يقول تعالى منكرًا على الكفار في صَدّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام ، وقضاء مناسكهم فيه ، ودعواهم أنهم أولياؤه : { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ الأنفال : 34 ] .
وفي هذه الآية دليل [ على ]{[20101]} أنها مدنية ، كما قال في سورة " البقرة " : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ } [ البقرة : 217 ] ، وقال : هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : ومن صفتهم مع كفرهم أنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ، أي : ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر ، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] أي : ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله .
وقوله : { الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } [ أي : يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وقد جعله الله شرعا سواء ، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه ، { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } ] {[20102]} ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } قال : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام .
وقال مجاهد [ في قوله ]{[20103]} : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } : أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل . وكذا قال أبو صالح ، وعبد الرحمن بن سابط ، وعبد الرحمن بن زيد [ بن أسلم ]{[20104]} .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : سواء فيه أهله وغير أهله .
وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهَويه بمسجد الخِيف ، وأحمد بن حنبل حاضر{[20105]} أيضًا ، فذهب الشافعي ، رحمه الله{[20106]} إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر ، واحتج بحديث الزهري ، عن علي بن الحُسَين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد قال : قلت : يا رسول الله ، أتنزل غدًا في دارك{[20107]} بمكة ؟ فقال : " وهل ترك لنا عَقيل من رباع " . ثم قال : " لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر " . وهذا الحديث مُخَرّج في الصحيحين{[20108]} [ وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة ، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم . وبه قال طاوس ، وعمرو بن دينار .
وذهب إسحاق بن راهَويه إلا أنها تورث ولا تؤجر . وهو مذهب طائفة من السلف ، ونص عليه
مجاهد وعطاء ، واحتج إسحاق بن راهَويه بما رواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عيسى ابن يونس ، عن عُمَر بن سعيد بن أبي حُسَين{[20109]} ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن علقمة بن نَضْلة قال : تُوُفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة إلا ]{[20110]} السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن{[20111]} .
وقال عبد الرزاق ابن مجاهد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها .
وقال أيضًا عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم ، وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهي عن تُبوّب دور مكة ؛ لأن ينزل الحاج في عَرَصاتها ، فكان أول من بَوّب داره سُهَيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين ، إني كنت امرأ تاجرا ، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري قال : فذلك إذًا .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن منصور ، عن مجاهد ؛ أن عمر بن الخطاب قال : يا أهل مكة ، لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء{[20112]} . قال : وأخبرنا مَعْمر ، عمن سمع عطاء يقول [ في قوله ]{[20113]} : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } ، قال : ينزلون حيث شاءوا .
وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نَجِيح ، عن عبد الله بن عمرو موقوفا{[20114]} من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا{[20115]} .
" وتوسط الإمام أحمد [ فيما نقله صالح ابنه ]{[20116]} فقال : تملك وتورث ولا تؤجر ، جمعا بين الأدلة ، والله أعلم .
وقوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } قال بعض المفسرين من أهل العربية : الباء هاهنا زائدة ، كقوله : { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } [ المؤمنون : 20 ] أي : تُنْبِتُ الدهن ، وكذا قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ{[20117]} } تقديره إلحادًا ، وكما قال الأعشى :
ضَمنَتْ برزق عيالنا أرْماحُنا *** بين المَرَاجِل ، والصّريحَ الأجرد{[20118]} وقال الآخر :
بوَاد يَمانِ يُنْبتُ الشَّثّ صَدْرُهُ *** وَأسْفَله بالمَرْخ والشَّبَهَان
والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى " يَهُمّ " ، ولهذا{[20119]} عداه بالباء ، فقال : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } أي : يَهُمّ فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار .
وقوله : { بِظُلْمٍ } أي : عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول ، كما قال ابن جريج{[20120]} ، عن ابن عباس : هو [ التعمد ]{[20121]} .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بِظُلْمٍ } بشرك .
وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله . وكذا قال قتادة ، وغير واحد .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : { بِظُلْمٍ } هو أن تَستحلَ من الحرم ما حَرّم الله عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك ، وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فَعَلَ ذلك فقد وجب [ له ]{[20122]} العذاب الأليم .
وقال مجاهد : { بِظُلْمٍ } : يعمل فيه عملا سيئا .
وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر ، إذا كان عازما عليه ، وإن لم يوقعه ، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره :
حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شعبة ، عن السُّدِّي : أنه سمع مُرَّة يحدث عن عبد الله - يعني ابن مسعود - في قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : لو أن رَجُلا أراد فيه بإلحاد بظلم ، وهو بعَدَن أبينَ ، أذاقه{[20123]} الله من العذاب الأليم .
قال شعبة : هو رفعه لنا ، وأنا لا أرفعه لكم . قال يزيد : هو قد رفعه ، ورواه أحمد ، عن يزيد بن هارون ، به{[20124]} .
[ قلت : هذا الإسناد ]{[20125]} صحيح على شرط البخاري ، ووقفه أشبه من رفعه ؛ ولهذا صَمم شعبة على وَقْفه من كلام ابن مسعود . وكذلك رواه أسباط ، وسفيان الثوري ، عن السدي ، عن مُرة ، عن ابن مسعود موقوفا ، والله أعلم .
وقال الثوري ، عن السدي ، عن مُرَّة ، عن عبد الله قال : ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلا بعَدَن أبينَ هَمّ أن يقتل رجلا بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم . وكذا قال الضحاك بن مُزاحم .
وقال سفيان [ الثوري ]{[20126]} ، عن منصور ، عن مجاهد " إلحاد فيه " ، لا والله ، وبلى والله . وروي عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، مثله .
وقال سعيد بن جُبَير : شتم الخادم ظلم فما فوقَه .
وقال سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عطاء ، عن ميمون بن مِهْرَان ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : تجارة الأمير فيه .
وعن ابن عمر : بيع الطعام [ بمكة ]{[20127]} إلحاد .
وقال حبيب{[20128]} بن أبي ثابت : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : المحتكر بمكة . وكذا قال غير واحد .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري ، أنبأنا أبو عاصم ، عن جعفر بن يحيى ، عن عمه عمارة بن ثوبان ، حدثني موسى بن باذان ، عن يعلى بن أمية ؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " احتكار الطعام بمكة إلحاد " {[20129]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر{[20130]} ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قول الله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : نزلت في عبد الله بن أنيس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين ، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب ، فغضب عبد الله بن أنيس ، فقتل الأنصاريّ ، ثم ارتد عن الإسلام ، وهَرَب إلى مكة ، فنزلت فيه : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } يعني : من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام .
وهذه الآثار ، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ، ولكنْ هُو أعم من ذلك ، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها ، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل { تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [ الفيل : 4 ، 5 ] ، أي : دمَّرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء ؛ ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يغزو هذا البيت جيش ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِف بأولهم وآخرهم " الحديث{[20131]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كُنَاسة ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، عن أبيه قال : أتى عبدُ الله بن عمر عبدَ الله بن الزبير ، فقال : يا ابن الزبير ، إياك والإلحاد في حَرَم الله ، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه سيلحدُ فيه رجل من قريش ، لو تُوزَن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت " ، فانظر لا تكن هو{[20132]} .
وقال أيضا [ في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص ]{[20133]} : حدثنا هاشم ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، حدثنا سعيد بن عمرو قال : أتى عبدُ الله بن عمرو ابنَ الزبير ، وهو جالس في الحِجْر فقال : يا بن الزبير ، إياك والإلحادَ في الحرم ، فإني أشهد لسَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحلها ويحل به رجل من قريش ، ولو وُزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها " . قال : فانظر لا تكن{[20134]} هو{[20135]} .
