تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

يقول تعالى موطئا قبل المقصود المعنوي أمرا حسيا معروفا ، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ، ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله : أنت عَلَيَّ كظهر أمي أمًا له ، كذلك لا يصير الدَّعيّ ولدًا للرجل إذا تبنَّاه فدعاه ابنا له ، فقال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } ، كقوله : { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } . [ المجادلة : 3 ] .

وقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } : هذا هو المقصود بالنفي ؛ فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة ، وكان يقال له : " زيد بن محمد " فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } كما قال في أثناء السورة : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [ الأحزاب : 40 ] وقال هاهنا : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } يعني : تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا ، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر ، فما يمكن أن يكون له أبوان ، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان .

{ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } : قال سعيد بن جبير { يَقُولُ الْحَقَّ } أي : العدل . وقال قتادة : { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } أي : الصراط المستقيم .

وقد ذكر غير واحد : أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش ، كان يقال له : " ذو القلبين " ، وأنه كان يزعم أن له قلبين ، كل منهما بعقل وافر . فأنزل الله هذه الآية ردا عليه . هكذا روى العَوْفي عن ابن عباس . قاله مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، واختاره ابن جرير .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زهير ، عن قابوس - يعني ابن أبي ظِبْيَان - أن أباه حدثه قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله تعالى{[23174]} : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ، ما عنى بذلك ؟ قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي ، فخَطَر خَطْرَة ، فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترون له قلبين ، قلبا معكم وقلبا معهم ؟ فأنزل الله ، عز وجل : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }{[23175]} .

وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن صاعد الحراني - وعن عبد بن حميد ، عن أحمد بن يونس - كلاهما عن زهير ، وهو ابن معاوية ، به . ثم قال : وهذا حديث حسن . وكذا رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث زهير ، به . {[23176]}

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، في قوله : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } قال : بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ، ضُرب له مثل ، يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك{[23177]} .

وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : أنها نزلت في زيد بن حارثة . وهذا يوافق ما قدَّمناه من التفسير ، والله أعلم .


[23174]:- في ف: "عز وجل".
[23175]:- المسند (1/267).
[23176]:- سنن الترمذي برقم (3199) وتفسير الطبري (21/74).
[23177]:- تفسير عبد الرزاق (2/92).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

اختلف الناس في السبب في قوله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ، فقال ابن عباس سببها أن بعض المنافقين قال : إن محمداً له قلبان ، لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول فقالوا ذلك عنه فنفاه الله تعالى عنه ، وقال ابن عباس أيضاً بل سببه أنه كان في قريش في بني فهر رجل فهم يدعي أن له قلبين ويقال له ذو القلبين ، قال الثعلبي وهو أبو معمر{[9446]} وكان يقول : أنا أذكى من محمد وأفهم ، فلما وقعت هزيمة بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل ، فنزلت الآية بسببه ونفياً لدعواه ، وقيل إنه كان ابن خطل{[9447]} ، قال الزهراوي جاء هذا اللفظ على جهة المثل في زيد بن حارثة والتوطئة لقوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } ، أي كما ليس لأحد قلبان كذلك ليس دعيه ابنه .

قال الفقيه الإمام القاضي : ويظهر من الآية أنها بجملتها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت وإعلام بحقيقة الأمر ، فمنها أن بعض العرب كانت تقول : إن الإنسان له قلبان قلب يأمره وقلب ينهاه ، وكان تضاد الخواطر يحملها على ذلك ، ومن هذا قول الكميت : [ الطويل ]

