الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (25)

ثم قال : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله }[ 23 ] .

أي : إن الذين جحدوا توحيد الله ، وكذبوا رسله ومنعوا الناس الدخول في دين الله وصدوهم عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس المؤمنين كافة لم يخصص به بعض دون بعض ، هلكوا . وهذا خبر أن ، محذوف من الكلام .

وقيل : الخبر : يصدون . فالواو زائدة .

قال أبو إسحاق : الخبر : نذقه من عذاب أليم . وهذا غلط ، لأنه جواب الشرط .

ثم قال : { سواء العاكف فيه والباد }[ 23 ] .

أي : معتدل في النزول فيه ، المقيم والبادي . فالبادي [ المنتاب إليه من غيره ]{[46766]} .

والعاكف أهله . أي : ليس أحدهم أحق بالمنزل يكون فيه من الآخر ، إلا أن يكون أحد سبق إلى منزل .

قال ابن زيد ومجاهد{[46767]} : ذلك مباح في بيوت مكة .

وروي{[46768]} أن الأبواب إنما عملت على بيوت مكة من السَّرَق{[46769]} ، لأن الناس كانوا ينزلون أينما وجدوا . فعمل رجل بابا ، فأرسل إليه عمر : اتخذت بابا من حجاج بيت الله ؟ فقال : لا ، إنما جعلته متحرز متاعهم . واختلف في الآية . فقيل{[46770]} : عُني بها المسجد الحرام خاصة . ليس أحد أولى به من غيره .

وقيل{[46771]} : عني بها مكة ، ليس أحد أولى بمسكن فيها من غيره .

والمعنى : والمسجد الحرام . أي : ويصدون الناس عن دخول المسجد الحرام والصلاة فيه ، والطواف بالبيت ، وهو موضع يستوي فيه المقيم والطارئ ، حقهم فيه واحد . وهذا يدل على أن المراد المسجد الحرام ، دون بيت مكة ، وهو ظاهر اللفظ . وقد ملك الناس دور مكة وتبايعوا من أول الإسلام إلى الآن وهم يتوارثونها من أول الإسلام . فظاهر لفظ الآية إنما يدل على أن العاكف والطارئ حقهما في المسجد سواء ، لا فضل لأحدهما على الآخر .

وقد قال ابن عباس{[46772]} : ذلك في المسجد الحرام خاصة .

وعن مجاهد وعطاء : أن المعنى : أن أهل مكة والغريب بها ، هما في حرمة الإسلام سواء ، لا يمنع أحد من دخوله من المؤمنين . لا يُضر أحد منه . وهذا القول يؤيده صدر الآية ، لأنه تعالى إنما ذكر [ صد ]{[46773]} الكافرين المؤمنين عن المسجد الحرام ومنعهم منه . ثم أعلمنا آخر الآية أن أهله والغريب في حرمته سواء ، لا يُمنع أحد منهم .

ومن قرأ ( سواء ) بالرفع ، جعله مبتدأ . والعاكف فيه خبره . وإن شئت جعلت العاكف مبتدأ وسواء خبر مقدم . فتقف على ( للناس ) ، على تقدير الوجهين . ويكون : ( للناس ) ، في موضع المفعول الثاني ، تقف على ( للناس ) . ومن قرأ بالنصب ، جعله مفعولا ثانيا ل ( جعلنا ) ويرتفع العاكف . والأحسن عند سيبويه في مثل هذا : الرفع ، لأنه غير جار على الفعل . وقد قرئ ( سواء ) بالنصب ( العاكف ) بالخفض ، على أن يكون ( سواء ) مفعولا ثانيا ل( جعلناه ) والعاكف والبادي بدلا من الناس ، أو نعتا لهم .

ثم قال : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه } فالباء في ( بإلحاد ) زائدة . قاله : الأخفش وأبو عبيدة{[46774]} . وقال الكوفيون : إنما دخلت الباء هنا ، لأن معناه : ومن يرد فيه بأن يلحد . والباء تدخل وتحذف مع ( أن ) كثيرا ومنع المبرد ، الزيادة في كتاب الله ، والقول عنده : إن يرد . يدل على الإرادة . فيدخل الباء مع الفعل . على تقدير دخولها مع المصدر . فالتقدير عنده . ومن أراد به بأن يلحد ، وهو ظالم{[46775]} . كما قال : أريد لأنسى ذكره . فكأنما تخيل لي ليلا بكل سبيل . فأدخل اللام ، على تقدير دخولها مع المصدر . أي : إرادتي لكذا .

قال ابن عباس{[46776]} : { بظلم } بشرك .

وقال مجاهد{[46777]} : ( من يرد فيه غير الله ) وقاله الحسن .

وقال قتادة{[46778]} : من أشرك في بيت الله ، عذبه الله .

وعن ابن عباس{[46779]} : أن المعنى : من استحل من الحرام ما حرم الله ، أذاقه الله العذاب المؤلم ، مثل القتل ونحوه .

وقال مجاهد{[46780]} : معناه : من يعمل فيه عملا [ سيئا ]{[46781]} .

وهذه الآية تدل على أن الإنسان /{[46782]} يجب عليه العقاب{[46783]} بنيته لفعل الشر في الحرم . ألا ترى إلى قوله : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } ولم يقل : من يفعل ذلك . وإنما ذكر العقوبة على الإرادة فقط ، فهو ظاهر الآية ، وذلك لعظيم حرمة الحرم وجلاله قدره ، وكذلك يضاعف فيه الحسنات أكثر مما يضاعف في غيره .