وقوله تعالى : { إن الذين كفروا ويصدون } الآية ، قوله { ويصدون } تقديره وهم يصدون وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي وقالت فرقة الواو زائدة { ويصدون } خبر { إن } وهذا مفسد للمعنى المقصود ، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله { والبادي } تقديره خسروا أو هلكوا ، وجاء { يصدون } مستقبلاً إذ فعل يديمونه كما جاء قوله تعالى :
{ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم }{[8339]} [ الرعد : 28 ] ونحوه ، وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صُدَّ رسولُ الله صلى عليه وسلم عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجميع إلا أن يراد صدهم لأفراد من الناس ، فقد وقع ذلك في صدر المبعث ، وقالت فرقة { المسجد الحرام } أرادوا به مكة كلها ع وهذا صحيح لكنه قصد بالذكر المهم المقصود من ذلك ، وقرأ جمهور الناس «سواء » بالرفع وهو على الابتداء و { العاكف } خبره ، وقيل الخبر { سواء } وهو مقدم وهو قول أبي علي والمعنى الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبداً ، وقرأ حفص عن عاصم «سواء » بالنصب وهي قراءة الأعمش وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مفعولاً ثانياً ل «جعل » ويرتفع «العاكفُ » به لأنه مصدر في معنى مستوٍ أُعْمِلَ عمل اسم الفاعل ، والوجه الثاني ان يكون حالاً من الضمير في { جعلنا } وقرأت فرقة «سواءً » بالنصب «العاكفِ » بالخفض عطفاً على الناس{[8340]} ، و { العاكف } ، المقيم في البلد ، و { البادي } ، القادم عليه من غيره ، وقرأ ابن كثير في الوصل والوقف «البادي » بالياء . ووقف أبو عمرو بغير ياء ، ووصل بالياء ، وقرأ نافع «البادِ » بغير ياء في الوصل والوقف في رواية المسيبي ، وأبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس{[8341]} ، وروى ورش الوصل بالياء ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء وصلاً ووقفاً ، وهي في الإمام بغير ياء ، وأجمع الناس على الاستواء في نفس { المسجد الحرام } واختلفوا في مكة ، فذهب عمر بن الخطاب وابن عباس ومجاهد وجماعة معهم إلى الأمر كذلك في دور مكة وأن القادم له النزول حيث وجد ، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى ، وقال : سفيان الثوري وغيره ، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول ، قال ابن سابط{[8342]} : وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل باباً فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق باباً في وجه حاج بيت الله ؟ فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة ، فتركه فاتخذ الناس الأبواب ، وقال جمهور من الأمة منهم مالك : ليست الدور كالمسجد ولأهلها الامتناع بها والاستبداد ، وعلى هذا هو العمل اليوم ، وهذا الاختلاف الأول متركب على الاختلاف في مكة هل هي عنوة{[8343]} كما روي عن مالك والأوزاعي ، أو صلح كما روي عن الشافعي ، فمن رآها صلحاً فإن الاستواء في المنازل عنده بعيد ، ومن رآها عنوة أمكنه أن يقول الاستواء فيها ، قرره الأئمة الذين لم يقطعوها أحداً وإنما سكنى من سكن من قبل نفسه .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم «وهل ترك لنا عقيل منزلاً »{[8344]} يقتضي أن لا استواء وأنها متملكة ممنوعة على التأويلين في قوله تعالى عليه السلام لأنه تؤول بمعنى أنه ورث جميع منازل أبي طالب وغيره ، وتؤول بمعنى أنه باع منازل بني هاشم حين هاجروا ومن الحجة لتملك أهلها دورهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية داراً للسجن بأربعة آلاف ، ويصح مع ذلك أن يكون الاستواء في وقت الموسم للضرورة والحاجة فيخرج الأمر حينئذ عن الاعتبار بالعنوة والصلح ، وقوله تعالى : { بإلحاد } قال أبو عبيدة الباء زائدة ومنه قول الشاعر :
بواد يمان ينبت الشت صدره . . . وأسلفه بالمرخ والشهبان{[8345]}
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا . . . {[8346]} وهذا كثير{[8347]} ويجوز أن يكون التقدير { ومن يرد فيه } الناس { بإلحاد } و «الإلحاد » الميل ، وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر ، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السئية فيه ، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا في مكة ، هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم ، وقال ابن عباس : «الإلحاد » في هذه الآية الشرك ، وقال أيضاً : هو استحلال الحرام وحرمته ، وقال مجاهد : هو العمل السييء فيه ، وقال عبد الله بن عمرو : قول لا والله وبلى والله بمكة من الإلحاد ، وقال حبيب بن أبي ثابت : الحكرة بمكة من الإلحاد بالظلم .
قال أبو محمد رحمه الله :والعموم يأتي على هذا كله ، وقرأت فرقة «ومن يرد » من الورود حكاه الفراء ، والأول أبين وأعم وأمدح للبقعة ، و { من } شرط جازمة للفعل وذلك منع من عطفها على { الذين } والله المستعان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله} يقول: ويمنعون الناس عن دين الله، عز وجل، {و} عن {والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه} يعني: المقيم في الحرم، وهم أهل مكة {والباد} يعني: من دخل مكة من غير أهلها. {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} يقول: من لجأ إلى الحرم يميل فيه بشرك {نذقه من عذاب أليم}، يعني: وجيعا.