تذكر من أنا ومن أين شربه . . . يؤامر نفسيه كذي الثلة الإبل{[9448]}

والناس حتى الآن يقولون إذا وصفوا أفكارهم في شيء ما يقول لي أحد قلبي كذا ويقول الآخر كذا ، وكذا كانت العرب تعتقد الزوجة إذا ظوهر منها بمنزلة الأم وتراه طلاقاً وكانت تعتقد الدعي المتبني ابناً فأعلم الله تعالى أنه لا أحد بقلبين ، ويكون في هذا أيضاً طعن على المنافقين الذي تقدم ذكرهم ، أي إنما هو قلب واحد ، فإما حله إيمان وإما حله كفر لأن درجة النفاق كأنها متوسطة يؤمن قلب ويكفر الآخر ، فنفاها الله تعالى وبين أنه قلب واحد ، وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية متى نسي شيئاً أو وهم يقول على جهة الاعتذار { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ، أي إذا نسي قلبه الواحد يذكره الآخر ، وكذلك أعلم أن الزوجة لا تكون أماً وأن الدعي لم يجعله ابناً ، وقرأ نافع وابن كثير «اللاء » دون ياء ، وروي عن أبي عمرو وابن جبير «اللاي » بياء ساكنة بغير همز ، وقرأ ورش بياء ساكنة مكسورة من غير همز ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر وطلحة والأعمش بهمزة مكسورة بعدها ياء ، وقرأ ابن عامر «تظّاهرون » بشد الظاء وألف ، وقرأ عاصم والحسن وأبو جعفر وقتادة «تُظاهرون » بضم التاء وتخفيف الظاء ، وأنكرها أبو عمرو وقال : إنما هذا في المعاونة .

قال القاضي أبو محمد : وليس بمنكر ولفظة ظهار تقتضيه ، وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر عن عاصم «تَظَاهرون » بفتح التاء والظاء مخففة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «تظّهّرون » بشد الظاء والهاء دون ألف ، وقرأ يحيى بن وثاب «تُظْهِرون » بضم التاء وسكون الظاء وكسر الهاء ، وفي مصحف أبيّ بن كعب «تتظهرون » بتاءين ، وكانت العرب تطلق تقول أنت مني كظهر أمي فنزلت الآية وأنزل الله تعالى كفارة الظهار ، وتفسير الظهار وبيانه أثبتناه في سورة المجادلة ، وقوله { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } الآية سببها أمر زيد حارثة كانوا يدعونه زيد بن محمد ، وذلك أنه كان عبداً لخديجة ، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقام معه مدة ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم - وذلك قبل البعث- : «خيراه فإن اختاركما فهو لكما دون فداء » ، فخيراه فاختار الرق مع محمد على حريته وقومه ، فقال محمد عليه السلام : «يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه » ، فرضي بذلك أبوه وعمه وانصرفا{[9449]} . وقوله تعالى : { بأفواهكم } تأكيد لبطلان القول ، أي أنه لا حقيقة له في الوجود إنما هو قول فقط ، وهذا كما تقول أنا أمشي إليك على قدم ، فإنما تؤكد بذلك المبرة وهذا كثير ، و { يهدي } معناه يبين ، فهو يتعدى بغير حرف جر ، وقرأ قتادة «يُهَدّي » بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال ، و { السبيل } هو سبيل الشرع والإيمان ، وابن كثير والكسائي وعاصم في رواية حفص يقفون «السبيلا » ويطرحونها في الوصل ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالألف وصلاً ووقفاً ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف وصلاً ووقفاً ، وهذا كله في غير هذا الموضع{[9450]} ، واتفقوا هنا خاصة على طرح الألف وصلاً ووقفاً لمكان ألف الوصل التي تلقى اللام .


