الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (25)

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ } فعطف بالمستقبل على الماضي لأنّ الصدّ بمعنى دوام الصفة لهم ، ومعنى الآية : وهم يصدّون ومن شأنهم الصدّ ، نظيرها قوله

{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ } [ الرعد : 28 ] وقيل : لفظه مستقبل ، ومعناه الماضي ، أي : وصدّوا عن سبيل الله { وَالْمَسْجِدِ } يعني عن المسجد { الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ } خلقناه وبنيناه { لِلنَّاسِ } كلّهم لم نخصّ منهم بعضاً دون بعض { سَوَآءً الْعَاكِفُ } المقيم { فِيهِ وَالْبَادِ } الطاري المنتاب إليه من غيره .

وقرأ عاصم برواية حفص ويعقوب برواية روح : سواء بالنصب بإيقاع الجعل عليه لأنّ الجعل يتعدّى إلى مفعولين .

وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبره . وتمام الكلام عند قوله { لِلنَّاسِ } .

واختلف العلماء في معنى الآية : فقال قوم : سواء العاكف فيه والباد في تعظيم حرمته وقضاء النسك به وحقّ الله الواجب عليهما فيه ، وإليه ذهب مجاهد .

وقال آخرون : هما سواء في النزول به فليس أحدهما بأحقّ يكون فيه من الآخر . وحرّموا بهذه الآية كراء دور مكّة وكرهوا إجارتها في أيام الموسم .

قال عبد الله بن عمر : سواء أكلت محرماً أو كراء دار مكة .

وقال عبد الرَّحْمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحقّ بمنزله منهم فكان الرجل إذا وجد سعة نزل ، ففشا فيهم السرق ، وكلّ إنسان يسرق من ناحيته فاصطنع رجل باباً فأرسل إليه عمر : اتخذت باباً من حجاج بيت الله ؟ فقال : لا ، إنّما جعلته ليحترز متاعهم وهو قوله { سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } .

قال : البادي فيه كالمقيم ليس أحد أحقّ بمنزله من أُحد إلاّ أن يكون سبق إلى منزل ، وإلى هذا القول ذهب ابن عباس وابن جبير وابن زيد وباذان قالوا : هما سواء في البيوت والمنازل ، والقول الأول أقرب إلى الصواب .

أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسن بقراءتي عليه قال : حدَّثنا صفوان بن الحسين قال : حدَّثنا أبو محمد بن أبي حاتم قال : سمعت أبا إسماعيل الترمذي بمكة سنة ستين ومائتين قال : سمعت إسحاق بن راهويه يقول : جالست الشافعي بمكة فتذاكرنا في كراء بيوت مكة ، وكان يرخّص فيه ، وكنت لا أرخّص فيه ، فذكر الشافعي حديثاً وسكت ، وأخذت أنا في الباب ، أسرد فلمّا فرغت منه قلت لصاحب لي من أهل مرو بالفارسية : مرد كما لاني هست قرية بمرو ، فعلم أني راطنت صاحبي بشيء هجّنته فيه ، فقال لي : أتناظر ؟ قلتُ : وللمناظرة جئت ، فقال : قال الله سبحانه وتعالى { فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } نسب الديار إلى مالكيها أو غير مالكيها . ؟

وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وهل ترك عقيل لنا من رباع " ؟نسب الدار إلى أربابها أو غير أربابها وقال لي : اشترى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه دار السجن من مالك أو غير مالك ؟ فلمّا علمت أنّ الحجة لزمتني قمت .

{ وَمَن يُرِدْ فِيهِ } أي في المسجد الحرام { بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } يعني إلحاداً بظلم وهو الميل إلى الظلم ، والباء فيه زائدة كقوله : تنبت بالدهن أي تنبت الدهن .

قال الفرّاء : وسمعت أعرابياً من ربيعة وسألته عن شيء فقال : أرجو بذلك يريد أرجو ذلك .

وقال الشاعر :

بواد يمان ينبت الشت صدره *** وأسفله بالمرخ والشبهان

أي المرخ . وقال الأعشى :

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا *** بين المراجل والصريح الأجرد

بمعنى ضمنت رزق عيالنا أرماحنا وقال آخر :

ألم يأتيك والأنباء تنمي *** بما لاقت لبون بني زياد

واختلفوا في معنى الآية ، فقال مجاهد وقتادة { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } هو الشرك أن يعبد فيه غير الله سبحانه وتعالى .

وقال آخرون : هو استحلال الحرام وركوب الآثام فيه .

قال ابن مسعود : ما من رجل يهمّ بسيّئة فيكتب عليه ، ولو أنّ رجلاً بعدن أو ببلد آخر يهمّ أن يقتل رجلاً بمكّة ، أو يهمّ فيها بسيّئة ولم يعملها إلاّ أذاقه الله العذاب الأليم .

وقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه ما لا يقتلك ، أو تظلم من لا يظلمك ، وهذا القول معنى قول الضحاك وابن زيد .

أخبرنا أحمد بن أُبي قال : أخبرنا المغيرة بن عمرو قال : حدَّثنا المفضل بن محمد قال : حدَّثنا محمد بن يوسف قال : حدَّثنا أبو قرّة قال : ذكر سفيان عن ليث عن مجاهد أنّه قال : تُضاعف السيئات بمكّة كما تضاعف الحسنات .

ابن جريج : هو استحلال الحرام متعمّداً ، عن حبيب بن أبي ثابت : احتكار الطعام بمكة ، بعضهم : هو كل شيء كان منهيّاً عنه من القول والفعل حتى قول القائل : لا والله ، وبلى والله .

وروى شعبة : عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمر أنّه كان له فسطاطان أحدهما في الحلّ والآخر في الحرم ، فإن أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر ، فسئل عن ذلك فقال : كّنا نحدّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : كلاّ والله وبلى والله .