{سواء العاكف فيه والباد} [الحج: 25]. 642- ابن رشد: سئل مالك عن هذه الآية: {سواء العاكف فيه والباد} قال: سواء في الحق والسعة. والباد أهل البادية وغيرهم ممن يقدم عليهم. وكانت الفساطيط تضرب في الدور. ولقد سمعت أن عمر بن الخطاب كان ينزع أبواب مكة إذا قدم الناس.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الذين جحدوا توحيد الله وكذّبوا رسله وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم، "ويَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ الله "يقول: ويمنعون الناس عن دين الله أن يدخلوا فيه، وعن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس الذين آمنوا به كافة لم يخصص منها بعضا دون بعض "سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبادِ "يقول: معتدل في الواجب عليه من تعظيم حرمة المسجد الحرام، وقضاء نسكه به، والنزول فيه حيث شاء، العاكف فيه وهو المقيم به، والباد: وهو المنتاب إليه من غيره.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: سواء العاكف فيه وهو المقيم فيه والباد، في أنه ليس أحدهما بأحقّ بالمنزل فيه من الآخر... عن ابن سابط، قال: كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم، وكان الرجل إذا وجد سعة نزل. ففشا فيهم السرق، وكل إنسان يسرق من ناحيته، فاصطنع رجل بابا، فأرسل إليه عمر: أتخذت بابا من حجاج بيت الله؟ فقال: لا، إنما جعلته ليحرز متاعهم. وهو قوله: "سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبادِ" قال: الباد فيه كالمقيم، ليس أحد أحقّ بمنزله من أحد إلا أن يكون أحد سبق إلى منزل...
عن مجاهد، قوله: سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ قال: الساكن، والبَادِ الجانب سواء حقّ الله عليهما فيه...
عن مجاهد وعطاء: "سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ" قالا: من أهله، "والبَادِ" الذي يأتونه من غير أهله هما في حرمته سواء.
وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك لأن الله تعالى ذكره ذكر في أوّل الآية صدّ من كفر به من أراد من المؤمنين قضاء نسكه في الحرم عن المسجد الحرام، فقال: "إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ"، ثم ذكر جلّ ثناؤه صفة المسجد الحرام، فقال: "الّذِي جَعَلْناهُ للنّاسِ" فأخبر جلّ ثناؤه أنه جعله للناس كلهم، فالكافرون به يمنعون من أراده من المؤمنين به عنه. ثم قال: طسَوَاءً العاكِفُ فِيهِ وَالبادِ" فكان معلوما أن خبره عن استواء العاكف فيه والباد، إنما هو في المعنى الذي ابتدأ الله الخبر عن الكفار أنهم صدّوا عنه المؤمنين به وذلك لا شكّ طوافهم وقضاء مناسكهم به والمقام، لا الخبر عن ملكهم إياه وغير ملكهم. وقيل: "إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ" فعطف ب «يصدّون» وهو مستقبل على «كفروا» وهو ماض، لأن الصدّ بمعنى الصفة لهم والدوام. وإذا كان ذلك معنى الكلام، لم يكن إلا بلفظ الاسم أو الاستقبال، ولا يكون بلفظ الماضي. وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: إن الذين كفروا من صفتهم الصدّ عن سبيل الله، وذلك نظير قول الله: "الّذِين آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوُبهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ"...
وقوله: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظْلُمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ" يقول تعالى ذكره: ومن يرد فيه إلحادا بظلم نذقه من عذاب أليم، وهو أن يميل في البيت الحرام بظلم...
وأما بعض نحويي الكوفيين فإنه كان يقول: أدخلت الباء فيه، لأن تأويله: ومن يرد بأن يلحد فيه بظلم...
واختلف أهل التأويل في معنى الظلم الذي من أراد الإلحاد به في المسجد الحرام أذاقه الله من العذاب الأليم؛
فقال بعضهم: ذلك هو الشرك بالله وعبادة غيره به أي بالبيت...
وقال آخرون: هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه... وقال آخرون: بل معنى ذلك الظلم: استحلال الحرم متعمدا... وقال آخرون: بل ذلك احتكار الطعام بمكة...
وقال آخرون: بل ذلك كل ما كان منهيّا عنه من الفعل، حتى قول القائل: لا والله، وبلى والله...
وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب... أنه معنيّ بالظلم في هذا الموضع كلّ معصية لله، وذلك أن الله عمّ بقوله: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلحادٍ بِظُلْمٍ" ولم يخصص به ظلم دون ظلم في خبر ولا عقل، فهو على عمومه. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم، فيعصي الله فيه، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ومن يرد فيه بإلحاد بظلم}... وأصل الإلحاد، هو العدول والميل عن الطريق. وتأويله: ومن يُلحد فيه إلحاد ظلم نذقه كذا.
وقال بعضهم: من هم فيه بإلحاد بظلم نذقه كذا.
ثم يحتمل تخصيص ذلك المكان بما ذكر وجوها:
أحدها: ليعلموا أن كثرة الخيرات وتضاعفها مما لا يعمل في إسقاط المساوئ فيه وهدمها لما روي: (إن الصلاة واحدة بمكة تعدل كذا صلاة في غيرها من الأماكن، وكذلك حسنة فيها) [بنحوه الطبراني في الكبير 1/907].
والثاني: خصت بالذكر على التغليظ والتشديد على ما خصت تلك البُقعة بتضاعف الحسنات... وجائز أن يكون ما ذكرنا من التغليظ والتشديد وتضاعف العقوبة. ولذلك كره قوم الجوار بمكة لما تتضاعف بها العقوبة إذا ارتكب [فيها مأثم، وألحد فيها...
{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بظُلْمٍ}؛ فإن الإلحاد هو المَيْلُ عن الحق إلى الباطل؛ وإنما سُمّي اللّحد في القبر؛ لأنه مائل إلى شقّ القبر. ورُوي عن ابن عمر أنه قال: ظلم الخادم فما فوقه بمكة إلحاد.
قال أبو بكر: الإلحاد مذموم لأنه سام للمَيْلِ عن الحق، ولا يطلق في الميل عن الباطل إلى الحق، فالإلحاد اسم مذموم؛ وخَصَّ الله تعالى الحَرَمَ بالوعيد في الملحد فيه تعظيماً لحرمته.
ولم يختلف المتأولون للآية أن الوعيد في الإلحاد مرادٌ به من أَلْحَدَ في الحرم كله وأنه غير مخصوص به المسجد، وفي ذلك دليل على أن قوله: {وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ} قد أُريد به الحرم؛ لأن قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} هذه "الهاء "كناية عن الحرم وليس للحرم ذكر متقدم إلا قوله: {وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ}، فثبت أن المراد بالمسجد ههنا الحرم كله. وقد رَوَى عمارة بن ثوبان قال: أخبرني موسى بن زياد قال: سمعت يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ"... وليس يمتنع أن يكون جميع الذنوب مراداً بقوله: {بِإِلْحَادٍ بظُلْمٍ} فيكون الاحتكار من ذلك وكذلك الظلم والشرك، وهذا يدل على أن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره. ويشبه أن يكون من كَرِهَ الجوار بمكة ذهب إلى أنه لما كانت الذنوب بها تتضاعف عقوبتها آثروا السلامة في تَرْكِ الجوار بها مخافة مواقعة الذنوب التي تتضاعف عقوبتها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الصدُّ عن المسجد الحرام بإخافة السُّبُل، وبِغَصْبِ المال الذي لو بقي في يد صاحبه لوصل به إلى المسجد الحرام...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}. 735- قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما من بلد يؤاخذ فيه العبد بالنية قبل العمل إلا مكة، وتلا قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الإحياء: 1/290]...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان. أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر، فسئل عن ذلك فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله، وبلى والله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي الصدود منهم مستمرّ دائم {لِلنَّاسِ} أي الذين يقع عليهم اسم الناس من غير فرق بين حاضر وباد وتانيء وطارئ ومكي وآفاقي..
{نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يعني أَنّ الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَالظُّلْمُ فِي الْحَقِيقَةِ لُغَةً وَشَرْعًا وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالذُّنُوبِ الْمُطْلَقَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَنَفْسِهِ، وَبِالذُّنُوبِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى الْخَلْقِ، وَهُوَ أَعْظَمُ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَهُ فُسْطَاطَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْحِلِّ، وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ؛ فَكَانَ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ دَخَلَ فُسْطَاطَ الْحَرَمِ، وَإِذَا أَرَادَ الْأَمْرَ لِبَعْضِ شَأْنِهِ دَخَلَ فُسْطَاطَ الْحِلِّ، صِيَانَةً لِلْحَرَمِ عَنْ قَوْلِهِمْ: كَلًّا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، حِينَ عَظَّمَ اللَّهُ الذَّنْبَ فِيهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَاتِ تُعَظَّمُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الزَّمَانِ، كَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَعَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْمَكَانِ، كَالْبَلَدِ الْحَرَامِ، فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ مَعْصِيَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا بِنَفْسِ الْمُخَالَفَةِ، وَالثَّانِيَةُ بِإِسْقَاطِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، أَوْ الْبَلَدِ الْحَرَامِ.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
فإنَّ من ألحدَ في الحرمِ حيثُ عُوقب بالعذاب الأليم فلأنْ يُعاقبَ من جمعَ إليه الكفرَ والصَّدَّ عن سبيل الله بأشدَّ من ذلك أحقُّ وأولى.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
والحاصل: أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذ بمجرّد الإرادة للظلم، فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها، إلا أن يقال: إن الإرادة فيها زيادة على مجرّد حديث النفس.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وإلى مضاعفة السيئة في مكة ذهب مجاهد، فقد أخرج عنه ابن المنذر وغيره أنه قال: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات، وقال رحمه الله تعالى: سألت ابن عمر وكان منزله في الحل ومسجده في الحرم لم تفعل هذا؟ فقال: لأن العمل في الحرم أفضل والخطيئة فيه أعظم فينبغي لمن كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد في جميع ما يهم به ويقصده.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم، وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله، وبين الصد عن سبيل الله ومنع الناس من الإيمان، والصد أيضا عن المسجد الحرام، الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم، بل الناس فيه سواء، المقيم فيه، والطارئ إليه، بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدا وأصحابه، والحال أن هذا المسجد الحرام، من حرمته واحترامه وعظمته، أن من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم...
وفي هذه الآية الكريمة، وجوب احترام الحرم، وشدة تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
انتهى الدرس الماضي بتصوير عاقبة الخصام في الله، ومشهد الجحيم الحارق للكافرين، والنعيم الوارف للمؤمنين. وبهذه النهاية يتصل الدرس الجديد، فيتحدث عن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام. وهم الذين كانوا يواجهون الدعوة الإسلامية في مكة، فيصدون الناس عنها؛ ويواجهون الرسول [صلى الله عليه وسلم] والمؤمنين فيمنعونهم من دخول المسجد الحرام. وبهذه المناسبة يتحدث عن الأساس الذي أقيم عليه ذلك المسجد يوم فوض الله إبراهيم -عليه السلام- في بنائه، والأذان في الناس بالحج إليه. ولقد كلف إبراهيم أن يقيم هذا البيت على التوحيد، وأن ينفي عنه الشرك، وأن يجعله للناس جميعا، سواء المقيم فيه والطارى ء عليه، لا يمنع عنه أحد، ولا يملكه أحد.. ويستطرد إلى بعض شعائر الحج وما وراءها من استجاشة القلوب للتقوى وذكر الله والاتصال به.. وينتهي إلى ضرورة حماية المسجد الحرام من عدوان المعتدين الذين يصدون عنه ويغيرون الأساس الذي قام عليه؛ وبوعد الله للمدافعين بالنصر متى نهضوا بالتكاليف التي تفرضها حماية العقيدة.
والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس، سواء العاكف فيه والباد...
ولقد كان هذا النهج الذي شرعه الله في بيته الحرام سابقا لكل محاولات البشر في إيجاد منطقة حرام. يلقى فيها السلاح، ويأمن فيها المتخاصمون، وتحقن فيها الدماء، ويجد كل أحد فيها مأواه. لا تفضلا من أحد، ولكن حقا يتساوى فيه الجميع...
وهكذا سبق الإسلام سبقا بعيدا بإنشاء واحة السلام، ومنطقة الأمان، ودار الإنسان المفتوحة لكل إنسان!... والقرآن الكريم يهدد من يريد اعوجاجا في هذا النهج المستقيم بالعذاب الأليم: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم تذقه من عذاب أليم).. فما بال من يريد ويفعل؟ إن التعبير يهدد ويتوعد على مجرد الإرادة زيادة في التحذير، ومبالغة في التوكيد. وذلك من دقائق التعبير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: كما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتّباعهم صراط الله كذلك كان سبَبُ استحقاق المشركين ذلك العذَاب كفرَهم وصدّهم عن سبيل الله...