[9446]:قيل: اسمه جميل بن معمر الجمحي، وقال السهيلي: هو ابن معمر بن حبيب ابن وهب بن حذافة بن جمح، واسم جمح: تيم، وفيه يقول الشاعر: وكيف ثوائي بالمدينة قضى وطرا منها جميل بن معمر؟ وقال الزمخشري: هو جميل بن أسد الفهري.
[9447]:قيل: اسمه عبد الله بن خطل.
[9448]:البيت في اللسان والتاج، وقد استشهد به في(أبل)-قال في اللسان:"ورجل آبل وأبل وإبلي وإبِلي: ذو إبل، ومن قال:أبل-بفتح الباء-فاسم الفاعل منه(آبل) بالمد، ومن قال:أبل-بكسر الباء- قال في الفاعل:(أبل) بالقصر"، وذكر شاهدا للمد، وشاهدين للقصر، الثاني منهما هو بيت الكميت هذا، ثم حكى عن سيبويه أن بيت الكميت من قولهم:آبَل الناس(بالمد)، ومعناها:أشدهم تأنقا في رعية الإبل وأعلمهم بها، وأنه لا فعل له. والشاهد في البيت أنه جعل له نفسين في قوله:(يؤامر نَفْسيه). وان هذا من تضاد الخواطر بجملتها كما كانت عادة العرب.
[9449]:أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان من أمر زيد بن حارثة رضي الله عنه أنه كان في أخواله بني معْن من بني ثُعل من طيء، فأصيب في غِلمة من طيء، فقُدم به سوق عكاظ، وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها، فأوصته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا إن قدر عليه،فلما جاء وجد زيدا يباع فيها، فأعجبه ظرفه فابتاعه فقدم به عليها، وقال لها: إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا، فإن أعجبك فخذيه،وإلا فدعيه فإنه قد أعجبني، فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندها، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ظرفه فاستوهبه منها، فقالت: هو لك، فإن رأيت عتقه فالولاء لي، فأبى عليها، فوهبته له إن شاء أعتق وإن شاء امسك، قال: فشب عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب إلى الشام، فمر بأرض قومه فعرفه عمه،فقام إليه فقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة، قال: من أنفسهم؟ قال: لا، قال: فحر أنت أم مملوك؟ قال: بل مملوك، قال: لمن؟ قال: لمحمد بن عبد المطلب، فقال له: أعربي أنت أم أعجمي؟ قال: بل عربي، قال: ممن أهلك؟ قال: من كلب، قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبد ود، قال: ويحك، ابن من أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل، قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي، قال: ومن أخوالك؟ قال: طيء، قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى،فالتزمه وقال: ابن حارثة، ودعا أباه وقال: يا حارثة هذا ابنك، فأتاه حارثة، فلما نظر إليه عرفه، قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده، ورزقت منه حبا فلا أصنع إلا ما شئت، فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له حارثة: يا محمد، أنتم أهل حرم الله وجيرانه وعند بيته، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، ابني عبدك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، فإنك ابن سيد قومه، فإنا سنرفع لك في الفداء ما أحببت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيكم خيرا من ذلك، قالوا: وما هو؟ قال:أخيره، فإن اختاركم فخذوه بغير فداء، وإن اختارني فكفوا عنه، قالوا: جزاك الله خيرا، لقد أحسنت، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا زيد، أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي وعمي وأخي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنا من قد عرفته،فإن اخترتهم فاذهب معهم، وإن اخترتني فأنا من تعلم، فقال زيد: ما انا بمختار عليك أحدا أبدا، أنت مني بمكان الوالد والعم، قال له أبوه وعمه: يا زيد، تختار العبودية على الربوبية؟ قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل/ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه عليه قال: اشهدوا أنه حر، وأنه ابني يرثني وأرثه، فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامته عليه، فلم يزل زيد يدعى في الجاهلية زيد بن محمد، حتى نزل القرآن{ادعوهم لآبائهم} فدعي: زيد بن حارثة.(الدر المنثور).
[9450]:يعني في آيات أخرى، منها قوله تعالى في الآية(10) من هذه السورة:{وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون}.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في المراد من قول الله "ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ"؛ فقال بعضهم: عنى بذلك تكذيب قوم من أهل النفاق، وصفوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بأنه ذو قلبين، فنفى الله ذلك عن نبيه، وكذّبهم...

وقال آخرون: بل عنى بذلك: رجل من قريش كان يُدعى ذا القلبين من دَهْيه... عن مجاهد "ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَين فِي جَوْفِهِ" قال: إن رجلاً من بني فهر، قال: إن في جوفي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، وكذب...

وقال آخرون: بل عنى بذلك زيد بن حارثة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تبنّاه، فضرب الله بذلك مثلاً... عن الزهري، في قوله: "ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ" قال: بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة، ضرب له مثلاً يقول: ليس ابن رجل آخر ابنك.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك تكذيب من الله تعالى قول من قال لرجل في جوفه قلبان يعقل بهما... وجائز أن يكون ذلك تكذيبا من الله لمن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن يكون تكذيبا لمن سمى القرشيّ الذي ذُكر أنه سمي ذا القلبين من دهيه، وأيّ الأمرين كان فهو نفي من الله عن خلقه من الرجال أن يكونوا بتلك الصفة.

