قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } هذا من تمامِ ما تقدم من وجوه الترغيبِ في الجهاد وعدم المبالاةِ بالكفارِ .
قوله : { سَنُلْقِي } الجمهور بنون العظمة ، وهو التفات من الغيبة - في قوله : { وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه – تعالى-{[6059]} .
وقرأ أيوب السَّخْتِيانيّ " سَيُلْقِي " بالغيبة ؛ جَرْياً على الأصل . وقدم المجرور على المفعول به ؛ اهتماماً بذكر المحلّ قبل ذكر الحَال : والإلقاء - هنا - مجاز ؛ لأن أصلَه في الأجرام ، فاستُعِيرَ هنا ، كقول الشَّاعر : [ الطويل ]
هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَويْهِمَا *** عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ{[6060]}
وقرأ ابنُ عامرٍ والكسائيُّ ، وأبو جعفرٍ ، ويعقوبُ : " الرُّعْب " و " رُعْباً{[6061]} " - بضم العين - والباقون بالإسكان فقيل : هما لغتان .
وقيل : الأصل الضم ، وخُفِّف ، وهذا قياس مطردٌ .
وقيل : الأصلُ السكون ، وضُمَّ إتباعاً كالصبْح والصبُح ، وهذا عكس المعهود من لغة العربِ .
والرُّعْب : الخوف ، يقال : رعبته ، فهو مرعوب ، وأصله من الامتلاء ، يقال : رَعَبْتُ الحوض ، أي : ملأته وسَيْل راعب ، أي : ملأ الوادي .
قيل : هذا الوعدُ مخصوصٌ بيوم أحُد ؛ لأن الآياتِ المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة . والقائلون بهذا ذكروا في كيفية إلقاء الرعبِ في قلوب المشركين وجهين :
الأول : أن الكفارَ لما هزموا المسلمين أوقع اللهُ الرعب في قلوبهم ، فتركوهم ، وفرّوا منهم من غير سبب ، حتى رُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجبل ، وقال : أين ابنُ أبي كبشةَ ؟ أين ابن أبي قُحافةَ ؟ أين ابن الخطابِ ؟ فأجابه عمر ، ودارت بينهم كلماتٌ ، وما تجاسَر أبو سفيان على النزول من الجبل ، والذهاب إليهم .
والثاني : أن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة - وكانوا في بعض الطريقِ - ندموا ، وقالوا : ما صنعنا شيئاً ، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد ، ثم تركناهم ونحن قاهرون ، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكُلية ، فلما عزموا على ذلك القى اللهُ الرُّعْبَ في قلوبهم{[6062]} .
وقيل : إنَّ هذا الوْعَد غير مختصٍّ بيوم أُحُد ، بل هو عام .
قال القفالُ : كأنه قيل : إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أُحُدٍ ، إلا أنّ اللهَ تعالى - سَيُلْقي الرُّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكُفَّار حتى يقهر الكفار ، ويُظْهِرَ دينكم على سائِرِ الأديان ، وقد فعل الله ذلك ، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل . ونظير هذه الآية قوله : " نصرت بالرعب مسيرة شهر " .
قال بعض العلماءِ : إن هذا العموم على ظاهره ، لأنه لا أحد يخالف دينَ الإسلام إلا في قلبه ضَرْب من الرُّعْب ، ولا يقتضي وقوع جميع أنواع الرُّعب في قلوب الكافرين ، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوهِ ، وذهب جماعة من المفسّرين إلى أن مخصوص بأوائل الكفار .
قوله : { فِي قُلُوبِ } متعلق بالإلقاء ، وكذلك { بِمَآ أَشْرَكُواْ } ولا يضر تعلُّق الحرفين ؛ لاختلاف معناهما ، فإن " في " للظرفية ؛ الباء للسببية . و " ما " مصدرية ، و " ما " الثانية مفعول به لِ " أشْرَكُوا " وهي موصولة بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، والراجع : الهاء في " به " ولا يجوز أن تكون مصدرية - عند الجمهورِ - لعود الضمير عليها ، وتسلط النفي على الإنزال - لفظاً - والمقصود نفي السلطان - أي : الحجة - كأنه قيل : لا سُلطان على الإشراك فينزل .
. . . *** وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ{[6063]}
أي لا ينجحر الضَّبُّ بها ، فيُرَى .
عَلَى لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِه{[6064]} *** . . .
أي : لا منار فيهتدى به ، فالمعنى على نَفْي السلطان والإنزال معاً . و " سُلْطَاناً " مفعول به لِ " يُنَزِّلُ " .
قوله : { بِمَآ أَشْرَكُواْ } " ما " مصدرية ، والمعنى : بسبب إشراكهم باللهِ ، وتقريره : أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار ، كقوله : { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] ومن اعتقد أن لله شريكاً لم يحصل له الاضطرار ؛ لأنه يقول : إذا كان هذا المعبودُ لا ينصرني ، فالآخر ينصرني ، وإذا لم يحصل في قلبه الاضطرارُ لم تحصل له الأجابةُ ولا النصرة وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعبُ والخوفُ في قلبه فثبت أن الشركَ باللهِ يوجب الرعبَ .
قوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } السُّلْطَان - هنا - : الحجة والبرهان ، وفي اشتقاقه وجوهٌ :
فقيل : من سليط السراج الذي يوقَد به ، شُبِّه لإنارته ووضوحه . قاله الزجاجُ .
وقال ابن دُرَيْدٍ : من السلاطة ، وهي الحِدَّة والقَهْر .
وقال الليثُ : السلطان : القدرة ؛ لأن أصل بنائه من التسليط ، فسلطان الملكِ : قوته وقدرته ، ويسمى البرهان سُلْطَاناً ، لقوته على دَفْعِ الباطِلِ .
فإن قيل : إن هذا الكلامَ يوهم أنّ فيه سلطاناً إلا أنَّ اللهَ - تعالى - ما أنزله ؟
فالجوابُ : أن تقدير الكلامِ أنه لو كان لأنزل الله به سلطاناً ، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه .
وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون : إن هذا لا دليلَ عليه ، فلم يَجُزْ إثباتُه . وبالغ بعضهم ، فقال : لا دليلَ عليه ، فيجب نَفْيُه .
استدلوا بهذه الآية على فساد التقليد ؛ لأن الآيةَ دلَّت على أنَّ الشِّركَ لا دليلَ عليه ، فوجب أن يكونَ القولُ به باطلاً ، فكذلك كل قولٍ لا دليلَ عليه .
وقوله : { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } بين تعالى أنَّ أحوالَ المشركين في الدنيا هو وقوع الخوفِ في قلوبِهِم وأحوالهم في الآخرة هي أن مأواهم : مسكنهم النار .
قوله : { وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ ، أي : مثواهم ، أو النار .
المثوى : مَفْعَل ، من ثَوَيْتُ - أي : أقمت - فلامه ياء وقدم المأوى - وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان - على المَثْوَى - وهو مكان الإقامةِ - لأن الترتيبَ الوجوديَّ أن يأوي ، ثم يثوي ، ولا يلزم المأوى الإقامة ، بخلاف عكسه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.