وفيه مع هذه المناسبة لما قبله تخلّص بديع إلى ما بعده من بيان حقّ المسلمين في المسجد الحرام، وتهويل أمر الإلحاد فيه، والتنويهُ به وتنزيههُ عن أن يكون مأوى للشرك ورجس الظلم والعُدوان...
والمعروف من ذلك أنهم مَنَعُوا المسلمين بعد الهجرة من زيارة البيت فقد قال أبو جهل لسَعْد بن معاذ لما جاء إلى مكّة معتمراً وقال لصاحبه أميّة بن خلف: انتظر لي ساعة من النهار لعلّي أطوف بالبيت، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل وعَرَفَهُ. فقال له أبو جهل: أتطوف بالكعبة آمناً وقد أوتيتم الصْباة؟ (يعني المسلمين). ومن ذلك مَا صنعوه يوم الحديبية. وقد قيل: إنّ الآية نزلت في ذلك. وأحسب أنّ الآية نزلت قبل ذلك سواء نزلت بمكة أم بالمدينة... وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن صورة مثيرة من صور الصراع القائم بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، فقد كان الشرك بمكة في فترة من الدهر عاتيا طاغيا، فاستولى على مهد التوحيد وقاعدته الأولى في الحرم الشريف، واستبد بهما، حتى حرم من الكعبة ومقام إبراهيم وارث إبراهيم خاتم الأنبياء والمرسلين، وصده ومن معه من المؤمنين، عن الوصول إلى بيت الله الحرام وأداء مناسكهم فيه... وبذلك أكد كتاب الله ان بيت الله الحرام ليس ملكا لفريق دون آخر، وأن المقيمين بمكة، وهم "العاكفون "والوافدون عليها، وهم "البادون" سواسية فيما لهم في بيت الله من حقوق، بصفته منسكا وقبلة ومتعبدا. وأعلن كتاب الله أن صد الناس عن المسجد الحرام بأية وسيلة من الوسائل، وبأي عذر ينتحل من الأعذار، يعتبر إلحادا وظلما، إذ هو تحويل لصبغة المسجد الحرام، وخروج به عن أصله بالمرة، وتوعد كتاب الله كل من صد عن سبيله بالعذاب الأليم...
وكلمة (الحرام) وصف فيها بعض المكان وبعض الزمان، وهي خمسة أشياء: نقول: البيت الحرام وهو الكعبة، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، ثم المشعر الحرام. وهذه عبارة عن دوائر مركز الكعبة، هذه أماكن، ثم الخامس وهو زمن: الشهر الحرام الذي قال الله فيه: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه...
وحرمة الزمان والمكان هنا لحكمة أرادها الخالق سبحانه، لأنه رب رحيم بخلقه يريد أن يجعل لهم فرصة لستر كبريائهم، والحد من غرورهم، وكانت تنتشر بين القوم الحروب والصراعات التي كانت تذكي نارها عادات قبلية وسعار الحرب، حتى أن كلا الفريقين يريد أن يفني الآخر، وربما استمروا في الحرب وهم كارهون لها، لكن يمنعهم كبرياؤهم من التراجع والانسحاب. لذلك جعل الله سبحانه لهذه الأماكن والأزمنة حرمة لتكون ستارا لهذا الكبرياء الزائف، ولهذه العزة البغيضة. وكل حدث يحتاج إلى زمان وإلى مكان، فحرم الله القتال في الأشهر الحرم، حتى إذا ما استعرت بينهم حرب جاء شهر حرام، فأنقذ الضعيف من قبضة القوي دون أن يجرح كبرياءه، وربما هز رأسه قائلا: لولا الشهر الحرام كنت فعلت بهم كذا وكذا. فهذه- إذن- رحمة من الله بعباده، وستار يحميهم من شرور أنفسهم ونزواتها ويحقن دماءهم...
{ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} الإلحاد قد يكون في الحق الأعلى، وهو الإلحاد في الله عز وجل، أما هنا فيراد بالإلحاد: الميل عن طريق الحق، وقوله: {بظلم} الظلم في الشيء لا يسمو إلى درجة الكفر، والإلحاد بظلم إن حدث في بيت الله فهو أمر عظيم، لأنك في بيت ربك، الكعبة، وكان يجب عليك أن تستحي من مجرد حديث النفس بمعصية، مجرد الإرادة هنا تعد ذنبا، لأنك في مقام يجب أن تستشعر فيه الجلال والمهابة، فكما أعطى الله لبيته ميزة في مضاعفة الحسنات، كذلك عظم أمر المعصية وأنت في رحاب بيته، فتنبه لهذه المسألة...