وقوله: "وَما جَعَلَ أزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنّ أمّهاتِكُمْ" يقول تعالى ذكره: ولم يجعل الله أيها الرجال نساءكم اللائي تقولون لهنّ: أنتن علينا كظهور أمهاتنا أمهاتكم، بل جعل ذلك من قيلكم كذبا، وألزمكم عقوبة لكم كفّارة... وقوله: "وَما جَعَلَ أدعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ" يقول: ولم يجعل الله من ادّعيت أنه ابنك، وهو ابن غيرك ابنك بدعواك. وذُكر أن ذلك نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل تبنيه زيد بن حارثة...

وقوله: "ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بأفْوَاهِكُمْ" يقول تعالى ذكره هذا القول وهو قول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه، إنما هو قولكم بأفواهكم لا حقيقة له، لا يثبت بهذه الدعوى نسب الذي ادّعيت بنوّته، ولا تصير الزوجة أمّا بقول الرجل لها: أنت عليّ كظهر أمي.

"وَاللّهُ يقُولُ الحَقّ" يقول: والله هو الصادق الذي يقول الحقّ، وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه، وبه تكون المرأة للمولود، أمّا إذا حكم بذلك.

"وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ" يقول تعالى ذكره: والله يبين لعباده سبيل الحقّ، ويرشدهم لطريق الرشاد.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

والحكمة في ما لم يجعل للواحد قلبين، وجعل له سمعين وبصرين، لأن الإدراك بالسمع والبصر إنما يكون بالمشاهدة فيخرج ذلك مخرج معاونة بعضهم بعضا، وما يدرك بالقلب يكون بالاجتهاد، وقد يختلف القلبان في ما يجتهدان في شيء، فيناقض أحدهما صاحبه؛ إذ يجوز أن يرى أحدهما خلاف ما يراه الآخر، وأما السمعان والبصران لا يكونان كذلك.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوّة ودعوة في رجل. والمعنى: أن الله سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين، لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليها، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً، عالماً ظاناً، موقناً شاكاً في حالة واحدة -لم ير أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أُمًّا لرجل زوجاً له؛ لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة وهما حالتان متنافيتان، وأن يكون الرجل الواحد دعياً لرجل وابنا له: لأنّ البنوّة أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة: إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً. وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون. فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، وطلبه أبوه وعمه، فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقه. وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، وقوله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... ويظهر من الآية أنها بجملتها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت، وإعلام بحقيقة الأمر..

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

... الحق أن يقال إن الله لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله: {يا أيها النبي اتق الله} فكان ذلك أمرا له بتقوى لا يكون فوقها تقوى ومن يتقي ويخاف شيئا خوفا شديدا لا يدخل في قلبه شيء آخر، ألا ترى أن الخائف الشديد الخوف ينسى مهماته حالة الخوف فكأن الله تعالى قال يا أيها النبي اتق الله حق تقاته، ومن حقها أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله فإن المرء ليس له قلبان حتى يتقي بأحدهما الله وبالآخرة غيره، فإن اتقى غيره فلا يكون ذلك إلا بصرف القلب عن جهة الله إلى غيره، وذلك لا يليق بالمتقي الذي يدعي أنه يتقي الله حق تقاته.

{ذلكم قولكم بأفواهكم} فيه لطيفة، وهو أن الكلام المعتبر على قسمين أحدهما: كلام يكون عن شيء كان فيقال، والثاني: كلام يقال فيكون كما قيل؛ والأول كلام الصادقين الذين يقولون ما يكون، والآخر كلام الصديقين الذين إذا قالوا شيئا جعله الله كما قالوه وكلاهما صادر عن قلب، والكلام الذي يكون بالفم فحسب هو مثل نهيق الحمار أو نباح الكلب، لأن الكلام المعتبر هو الذي يعتمد عليه والذي لا يكون عن قلب وروية لا اعتماد عليه، والله تعالى ما كرم ابن آدم وفضله على سائر الحيوانات ينبغي أن يحترز من التخلق بأخلاقها، فقول القائل: هذا ابن فلان مع أنه ليس ابنه ليس كلاما فإن الكلام في الفؤاد وهذا في الفم لا غير، واللطيفة هي أن الله تعالى ههنا قال: {ذلكم قولكم بأفواهكم} وقال في قوله: {وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم} يعني نسبة الشخص إلى غير الأب، قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضا في قلب فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم. {وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم} نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضا في قلب، فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم.

