الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (25)

قوله : { وَيَصُدُّونَ } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه معطوفٌ على ما قبلَه . وحينئذٍ ففي عطفِه على الماضي ثلاثةُ تأويلاتٍ . أحدُها : أنَّ المضارعَ قولاً يُقْصَدُ به الدلالةُ على زمنٍ معينٍ من حالٍ ، أو استقبالٍ ، وإنما يُراد به مجردُ الاستمرارِ . ومثلُه { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ } [ الرعد : 28 ] . الثاني : أنه مؤولٌ بالماضي لعطفِه على الماضي . الثالث : أنه على بابِه ، وأنَّ الماضي قبلَه مُؤَوَّل بالمستقبل .

الوجه الثاني : أنَّه حالٌ من فاعل " كفروا " وبه بدأ أبو البقاء . وهو فاسدٌ ظاهراً ؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ ، وما كان كذلك لا تَدْخُل عليه الواو ، وما ورد منه على قِلَّتِه مؤولٌ فلا يُحْمل عليه القرآنُ ، وعلى هذين القولَيْنِ فالخبرُ محذوفٌ . واختلفوا في موضعِ تقديرِه : فقدَّره ابن عطية بعد قولِه " والبادِ " أي : إن الذين كفروا خَسِروا أو هلكوا ونحو ذلك . وقدَّره الزمخشري بعد قوله { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : إنَّ الذين كفروا نُذِيْقُهم من عذاب أليم . وإنما قَدَّره كذلك لأن قوله : { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } يَدُلُّ عليه .

إلاَّ أنَّ الشيخَ قال في تقدير الزمخشري بعد المسجد الحرام : " لا يصحُّ " ، قال : " لأنَّ " الذي " صفة للمسجد الحرام ، فموضعُ التقديرِ هو بعد " البادِ " يعني : أنه يلزمُ من تقديرِه الفصلُ بينَ الصفةِ والموصوفِ بأجنبيّ ، وهو خبرُ " إنّ " ، فيصيرُ التركيبُ هكذا : إنَّ الذين كفروا ويَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ والمسجدِ الحرام نُذيقُهم مِنْ عذابٍ أليمٍ الذي جَعَلْناه للناس . وللزمخشريِّ أّنْ ينفصِلَ عن هذا الاعتراضِ بأن " الذي جَعَلْناه " لا نُسَلِّمُ أنَّه نعتٌ للمسجد حتى يَلْزَمَ ما ذَكَر ، بل نَجْعَلُه مقطوعاً عنه نَصْباً أو رفعاً .

ثم قال الشيخ : " لكنَّ مُقَدَّرَ الزمخشريِّ أحسنُ من مقدَّرِ ابنِ عطية ؛ لأنه يَدُلُّ عليه الجملةُ الشرطية بعدُ مِنْ جهة اللفظ ، وابنُ عطية لَحَظَ من جهةِ المعنى ؛ لأنَّ مَنْ أّذيق العذابَ خَسِر وهَلَكَ " .

الوجه الثالث : أنَّ الواوَ في " ويَصُدُّون " مزيدةٌ في خبر " إنَّ " تقديرُه : إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون . وزيادةُ الواوِ مذهبٌ كوفي تقدَّم بُطلانُه ، وقال ابنُ عطية : " وهذا مْفْسِدٌ للمعنى المقصودِ " . قلت : ولا أَدْري فسادَ المعنى من أيِّ جهة ؟ ألا ترى أنه لو صُرِّح بقولِنا : إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون لم يكنْ فيه فسادُ معنى . فالمانع إنما هو أمرٌ صناعيٌّ عند أهل البصرة لا معنويٌّ . اللهم إلاَّ أَنْ يريدَ معنىً خاصاً/ يَفْسُدُ لهذا التقديرِ فيُحتاج إلى بيانه .

قوله : { الَّذِي جَعَلْنَاهُ } يجوزُ جَرُّه على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ ، والنصبُ بإضمار فعلٍ ، والرفعُ بإضمارِ مبتدأ . و " جَعَلَ " يجوز أن يتعدَّى لاثنين بمعنى صَيَّر ، وأَنْ يتعدَّى لواحدٍ .

والعامَّةُ على رفعِ ِ " سواءٌ " وقرأه حفصٌ عن عاصم بالنصبِ هنا وفي الجاثية : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ } [ الآية : 21 ] . ووافق على الذي في الجاثيةِ الأخَوان ، وسيأتي توجيهُه . فأمَّا على قراءةِ الرفع فإن قلنا : إنَّ جَعَلَ بمعنى صَيَّر كان في المفعولِ الثاني أوجهٌ ، أحدها : وهو الأظهرُ أنَّ الجملةَ مِنْ قولِه { سَوَآءٌ الْعَاكِفُ فِيهِ } هي المفعولُ الثاني ، ثم الأحسنُ في رفع " سواءٌ " أن يكون خبراً مقدماً ، والعاكفُ والبادي مبتدأ مؤخر . وإنما وُحِّد الخبرُ وإن كان المبتدأُ اثنين ؛ لأنَّ سواء في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به . وقد تقدَّم هذا أولَ البقرة . وأجاز بعضُهم أن يكون " سواءٌ " مبتدأ ، واما بعدَه الخبر . وفيه ضَعْفٌ أو مَنْعٌ من حيث الابتداءُ بالنكرة من غير مُسَوِّغٍ ، ولأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جُعِلت المعرفةُ المبتدأ . وعلى هذا الوجهِ أعني كونَ الجملة مفعولاً ثانياً فقولُه " للناس " يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلق بالجَعْل أي : جَعَلْناه لأجلِ الناسِ كذا . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ ، على أنَّه حالٌ مِنْ مفعول " جَعَلْناه " ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجهِ غيرَ ذلك وليس معناه متضحاً .

