فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (25)

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 25 ) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( 26 ) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ( 27 ) } .

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ } أي يمنعون { عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ودينه من أراد الدخول فيه ، وعطف المضارع على الماضي لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصد ومثل هذا قوله : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ، والمسجد الحرام } ، أو المراد بالصد الاستمرار لا مجرد الاستقبال ، فصح عطفه بذلك على الماضي أي كفروا ، والحال أنهم يصدون ، وقيل الواو زائدة ، والمضارع خبر إن ، والأولى أن يقدر خبر إن بعد قوله الآتي { والباد } وذلك نحو خسروا أو هلكوا والمراد بالصد المنع .

{ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قيل : المراد به المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني ، وقيل : الحرم كله ، لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه يوم الحديبية ، وقيل المراد به مكة بدليل قوله :

{ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ } على العموم يصلون فيه ، ويطوفون به { سَوَاء } مستويان { الْعَاكِفُ } المقيم { فِيهِ } الملازم له ، ويدخل فيه الغريب إذا جاور وأقام به ولزم التعبد فيه { وَالْبَادِ } أي الواصل من البادية ، والمراد به الطارئ عليه المنتاب إليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم ، وصف المسجد الحرام بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادين عنه ، وقيل جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا للعاكف والبادي ، سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك به . وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة من أهل العلم ، ومعنى التسوية هو التسوية في تعظيم الكعبة وقضاء النسك فيه وفي فضل الصلاة فيه والطواف به . عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحد طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار " أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي{[1231]} .

قال القرطبي : وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه ، واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد ، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أم أبى .

وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها .

والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين : الأول ما في هذه الآية ، هل المراد بالمسجد الحرام نفسه أو جميع الحرم أو مكة على الخصوص . والثاني هل كان فتح مكة صلحا أو عنوة ؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة . وهل أقرها النبي صلى الله عليه وسلم في أيدي أهلها على الخصوص أو جعلها لمن نزل بها على العموم ، وقد أوضح الشوكاني هذا في شرحه على المنتقي بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة . ثم قال فيه بعد ذكر حجج الفريقين .

ومن أوضح الأدلة على أنها فتحت عنوة قوله صلى الله عليه وسلم ، " وإنما أحلت لي ساعة من نهار " {[1232]} ، فإن هذا تصريح بأنها أحلت له في ذلك بسفك الدماء بها وأن حرمتها ذهبت فيه وعادت بعده ، ولو كانت مفتوحة صلحا لما كان لذلك معنى ، وقد ذكر المقبلي في الإتحاف أدلة قوية على أن المراد به نفس المسجد . وعن ابن عباس : المسجد الحرام الحرم كله خلق الله فيه سواء . وعن سعيد بن جبير مثله . وأيضا قال : هم في منازل مكة سواء فينبغي لأهل مكة أن يتوسعوا لهم حتى يقضوا مناسكهم . والبادي وأهل مكة سواء يعني في المنزل والحرم . وعن ابن عمرو قال : من أخذ من أجور بيوت مكة إنما يأكل في بطنه نارا .

وعن عمر بن الخطاب إن رجلا قال له عند المروة : أقطعني مكانا لي ولعقبي فأعرض عنه وقال : هو حرم الله ، سواء العاكف فيه والباد ، وكان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبوابا حتى ينزل الحاج في عرصات الدور .

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية : " سواء المقيم والذي يدخل " أخرجه الطبراني وغيره ، قال السيوطي : بإسناد صحيح .

وعن ابن عمر مرفوعا قال : " مكة مباحة لا تؤجر بيوتها ولا تباع رباعها " أخرجه ابن مردوية .

وعن علقمة بن نضلة قال : " توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما يدعى رباع مكة إلا السوائب ، من احتاج سكن ومن استغنى سكن . رواه ابن ماجة . وأخرج الدارقطني عن ابن عمر مرفوعا " من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا ، وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها لأنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي ، وإليه ذهب أبو حنيفة وعلى هذا القول الأول يجوز ذلك ، وإليه ذهب الشافعي مستدلا بقوله تعالى : { الذين أخرجوا من ديارهم } فنسب الديار إليهم نسبة ملك واشتراء .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح : " من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن{[1233]} والأول أقوى والله أعلم .

{ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } مفعول { يرد } محذوف لقصد التعميم ، أي من يرد فيه مرادا ، أي مرادا بعدول عن القصد والاعتدال . والإلحاد في اللغة الميل ، إلا أنه سبحانه بين هنا أنه الميل بظلم . وقد اختلف في هذا الظلم ماذا هو ، فقيل هو الشرك ، وقيل الشرك والقتل ، وقيل صيد حيواناته وقطع أشجاره . وقيل هو الحلف فيه بالأيمان الفاجرة .

وقيل المراد المعاصي فيه على العموم حتى شتم الخادم ، وقيل هو دخول الحرم بغير إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم ، وقيل احتكار الطعام ، لما روى يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه " أخرجه أبو داود{[1234]} .

وعن ابن عمر " بيع الطعام بمكة إلحاد " وعنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " احتكار الطعام بمكة إلحاد " {[1235]} أخرجه البيهقي في الشعب ، والباء في بإلحاد قيل ليست بزائدة إن كان مفعول { يرد } محذوفا كما ذكرنا . وقيل زائدة ، وبه قال الأخفش ، والمعنى عنده ومن يرد فيه إلحادا بظلم ، وقال أهل الكوفة : المعنى بأن يلحد ، وقيل من يرد الناس بإلحاد ، وقيل إن يرد مضمنا معنى يهم ، والمعنى من يهم فيه بإلحاد ، والباء في بظلم للسببية وقيل غير ذلك .

{ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } في الآخرة إلا أن يتوب . قال السدي ، قيل المراد بهذه الآية أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان ، وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم حتى قالوا : لو هم الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذبه الله .

وعن ابن مسعود رفعه قال : لو أن رجلا هم بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذابا أليما . قال ابن كثير : هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري وقفه أشبه من رفعه . وعنه قال : من هم بخطيئة فلم يعلمها في سوى البيت لم يكتب عليه حتى يعلمها ، ومن هم بخطيئة في البيت لم يمته الله من الدنيا حتى يذيقه من عذاب أليم .

وعن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية فيعبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب ، فغضب ابن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام وهرب إلى مكة ، فنزلت فيه { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } ، يعني من لجأ إلى الحرام بإلحاد بميل عن الإسلام .

والحاصل أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذ بمجرد الإرادة للظلم فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها إلا أن يقال إن الإرادة فيها زيادة على مجرد حديث النفس ، وبالجملة فالبحث عن هذا تقرير الحق فيه على وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الأشكال يطول جدا ، ومثل هذه الآية حديث " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار " ، قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه " {[1236]} ، فدخل النار هنا بمجرد حرصه على قتل صاحبه ، وقد أفرد الشوكاني هذا البحث برسالة مستقلة .


[1231]:النسائي كتاب الحج باب 42.
[1232]:البخاري كتاب العلم باب 37. 39 ـ أبو داوود كتاب المناسك باب 89.
[1233]:مسلم 1780.
[1234]:أبو داوود كتاب المناسك 89.
[1235]:مشكاة المصابيح 2723.
[1236]:مسلم 2888 ـ البخاري 29.