فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (25)

قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } عطف المضارع على الماضي ؛ لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصدّ ، ومثل هذا قوله : { الذين كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ الله } [ محمد : 1 ] ، أو المراد بالصدّ ها هنا الاستمرار لا مجرّد الاستقبال ، فصح بذلك عطفه على الماضي ، ويجوز أن تكون الواو في : { ويصدّون } واو الحال ، أي كفروا والحال أنهم يصدون . وقيل : الواو زائدة والمضارع خبر ( إن ) والأولى أن يقدر خبر ( إن ) بعد قوله : { والباد } وذلك نحو خسروا أو هلكوا . وقال الزجاج : إن الخبر { نذقه من عذاب أليم } . وردّ بأنه لو كان خبراً لأن لم يجزم وأيضاً لو كان خبراً لإن لبقي الشرط وهو { وَمَن يُرِدِ } بغير جواب ، فالأولى أنه محذوف كما ذكرنا . والمراد بالصدّ : المنع وبسبيل الله : دينه ، أي : يمنعون من أراد الدخول في دين الله و{ المسجد الحرام } ، معطوف على { سبيل الله } قيل : المراد به : المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني . وقيل : الحرم كله ، لأن المشركين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند يوم الحديبية . وقيل : المراد به : مكة بدليل قوله : { الذي جعلناه لِلنَّاسِ سَوَاء العاكف فِيهِ والباد } أي جعلناه للناس على العموم يصلون فيه ويطوفون به مستوياً فيه العاكف ، وهو المقيم فيه الملازم له ، والباد أي الواصل من البادية ، والمراد به : الطارئ عليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم . وانتصاب { سواء } على أنه المفعول الثاني لجعلناه ، وهو بمعنى مستوياً ، و{ العاكف } مرتفع به ، وصف المسجد الحرام بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادّين عنه ، ويحتمل أن يكون انتصاب { سَوَاء } على الحال . وهذا على قراءة النصب ، وبها قرأ حفص عن عاصم ، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ الجمهور برفع { سواء } على أنه مبتدأ وخبره { العاكف } أو على أنه خبر مقدّم ، والمبتدأ { العاكف } أي العاكف فيه والبادي سواء ، وقرئ بنصب { سواء } وجرّ { العاكف } على أنه صفة للناس ، أي جعلناه للناس ، العاكف والبادي سواء ، وأثبت الياء في البادي ابن كثير وصلا ووقفا ، وحذفها أبو عمرو في الوقف ، وحذفها نافع في الوصل والوقف . قال القرطبي : وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه .

واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ . وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد ، وعلى ربّ المنزل أن يؤويه شاء أم أبى . وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام ، ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها . والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين : الأصل الأوّل : ما في هذه الآية : هل المراد بالمسجد الحرام المسجد نفسه ، أو جميع الحرم ، أو مكة على الخصوص ؟ والثاني : هل كان فتح مكة صلحاً أو عنوة ؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة هل أقرّها النبيّ صلى الله عليه وسلم في يد أهلها على الخصوص ؟ أو جعلها لمن نزل بها على العموم ؟ وقد أوضحنا هذا في شرحنا على المنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } مفعول " يرد " محذوف لقصد التعميم ، والتقدير : ومن يرد فيه مراداً ، أيّ مراد بإلحاد ، أي بعدول عن القصد ، والإلحاد في اللغة : الميل إلا أنه سبحانه بيّن هنا أنه الميل بظلم .

وقد اختلف في هذا الظلم ماذا هو ؟ فقيل : هو الشرك ، وقيل : الشرك والقتل ، وقيل : صيد حيواناته وقطع أشجاره ، وقيل : هو الحلف فيه بالأَيمان الفاجرة ، وقيل : المراد : المعاصي فيه على العموم . وقيل : المراد بهذه الآية أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان . وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم حتى قالوا : لو همّ الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذّبه الله . والحاصل : أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذ بمجرّد الإرادة للظلم ، فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها ، إلا أن يقال : إن الإرادة فيها زيادة على مجرّد حديث النفس ، وبالجملة فالبحث عن هذا وتقرير الحق فيه على وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الإشكال يطول جدّاً ، ومثل هذه الآية حديث : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) ، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : ( إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ) فدخل النار هنا بسبب مجرّد حرصه على قتل صاحبه . وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة ، والباء في قوله : { بِإِلْحَادٍ } إن كان مفعول { يرد } محذوفاً كما ذكرنا فليست بزائدة . وقيل : إنها زائدة هنا كقول الشاعر :

نحن بنو جعدة أصحاب الفَلَج *** نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أي : نرجو الفرج ، ومثله :

ألم يأتيك والأنباء تنمي *** بما لاقت لبون بني زياد

أي : ما لاقت ، ومن القائلين بأنها زائدة الأخفش ، والمعنى عنده : ومن يرد فيه إلحاداً بظلم . وقال الكوفيون : دخلت الباء لأن المعنى : بأن يلحد ، والباء مع أن تدخل وتحذف ، ويجوز أن يكون التقدير : ومن يرد الناس بإلحاد . وقيل : إن { يرد } مضمن معنى : يهمّ ، والمعنى : ومن يهمّ فيه بإلحاد . وأما الباء في قوله : { بظلم } فهي للسببية ، والمعنى : ومن يرد فيه بإلحاد بسبب الظلم ، ويجوز أن يكون { بظلم } بدلاً من { بإلحاد } بإعادة الجارّ ، ويجوز أن يكونا حالين مترادفين .

/خ29