الوجه الثاني : أنَّ " للناس " هو المفعولُ الثاني . والجملةُ مِنْ قوله { سَوَآءٌ الْعَاكِفُ } في محلِّ نصب على الحال : إمَّا من الموصول ، وإمَّا مِنْ عائِدِه . وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء . وفيه نظرٌ ؛ لأنه جعل هذه الجملةَ التي هي محطُّ الفائدةِ فَضْلةً .

الوجه الثالث : أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ ، قال ابن عطية : " والمعنى : الذي جَعَلْناه للناس قِبْلةً ومتعبَّداً . فتقدير ابنِ عطية هذا مُرْشِدٌ لهذا الوجهِ . إلاَّ أن الشيخ " . قال " ولا يُحتاج إلى هذا التقديرِ ، إلاَّ إنْ كان أراد تفسيرَ المعنى لا الإِعراب . فيَسُوغ لأنَّ الجملةَ في موضعِ المفعولِ الثاني ، فلا يُحتاج إلى هذا التقديرِ . وإنْ جَعَلْناها متعديةً لواحدٍ كان قولُه " للناس " متعلقاً بالجَعْلِ على العِلَّيَّة . وجَوَّزَ فيه أبو البقاء وجهين آخرين ، أحدهما : أنه حالٌ من مفعولِ " جَعَلْناه " . والثاني : أنه مفعولٌ تعدَّى إليه بحرف الجر . وهذا الثاني لا يُتَعَقَّل ، كيف يكون " للناس " مفعولاً عُدِّي إليه الفعلُ بالحرف ؟ هذا ما لا يعقلُ . فإن أراد أنه مفعولٌ مِنْ أجله فهي عبارةٌ بعيدةٌ من عبارة النحاة .

وأمَّا على قراءةِ حفصٍ : فإنْ قلنا : " جَعَلَ " يتعدَّى لاثنين كان " سواءً " مفعولاً ثانياً . وإنْ قُلْنا يتعدَّى لواحدٍ كان حالاً من هاءِ " جَعَلْناه " وعلى التقديرين : فالعاكفُ مرفوعٌ به على الفاعليةِ ؛ لأنه مصدرٌ وُصِفَ به فهو في قوةِ اسم الفاعل المشتقِّ تقديرُه : جَعَلْناه مُسْتوياً فيه العاكفُ . ويَدُلُّ عليه قولُهم : " مررتُ برجلٍ سواءٍ هو والعَدَمُ " . ف " هو " تأكيدٌ للضميرِ المستترِ فيه ، و " العَدَمُ " نسقٌ على الضميرِ المستترِ ولذلك ارتفعَ .

ويُرْوى : " سواءٍ والعدمُ " بدونِ تأكيدٍ وهو شاذٌّ .

وقرأ الأعمش وجماعةٌ " سَواءً " نصباً ، " العاكف " جراً . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه بدلٌ من " الناس " بدلُ تفصيل . والثاني : أنه عطفٌ بيانٍ . وهذا أراد ابنُ عطية بقولِه " عَطْفاً على الناس " ويمتنع في هذه القراءةِ رفعُ " سواء " لفسادِه صناعةً ومعنىً ؛ ولذلك قال أبو البقاء : " وسواءً على هذا نصبٌ لا غير " .

وأثبتَ ابنُ كثير ياءَ " والبادي " وصلاً ووقفاً ، وأثبتها أبو عمرو وورش وصلاً وحذفاها وقفاً . وحَذَفَها الباقون وَصْلاً ووَقْفاً وهي محذوفةٌ في الإِمام .

قوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ مفعولَ " يُرِدْ " محذوفٌ ، وقولُه : " بإلحادٍ بظلم " حالان مترادفتان . والتقديرُ : ومَنْ يُرِدْ فيه مراداً ما ، عادِلاً عن القصدِ ظالماً ، نُذِقْه من عذابٍ أليم . وإنما حُذِفَ ليتناولَ كلَّ متناوَلٍ . قال معناه الزمخشريُّ . والثاني : أن المفعولَ أيضاً محذوفٌ تقديرُه : ومَنْ يُرِدْ فيه تَعَدِّياً ، و " بإلحادٍ " حال أي : مُلْتَبِساً بإلحادٍ . و " بظُلْمٍ " بدلٌ بإعادةِ الجارِّ . الثالث : أَنْ يكونَ " بظلمٍ " متعلقاً ب " يُرِدْ " ، والباءُ للسببيةِ أي بسببِ الظلم و " بإلحاد " مفعولٌ به . والباءُ مزيدةٌ فيه كقولِه :

{ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] [ وقولِه : ]

3380 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر

وإليه ذهب أبو عبيدة ، وأنشد للأعشى :

ضَمِنَتْ برزقِ عيالِنا أرماحُنا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي : ضَمِنَتْ رزقَ . ويؤيِّده قراءة الحسن " ومَنْ يُرِدْ إلحادهُ بظُلْمٍ " . قال الزمخشري : أراد إلحاده فيه فأضافه على الاتِّساعِ في الظرف ك { مَكْرُ الَّيْلِ } [ سبأ : 33 ] ومعناه : ومَنْ يُرِدْ أن يُلْحِدَ فيه ظالماً . الرابع : أن يُضَمَّنَ " يُرِدْ " معنى يتلبَّس ، فلذلك تعدَّى بالباء أي : ومَنْ يتلَبَّسْ بإلحادٍ مُرِيْداً له .

والعامَّةُ على " يُرِدْ " بضم الياء من الإِرادة . وحكى الكسائي والفراء أنه قُرِىء " يَرِدْ " بفتح الياء . وقال الزمخشري : " من الوُرُوْد ومعناه : مَنْ أتى فيه بإلحادٍ ظالماً " .