اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{سَنُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ بِمَآ أَشۡرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗاۖ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (151)

قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } هذا من تمامِ ما تقدم من وجوه الترغيبِ في الجهاد وعدم المبالاةِ بالكفارِ .

قوله : { سَنُلْقِي } الجمهور بنون العظمة ، وهو التفات من الغيبة - في قوله : { وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه – تعالى-{[6059]} .

وقرأ أيوب السَّخْتِيانيّ " سَيُلْقِي " بالغيبة ؛ جَرْياً على الأصل . وقدم المجرور على المفعول به ؛ اهتماماً بذكر المحلّ قبل ذكر الحَال : والإلقاء - هنا - مجاز ؛ لأن أصلَه في الأجرام ، فاستُعِيرَ هنا ، كقول الشَّاعر : [ الطويل ]

هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَويْهِمَا *** عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ{[6060]}

وقرأ ابنُ عامرٍ والكسائيُّ ، وأبو جعفرٍ ، ويعقوبُ : " الرُّعْب " و " رُعْباً{[6061]} " - بضم العين - والباقون بالإسكان فقيل : هما لغتان .

وقيل : الأصل الضم ، وخُفِّف ، وهذا قياس مطردٌ .

وقيل : الأصلُ السكون ، وضُمَّ إتباعاً كالصبْح والصبُح ، وهذا عكس المعهود من لغة العربِ .

والرُّعْب : الخوف ، يقال : رعبته ، فهو مرعوب ، وأصله من الامتلاء ، يقال : رَعَبْتُ الحوض ، أي : ملأته وسَيْل راعب ، أي : ملأ الوادي .

فصل

قيل : هذا الوعدُ مخصوصٌ بيوم أحُد ؛ لأن الآياتِ المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة . والقائلون بهذا ذكروا في كيفية إلقاء الرعبِ في قلوب المشركين وجهين :

الأول : أن الكفارَ لما هزموا المسلمين أوقع اللهُ الرعب في قلوبهم ، فتركوهم ، وفرّوا منهم من غير سبب ، حتى رُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجبل ، وقال : أين ابنُ أبي كبشةَ ؟ أين ابن أبي قُحافةَ ؟ أين ابن الخطابِ ؟ فأجابه عمر ، ودارت بينهم كلماتٌ ، وما تجاسَر أبو سفيان على النزول من الجبل ، والذهاب إليهم .

والثاني : أن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة - وكانوا في بعض الطريقِ - ندموا ، وقالوا : ما صنعنا شيئاً ، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد ، ثم تركناهم ونحن قاهرون ، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكُلية ، فلما عزموا على ذلك القى اللهُ الرُّعْبَ في قلوبهم{[6062]} .

وقيل : إنَّ هذا الوْعَد غير مختصٍّ بيوم أُحُد ، بل هو عام .

قال القفالُ : كأنه قيل : إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أُحُدٍ ، إلا أنّ اللهَ تعالى - سَيُلْقي الرُّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكُفَّار حتى يقهر الكفار ، ويُظْهِرَ دينكم على سائِرِ الأديان ، وقد فعل الله ذلك ، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل . ونظير هذه الآية قوله : " نصرت بالرعب مسيرة شهر " .

فصل

قال بعض العلماءِ : إن هذا العموم على ظاهره ، لأنه لا أحد يخالف دينَ الإسلام إلا في قلبه ضَرْب من الرُّعْب ، ولا يقتضي وقوع جميع أنواع الرُّعب في قلوب الكافرين ، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوهِ ، وذهب جماعة من المفسّرين إلى أن مخصوص بأوائل الكفار .

قوله : { فِي قُلُوبِ } متعلق بالإلقاء ، وكذلك { بِمَآ أَشْرَكُواْ } ولا يضر تعلُّق الحرفين ؛ لاختلاف معناهما ، فإن " في " للظرفية ؛ الباء للسببية . و " ما " مصدرية ، و " ما " الثانية مفعول به لِ " أشْرَكُوا " وهي موصولة بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، والراجع : الهاء في " به " ولا يجوز أن تكون مصدرية - عند الجمهورِ - لعود الضمير عليها ، وتسلط النفي على الإنزال - لفظاً - والمقصود نفي السلطان - أي : الحجة - كأنه قيل : لا سُلطان على الإشراك فينزل .