{والله يقول الحق} إشارة إلى معنى لطيف وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن عقل أو عن شرع، فإذا قال فلان ابن فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو يكون عن شرع بأن يكون ابنه شرعا، وإن لم يعلم الحقيقة.

{وهو يهدى السبيل} إشارة إلى أن اتباع ما أنزل الله خير من الأخذ بقول الغير.

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

{والله يقول الحق} ما له حقيقة عينية مطابقة له.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان النازع إلى جهتين والمعالج لأمرين متباينين كأنه يتصرف بقلبين، أكد أمر الإخلاص في جعل الهم هماً واحداً فيما يكون من أمور الدين والدنيا، وفي المظاهرة والتبني وكل ما شابههما بضرب المثل بالقلبين -كما قال الزهري، فقال معللاً لما قبله بما فيه من الإشارة إلى أن الآدمي مع قطع النظر عن رتبة النبوة موضع لخفاء الأمور عليه: {ما جعل الله} أي الذي له الحكمة البالغة، والعظمة الباهرة، وليس الجعل إلا له ولا أمر لغيره {لرجل} أي لأحد من بني آدم الذين هم أشرف الخلائق من نبي ولا غيره، وعبر بالرجل لأنه أقوى جسماً وفهماً فيفهم غيره من باب الأولى؛ وأشار إلى التأكيد بقوله: {من قلبين} وأكد الحقيقة وقررها، وجلاها وصورها لما قد يظن الإنسان من أنه يقدر على صرف النفس إلى الأمور المتخالفة كما يفعل المنافق، بقوله: {في جوفه} أي حتى يتمكن من أن ينزع بكل قلب إلى جهة غير الجهة التي نزع إليها القلب الآخر لأن ذلك مودِّ إلى خراب البدن لأن القلب مدبره بإذن الله تعالى، واستقلال كل بالتدبير يؤدي إلى الفساد كما مضى في دليل التمانع سواء؛ قال الرازي في اللوامع: القلب كالمرآة مهما حوذي به جانب القدس أعرض عن جانب الحس، ومهما حوذى به جانب الحس أعرض عن جانب القدس، فلا يجتمع الإقبال على الله وعلى ما سواه- انتهى. وحاصل ذلك أنه تمهيد لأن التوزع والشرك لا خير فيه، وأن مدبر الملك واحد كما أن مدبر البدن قلب واحد، فلا التفاف إلى غيره، وأن الدين ليس بالتشهي وجعل الجاعلين، وإنما هو بجعله سبحانه، فإنه العالم بالأمور على ما هي عليه.

ولما كان كل من المظاهرة والتبني نازعاً إلى جهتين متنافيتين، وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار طلاقاً مؤبداً لا رجعة فيه -كما نقله ابن الملقن في عمدة المنهاج عن صاحب الحاوي، وكان المخاطبون قد أعلاهم الوعظ السابق إلى التأهل للخطاب، لفت سبحانه القول إليه على قراءة الغيب في "يعملون "لأبي عمرو فقال: {وما جعل أزواجكم} أي بما أباح لكم من الاستمتاع بهن من جهة الزوجية؛ ثم أشار إلى الجهة الأخرى بقوله: {اللائي تظاهرون منهن} أي كما يقول الإنسان للواحدة منهن: أنت عليّ كظهر أمي {أمهاتكم} بما حرم عليكم من الاستمتاع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأبيد وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها، لأنه لا يكون لرجل أمان، ولو جعل ذلك لضاق الأمر، واتسع الخرق، وامتنع الرتق {وما جعل أدعياءكم} بما جعل لهم من النسبة والانتساب إلى غيركم {أبناءكم} بما جعلتم لهم من الانتساب إليكم ليحل لهم إرثكم، وتحرم عليكم حلائلهم وغير ذلك من أحكام الأبناء، ولا يكون لابن أبوان، ولو جعل ذلك لضاعت الأنساب، وعم الارتياب، وانقلب كثير من الحقائق أيّ انقلاب، فانفتح بذلك من الفساد أبواب أيّ أبواب، فليس زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي الذي تبنيته ابناً لك أيها النبي بتبنيك له جزاء له باختياره لك على أبيه وأهله، وهذا توطئة لما يأتي من قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم لزينب بنت جحش مطلقة زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قال المنافقون كما حكاه البغوي وغيره: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، وبين أن التبني إنما هو مجاز، وأن المحرم إنما هو زوجة الابن الحقيقي وما ألحق به من الرضاع، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تبنى زيداً لقصة مذكروة في السيرة، روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادعوهم لآبائهم}.