فللمكان حرمة بحرمة صاحبه، فإذا كان للمكان حرمة بحرمة صاحبه، والبيت منسوب إلى الله، فأنت تعصى ربك في عقر داره، وأي جرأة أعظم من الجرأة على الله؟. وهذه خاصية للمسجد الحرام، فكل المساجد في أي مكان بيوت الله، لكن هناك فرق بين بيت الله باختيار الله، وبيت الله باختيار عباد الله، لذلك جعل بيت الله باختيار الله البيت الحرام هو القبلة التي تتجه إليها كل بيوت الله في الأرض...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
انطلقت دعوة الله في مكة؛ البلد الذي جعله حرماً آمناً يأوي إليه الناس من كل مكان ليعبدوه في المسجد الحرام، حيث يصلّون ويطوفون بالبيت الحرام. ولكن أهل مكة، الذين كانوا يتخذون الشرك قاعدة لتفكيرهم ولعبادتهم ونهجاً في حياتهم، واجهوا هذه الدعوة الجديدة بكل أساليب التعسف والتمرّد والضغط والنكران. وجاءت هذه الآية لتحدّد لنا طبيعة هذه المواجهة، وما أعدّه الله لهم في الدار الآخرة...
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} فلم يكتفوا بالكفر الإشراكيّ في تفكيرهم وسلوكهم، بل عملوا على الوقوف ضد كل من يريدون الدخول في الإسلام ويتحركون في سبيل الوصول إلى الحق، الذي يبلغ بهم رضوان الله ورحمته، فكانوا يلاحقون المؤمنين ليعذبوهم، وليشرّدوهم، ويمنعون الذين يحبون الإيمان أن يدخلوا فيه بالضغوط الصعبة القاسية التي يوجهونها إليهم {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} لا فرق فيه بين فردٍ وآخر أو بين جماعةٍ وأخرى ممن يؤمن بالله ويريد أن يعبده فيه، أو ممن يريد أن يدخله ليؤمن بالإسلام، فهو بيت الله الذي أراده للناس كافة، {سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، فالمقيم فيه والآتي من الخارج إليه سيّان، لا يملك من يقيم في مكة منع القادم إليها من دخول المسجد، لأن خالق الأرض ومالكها هو من يملك إعطاء الإذن بالمنع والدخول من موقع خلقه له، {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} ويميل عن الخط المستقيم، وذلك بالقيام بأيّ عملٍ يعيق وصول الناس إليه، ويضرّ بحياتهم في داخله، عبر استخدام ما يملكه من قوّة تمكّنه من مواجهة حالات الضعف التي تحيط بالآخرين من المقيمين به أو الداخلين إليه، {بِظُلْمٍ} أي بدون حق، فإن ذلك ليس من حقه مهما قدم لتصرفه من مبررات وأعذار، لأن للناس حرية الدخول إلى الكعبة التي تمثل بيت الله، فيحجون إليها، ويعبدونه فيها، ولم يجعل لأحد سلطة منع الناس من ذلك، إلا في نطاق حمايتهم من الخطر وحمايتها من الضغط القاسي، فمن أراد ذلك بدون حق {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} جزاءً له على تمرده وعصيانه وظلمه، تماماً كالكافرين والصادّين عن سبيل الله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تحدّثت الآيات السابقة عن عامّة الكفّار، وهذه الآية تشير إلى مجموعة خاصة منهم باءت بمخالفات وذنوب عظيمة، ذات علاقة بالمسجد الحرام ومراسم الحجّ العظيم... وهذه الفئة من الكفّار ترتكب ثلاث جرائم كبيرة، إضافةً إلى إنكارها الحقّ، وجرائمها هي: صدّ الناس عن سبيل الله والإيمان به والطاعة له.
صدّهم عن حجّ بيت الله الحرام، وتوهم أنّ لهم امتيازاً عن الآخرين.
ممارستهم للظلم وإرتكابهم الإثم في هذه الأرض المقدّسة، والله يعاقب هؤلاء بعذاب أليم..
يقصد بالصدّ عن سبيل الله كلّ عمل يحول دون إيمان الناس ودون قيامهم بالأعمال الصالحة، وهذا المفهوم الواسع يشمل البرامج الإعلامية والعلمية التي تتوخّى التضليل عن السبيل السوي والأعمال الصالحة.