنا نخذلهم بإلقاء الرعب في قلوبهم .

وأتى بالسين القريبة الاستقبال ، وكذا وقع .

ألقى الله في قلوبهم الرّعب يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب من المسلمين ، ولهم إذ ذاك القوة والغلبة .

وقيل : ذهبوا إلى مكة ، فلما كانوا ببعض الطريق قالوا : ما صنعنا شيئاً قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرّعب في قلوبهم فأمسكوا .

والإلقاء حقيقة في الإجرام ، واستعير هنا للجعل ، ونظيره : { والذين يرمون المحصنات } ومثله قول الشاعر :

هما نفثا في فيّ من فويهما *** على النابح العاوي أشد رجام

وقرأ الجمهور : سنلقي بالنون ، وهو مشعر بعظم ما يلقى ، إذ أسنده إلى المتكلم بنون العظمة .

وقرأ أيوب السختياني : سيلقي بالياء جرياً على الغيبة السابقة في قوله : { وهو خير الناصرين } وقدم في قلوبهم : وهو مجرور على المفعول للاهتمام بالمحل الملقى فيه قبل ذكر الملقى .

وقرأ ابن عامر والكسائي : الرعب بضم العين ، والباقون بسكونها .

فقيل : لغتان .

وقيل : الأصل السكون ، وضم اتباعاً كالصبح والصبح .

وقيل : الأصل الضم ، وسكن تخفيفاً ، كالرّسل والرسل .

وذكروا في إلقاء الرعب في قلوب الكفار يوم أحد قصة طويلة أردنا أن لا نخلي الكتاب من شيء منها ، فلخصنا منها أن علياً أخبر الرسول بأن أبا سفيان وأصحابه حين ارتحلوا ركبوا الإبل وجنبوا الخيل ، فسرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع الرسول إلى المدينة فتجهز واتبع المشركين إلى حمراء الأسد .

وأن معبد الخزاعي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كافر ممتعض مما حل بالمسلمين ، وكانت خزاعة تميل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن المشركين هموا بالرجوع إلى القتال فخذلهم صفوان بن أمية ومعبد .

وقال معبد : خرجوا يتحرقون عليكم في جمع لم أر مثله ، ولم أر إلا نواصي خيلهم قد جاءتكم .

وحملني ما رأيت أني قلت في ذلك شعراً وأنشد :

كادت تهد من الأصوات راحلتي *** إذ سالت الأرض بالحرد الأبابيل

تردي بأسد كرام لا تنابله *** عند اللقاء ولا ميل مهازيل

فظلت أعدو أظن الأرض مائلة *** لما سموا برئيس غير مخذول

إلى آخر الشعر ، فوقع الرعب في قلوب الكفار .

وقوله : سنلقي ، وعد للمؤمنين بالنصر بعد أحد ، والظفر .

وقال : « نصرت بالرعب مسيرة شهر » وفيها دلالة على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أخبر عن الله بأنه يلقي الرعب في قلوبهم فكان كما أخبر به .

{ بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } الباء للسبب ، وما مصدرية : أي بسبب إشراكهم بالله آلهة لم ينزل بإشراكها حجة ولا برهاناً ، وتسليط النفي على الإنزال ، والمقصود : نفي السلطان ، أي آلهة لا سلطان في إشراكها ، فينزل نحو قوله :

على لاحب لا يهتدى بمناره *** أي لا منار له فيهتدى به وقوله :

ولا ترى الضب بها ينجحر *** أي لا ينجحر الضب فيرى بها .

والمرادُ نفي السلطان والنزول معاً .

وكان الإشراك بالله سبباً لإلقاء الرعب ، لأنهم يكرهون الموت ويؤثرون الحياة ، إذ لم تتعلق آمالهم بالآخرة ولا بثواب فيها ولا عقاب ، فصار اعتقادهم ذلك مؤثراً في الرغبة في الحياة الدنيا كما قالوا : { وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين } وفي قوله : ما لم ينزل به سلطاناً ، دليل على إبطال التقليد ، إذ لا برهان مع المقلد .

{ ومأواهم النار } أخبر تعالى بأن مصيرهم ومرجعهم إلى النار فهم في الدنيا مرعوبون وفي الآخرة معذبون ، بسبب إشراكهم .

فهو جالب لهم الشر في الدنيا والآخرة .

{ وبئس مثوى الظالمين } بالغ في ذم مثواهم والمخصوص بالذم محذوف ، أي : وبئس مثوى الظالمين النار .

وجعل النار مأواهم ومثواهم .

وبدأ بالمأوى وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ولا يلزم منه الثواء ، لأن الثواء دال على الإقامة ، فجعلها مأوى ومثوى كما قال تعالى : { والنار مثوى لهم } ونبه على الوصف الذي استحقوا به النار وهو الظلم ، ومجاوزة الحد إذ أشركوا بالله غيره .

كما قال : { إن الشرك لظلم عظيم }

/خ152