ولما أبطل هذا سبحانه، استأنف الإخبار عما مضى من عملهم فيه فقال: {ذلكم} أي القول البعيد عن الحقيقة، وأكد هذا بقوله: {قولكم بأفواهكم} أي لا حقيقة له وراء القول وتحريك الفم من غير مطابقة قلوبكم، فإن كل من يقول ذلك لا يعتقده، لأن من كان له فم كان محتاجاً، ومن كان محتاجاً كان معرضاً للنقائص كان معرضاً للأوهام، ومن غلبت، عليه الأوهام كان في كلامه الباطل {والله} أي المحيط علمه وقدرته وله جميع صفات الكمال {يقول الحق} أي الكامل في حقيته، الثابت الذي يوافق ظاهره باطنه، فلا قدرة لأحد على نقضه فإن أخبر عن شيء فهو كما قال، ليس بين الخبر والواقع من ذلك المخبر عنه شيء من المخالفة، وإن أتى بقياس فرع على أصل لم يستطع أحد إبداء فرق، فإن أقواله سبحانه سابقة على الواقع لأنها مصدرة فيها بكون، فإذا قال قولاً وجد مضمونه مطابقاً لذلك القول، فإذا طبقت بينهما كانا سواء، فكان ذلك المضمون ثابتاً كما كان ذلك الواقع ثابتاً، فكان حقاً، هكذا أقواله على الدوام، لأنه منزه سبحانه عن النقائص فلا جارحة ثم ليكون بينها وبين معد القول مخالفة من فم أو غيره وعن كل ما يقتضي حاجة، فالآية من الاحتباك: ذكر الفم أولاً دليلاً على نفيه ثانياً والحق ثانياً دليلاً على ضده الباطل أولاً، وسرّ ذلك أنه ذكر ما يدل على النقص في حقنا، وعلى الكمال في حقه، ودل على التنزيه بالإشارة ليبين فهم الفهماء وعلم العلماء {وهو} أي وحده من حيث قوله الحق {يهدي السبيل} أي الكامل الذي من شأنه أن يوصل إلى المطلوب إن ضل أحد في فعل أو قول، فلا تعولوا على سواه ولا تلتفتوا أصلاً إلى غيره.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويختم هذه التوجيهات بإيقاع حاسم مستمد من مشاهدة حسية:

(ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)..

إنه قلب واحد، فلا بد له من منهج واحد يسير عليه. ولا بد له من تصور كلي واحد للحياة وللوجود يستمد منه. ولا بد له من ميزان واحد يزن به القيم، ويقوم به الأحداث والأشياء. وإلا تمزق وتفرق ونافق والتوى، ولم يستقم على اتجاه.

ولا يملك الإنسان أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين؛ ويستمد شرائعه وقوانينه من معين آخر؛ ويستمد أوضاعه الاجتماعية أو الاقتصادية من معين ثالث؛ ويستمد فنونه وتصوراته من معين رابع.. فهذا الخليط لا يكون إنسانا له قلب. إنما يكون مزقا وأشلاء ليس لها قوام!

وصاحب العقيدة لا يملك أن تكون له عقيدة حقا، ثم يتجرد من مقتضياتها وقيمها الخاصة في موقف واحد من مواقف حياته كلها، صغيرا كان هذا الموقف أم كبيرا. لا يملك أن يقول كلمة، أو يتحرك حركة، أو ينوي نية. أو يتصور تصورا، غير محكوم في هذا كله بعقيدته -إن كانت هذه العقيدة حقيقة واقعة في كيانه- لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد، يخضع لناموس واحد، ويستمد من تصور واحد، ويزن بميزان واحد.

