قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } عطف المضارع على الماضي ؛ لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصدّ ، ومثل هذا قوله : { الذين كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ الله } [ محمد : 1 ] ، أو المراد بالصدّ ها هنا الاستمرار لا مجرّد الاستقبال ، فصح بذلك عطفه على الماضي ، ويجوز أن تكون الواو في : { ويصدّون } واو الحال ، أي كفروا والحال أنهم يصدون . وقيل : الواو زائدة والمضارع خبر ( إن ) والأولى أن يقدر خبر ( إن ) بعد قوله : { والباد } وذلك نحو خسروا أو هلكوا . وقال الزجاج : إن الخبر { نذقه من عذاب أليم } . وردّ بأنه لو كان خبراً لأن لم يجزم وأيضاً لو كان خبراً لإن لبقي الشرط وهو { وَمَن يُرِدِ } بغير جواب ، فالأولى أنه محذوف كما ذكرنا . والمراد بالصدّ : المنع وبسبيل الله : دينه ، أي : يمنعون من أراد الدخول في دين الله و{ المسجد الحرام } ، معطوف على { سبيل الله } قيل : المراد به : المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني . وقيل : الحرم كله ، لأن المشركين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند يوم الحديبية . وقيل : المراد به : مكة بدليل قوله : { الذي جعلناه لِلنَّاسِ سَوَاء العاكف فِيهِ والباد } أي جعلناه للناس على العموم يصلون فيه ويطوفون به مستوياً فيه العاكف ، وهو المقيم فيه الملازم له ، والباد أي الواصل من البادية ، والمراد به : الطارئ عليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم . وانتصاب { سواء } على أنه المفعول الثاني لجعلناه ، وهو بمعنى مستوياً ، و{ العاكف } مرتفع به ، وصف المسجد الحرام بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادّين عنه ، ويحتمل أن يكون انتصاب { سَوَاء } على الحال . وهذا على قراءة النصب ، وبها قرأ حفص عن عاصم ، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ الجمهور برفع { سواء } على أنه مبتدأ وخبره { العاكف } أو على أنه خبر مقدّم ، والمبتدأ { العاكف } أي العاكف فيه والبادي سواء ، وقرئ بنصب { سواء } وجرّ { العاكف } على أنه صفة للناس ، أي جعلناه للناس ، العاكف والبادي سواء ، وأثبت الياء في البادي ابن كثير وصلا ووقفا ، وحذفها أبو عمرو في الوقف ، وحذفها نافع في الوصل والوقف . قال القرطبي : وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه .
واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ . وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد ، وعلى ربّ المنزل أن يؤويه شاء أم أبى . وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام ، ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها . والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين : الأصل الأوّل : ما في هذه الآية : هل المراد بالمسجد الحرام المسجد نفسه ، أو جميع الحرم ، أو مكة على الخصوص ؟ والثاني : هل كان فتح مكة صلحاً أو عنوة ؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة هل أقرّها النبيّ صلى الله عليه وسلم في يد أهلها على الخصوص ؟ أو جعلها لمن نزل بها على العموم ؟ وقد أوضحنا هذا في شرحنا على المنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } مفعول " يرد " محذوف لقصد التعميم ، والتقدير : ومن يرد فيه مراداً ، أيّ مراد بإلحاد ، أي بعدول عن القصد ، والإلحاد في اللغة : الميل إلا أنه سبحانه بيّن هنا أنه الميل بظلم .
وقد اختلف في هذا الظلم ماذا هو ؟ فقيل : هو الشرك ، وقيل : الشرك والقتل ، وقيل : صيد حيواناته وقطع أشجاره ، وقيل : هو الحلف فيه بالأَيمان الفاجرة ، وقيل : المراد : المعاصي فيه على العموم . وقيل : المراد بهذه الآية أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان . وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم حتى قالوا : لو همّ الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذّبه الله . والحاصل : أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذ بمجرّد الإرادة للظلم ، فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها ، إلا أن يقال : إن الإرادة فيها زيادة على مجرّد حديث النفس ، وبالجملة فالبحث عن هذا وتقرير الحق فيه على وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الإشكال يطول جدّاً ، ومثل هذه الآية حديث : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) ، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : ( إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ) فدخل النار هنا بسبب مجرّد حرصه على قتل صاحبه . وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة ، والباء في قوله : { بِإِلْحَادٍ } إن كان مفعول { يرد } محذوفاً كما ذكرنا فليست بزائدة . وقيل : إنها زائدة هنا كقول الشاعر :
نحن بنو جعدة أصحاب الفَلَج *** نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
ألم يأتيك والأنباء تنمي *** بما لاقت لبون بني زياد
أي : ما لاقت ، ومن القائلين بأنها زائدة الأخفش ، والمعنى عنده : ومن يرد فيه إلحاداً بظلم . وقال الكوفيون : دخلت الباء لأن المعنى : بأن يلحد ، والباء مع أن تدخل وتحذف ، ويجوز أن يكون التقدير : ومن يرد الناس بإلحاد . وقيل : إن { يرد } مضمن معنى : يهمّ ، والمعنى : ومن يهمّ فيه بإلحاد . وأما الباء في قوله : { بظلم } فهي للسببية ، والمعنى : ومن يرد فيه بإلحاد بسبب الظلم ، ويجوز أن يكون { بظلم } بدلاً من { بإلحاد } بإعادة الجارّ ، ويجوز أن يكونا حالين مترادفين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.