وقال ابن عمر{[46784]} : ما من رجل يهم بسيئة فتكتب{[46785]} عليه ، يعني : في غير الحرم وفي غير أهل الحرم ، قال : ولو أن رجلا بِعَدَن أبينَ همَّ بقتل رجل بهذا البيت إلا أذاقه الله من العذاب الأليم .

وقال الضحاك{[46786]} : إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها فتكتب{[46787]} عليه .

وعن ابن عباس أيضا أن المعنى{[46788]} : من يرد استحلاله متعمدا .

وقال حبيب بن أبي ثابت{[46789]} : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) ، هم : المحتكرون الطعام بمكة .

وروي عن عمر بن الخطاب{[46790]} رضي الله عنه أنه قال : احتكار الطعام بمكة إلحاد .

وقال مجاهد{[46791]} : بيع الطعام بمكة إلحاد ، وليس الجالب كالمقيم .

وقال الضحاك : الإلحاد في هذا الموضع : الشرك .

وقال عطاء : هو عبادة غير الله .

وقيل{[46792]} : إنه كل ما كان منهيا عنه{[46793]} حتى قول الرجل : ( لا والله وبلى والله ) .

وروى مجاهد أن ابن عمر{[46794]} كان له فسطاطان ، أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله ، عاتبهم في الحل . فسئل عن ذلك فقال : كنا{[46795]} نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل بمكة بلى والله ، وكلا والله . وأصل الإلحاد ، الميل عن القصد{[46796]} ، ومنه سمي اللحد ، ولو كان مستويا لقيل ضريح .

ومنه قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه }{[46797]} .

يقال : لحد وألحد بمعنى واحد .

وحكى الأحمر{[46798]} : ألحد إذا جادل ولحد إذا عدل ومال{[46799]} .


[46766]:من الطبري. وفي ز المغتاب إليه من عسرة. وهو تحريف. وانتاب الرجل القوم انتيابا إذا قصدهم وأتاهم مرة بعد مرة. انظر: اللسان (نوب).
[46767]:انظر: تفسير ابن كثير 3/214.
[46768]:القول: لابن سابط في جامع البيان 17/137، وتفسير القرطبي 12/32.
[46769]:من الطبري، وفي ز، الشرق، وهو تحريف.
[46770]:انظر: زاد المسير 5/419 وتفسير القرطبي 11/32.
[46771]:القول: المجاهد في جامع البيان 17/137، ولابن عباس وابن جبير وقتادة في زاد المسير 5/420 والدر المنثور 4/350.
[46772]:انظر: الدر المنثور 4/351، وفتح القدير 3/449.
[46773]:ز: صدر. ولعل الصواب ما أثبتناه.
[46774]:انظر: معاني الأخفش 2/414 ومجاز القرآن 2/48.
[46775]:ز: ظالمة.
[46776]:انظر: جامع البيان 17/17/140 وزاد المسير 5/422 والبحر المحيط 6/363.
[46777]:انظر: جامع البيان 17/140 والدر المنثور 4/351.
[46778]:نظر: المصدر السابق.
[46779]:انظر: جامع البيان 17/140.
[46780]:انظر: تفسير ابن كثير 3/214، والبحر المحيط 6/363.
[46781]:ز: شيئا. (تصحيف) والتصحيح من جامع البيان 17/140.
[46782]:انتهى النقل من ز.
[46783]:ز: العذاب.
[46784]:انظر: جامع البيان 17/141، وتفسير القرطبي 12/35، وابن كثير 3/215.
[46785]:ز: فكتب.
[46786]:انظر: جامع البيان 17/141، وزاد المسير 5/422، وتفسير القرطبي 12/35، والدر المنثور 4/352.
[46787]:ز: فكتب.
[46788]:انظر: جامع البيان 17/141 والبحر المحيط 6/363 وابن كثير 3/214.
[46789]:انظر: جامع البيان 17/141 وابن كثير 3/215 والبحر المحيط 6/363 والقائل هو حبيب ابن أبي ثابت، قيس بن دينار، ويقال قيس بن هند (ت: 119 هـ) انظر: ترجمته في تذكرة الحفاظ 1/116 وتهذيب التهذيب 2/179.
[46790]:انظر: تفسير القرطبي 12/35 والدر المنثور 4/352.
[46791]:القول لابن عمر في الدر المنثور 4/352.
[46792]:القول: لعطاء في الكشاف 4/81.
[46793]:عنه سقطت من ز.
[46794]:ز: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي الطبري ابن عمرو. وانظر: الرواية في جامع البيان 17/141 والكشاف 4/81 والقرطبي 12/34 وأحكام ابن العربي 3/1276.
[46795]:كنا سقطت من ز.
[46796]:انظر: أساس البلاغة: 405 والعمدة في غريب القرآن: 212. وتفسير الغريب: 291.
[46797]:الأعراف آية 180.
[46798]:وهو عنبسة بن النضر الأحمر أبو عبد الرحمن البشكري المقرئ النحوي. ترجمته في غاية النهاية 1/605.
[46799]:انظر: تهذيب اللغة 4/421 واللسان (لحد).