كقول الشاعر : [ السريع ]

. . . *** وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ{[6063]}

أي لا ينجحر الضَّبُّ بها ، فيُرَى .

ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]

عَلَى لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِه{[6064]} *** . . .

أي : لا منار فيهتدى به ، فالمعنى على نَفْي السلطان والإنزال معاً . و " سُلْطَاناً " مفعول به لِ " يُنَزِّلُ " .

قوله : { بِمَآ أَشْرَكُواْ } " ما " مصدرية ، والمعنى : بسبب إشراكهم باللهِ ، وتقريره : أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار ، كقوله : { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] ومن اعتقد أن لله شريكاً لم يحصل له الاضطرار ؛ لأنه يقول : إذا كان هذا المعبودُ لا ينصرني ، فالآخر ينصرني ، وإذا لم يحصل في قلبه الاضطرارُ لم تحصل له الأجابةُ ولا النصرة وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعبُ والخوفُ في قلبه فثبت أن الشركَ باللهِ يوجب الرعبَ .

قوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } السُّلْطَان - هنا - : الحجة والبرهان ، وفي اشتقاقه وجوهٌ :

فقيل : من سليط السراج الذي يوقَد به ، شُبِّه لإنارته ووضوحه . قاله الزجاجُ .

وقال ابن دُرَيْدٍ : من السلاطة ، وهي الحِدَّة والقَهْر .

وقال الليثُ : السلطان : القدرة ؛ لأن أصل بنائه من التسليط ، فسلطان الملكِ : قوته وقدرته ، ويسمى البرهان سُلْطَاناً ، لقوته على دَفْعِ الباطِلِ .

فإن قيل : إن هذا الكلامَ يوهم أنّ فيه سلطاناً إلا أنَّ اللهَ - تعالى - ما أنزله ؟

فالجوابُ : أن تقدير الكلامِ أنه لو كان لأنزل الله به سلطاناً ، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه .

وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون : إن هذا لا دليلَ عليه ، فلم يَجُزْ إثباتُه . وبالغ بعضهم ، فقال : لا دليلَ عليه ، فيجب نَفْيُه .

فصل

استدلوا بهذه الآية على فساد التقليد ؛ لأن الآيةَ دلَّت على أنَّ الشِّركَ لا دليلَ عليه ، فوجب أن يكونَ القولُ به باطلاً ، فكذلك كل قولٍ لا دليلَ عليه .

وقوله : { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } بين تعالى أنَّ أحوالَ المشركين في الدنيا هو وقوع الخوفِ في قلوبِهِم وأحوالهم في الآخرة هي أن مأواهم : مسكنهم النار .

قوله : { وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ ، أي : مثواهم ، أو النار .

المثوى : مَفْعَل ، من ثَوَيْتُ - أي : أقمت - فلامه ياء وقدم المأوى - وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان - على المَثْوَى - وهو مكان الإقامةِ - لأن الترتيبَ الوجوديَّ أن يأوي ، ثم يثوي ، ولا يلزم المأوى الإقامة ، بخلاف عكسه .


[6059]:انظر: الشواذ 22، والمحرر الوجيز 1/523، والبحر المحيط 3/83، والدر المصون 2/231.
[6060]:البيت للفرزدق ينظر ديوانه 2/215، وخزانة الأدب 4/460، 464، 7/476، 546، والكتاب 3/365، ولسان العرب (فمم)، (فوه)، وشرح أبيات سيبويه 2/285، وشرح شواهد الشافية ص 115، والدرر 1/56، وسر صناعة الإعراب 1/417، 485، وتذكرة النحاة ص 143، وجواهر الأدب ص 95 والمحتسب 2/238، وأسرار العربية ص 235، والأشباه والنظائر 1/216، وجمهرة اللغة ص 1307، والخصائص 1/170، 3/147، 211، وشرح شافية ابن الحاجب 3/215، والمقتضب 3/158، والمقرب 2/129 والإنصاف 1/345 والهمع 1/51 والدر الصمون 2/231.
[6061]:انظر: الكشف 1/360، والسبعة 217، والحجة 3/85، والعنوان 81، وحجة القراءات 176، وإعراب القراءات 1/120، وشرح شعلة 323، وشرح الطيبة 4/170، وإتحاف 1/490.
[6062]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/280) عن السدي والأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/148).
[6063]:تقدم.
[6064]:تقدم.