لا يملك صاحب العقيدة أن يقول عن فعل فعله: فعلت كذا بصفتي الشخصية. وفعلت كذا بصفتي الإسلامية! كما يقول رجال السياسة أو رجال الشركات. أو رجال الجمعيات الاجتماعية أو العلمية وما إليها في هذه الأيام! إنه شخص واحد له قلب واحد، تعمره عقيدة واحدة. وله تصور واحد للحياة، وميزان واحد للقيم. وتصوره المستمد من عقيدته متلبس بكل ما يصدر عنه، في كل حالة من حالاته على السواء.

وبهذا القلب الواحد يعيش فردا، ويعيش في الأسرة، ويعيش في الجماعة، ويعيش في الدولة. ويعيش في العالم. ويعيش سرا وعلانية. ويعيش عاملا وصاحب عمل. ويعيش حاكما ومحكوما. ويعيش في السراء والضراء.. فلا تتبدل موازينه، ولا تتبدل قيمه، ولا تتبدل تصوراته.. (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)..

ومن ثم فهو منهج واحد، وطريق واحد، ووحي واحد، واتجاه واحد. وهو استسلام لله وحده. فالقلب الواحد لا يعبد إلهين، ولا يخدم سيدين، ولا ينهج نهجين، ولا يتجه اتجاهين. وما يفعل شيئا من هذا إلا أن يتمزق ويتفرق ويتحول إلى أشلاء وركام!

وبعد هذا الإيقاع الحاسم في تعيين المنهج والطريق يأخذ في إبطال عادة الظهار وعادة التبني. ليقيم المجتمع على أساس الأسرة الواضح السليم المستقيم:

(وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم. وما جعل أدعياءكم أبناءكم. ذلكم قولكم بأفواهكم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله. فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم. وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم. وكان الله غفورا رحيما).

كان الرجل في الجاهلية يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي. أي حرام محرمة كما تحرم علي أمي. ومن ساعتئذ يحرم عليه وطؤها؛ ثم تبقى معلقة، لا هي مطلقة فتتزوج غيره، ولا هي زوجة فتحل له. وكان في هذا من القسوة ما فيه؛ وكان طرفا من سوء معاملة المرأة في الجاهلية والاستبداد بها، وسومها كل مشقة وعنت.

فلما أخذ الإسلام يعيد تنظيم العلاقات الاجتماعية في محيط الأسرة؛ ويعتبر الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى؛ ويوليها من عنايته ما يليق بالمحضن الذي تنشأ فيه الأجيال.. جعل يرفع عن المرأة هذا الخسف؛ وجعل يصرف تلك العلاقات بالعدل واليسر. وكان مما شرعه هذه القاعدة: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم).. فإن قولة باللسان لا تغير الحقيقة الواقعة، وهي أن الأم أم والزوجة زوجة؛ ولا تتحول طبيعة العلاقة بكلمة! ومن ثم لم يعد الظهار تحريما أبديا كتحريم الأم كما كان في الجاهلية.

وقد روي أن إبطال عادة الظهار شرع فيما نزل من "سورة المجادلة "عندما ظاهر أوس بن الصامت من زوجه خولة بنت ثعلبة، فجاءت إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] تشكو تقول: يا رسول الله، أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني. حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي، ظاهر مني. فقال [صلى الله عليه وسلم] "ما أراك إلا قد حرمت عليه". فأعادت ذلك مرارا. فأنزل الله: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما، إن الله سميع بصير. الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم، إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا. وإن الله لعفو غفور. والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة -من قبل أن يتماسا- ذلكم توعظون به. والله بما تعملون خبير. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا؛ فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله. وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم.. فجعل الظهار تحريما مؤقتا للوطء -لا مؤبدا ولا طلاقا- كفارته عتق رقبة، أو (صيام شهرين متتابعين أو (إطعام ستين مسكينا). وبذلك تحل الزوجة مرة أخرى، وتعود الحياة الزوجية لسابق عهدها. ويستقر الحكم الثابت المستقيم على الحقيقة الواقعة: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم).. وتسلم الأسرة من التصدع بسبب تلك العادة الجاهلية، التي كانت تمثل طرفا من سوم المرأة الخسف والعنت، ومن اضطراب علاقات الأسرة وتعقيدها وفوضاها، تحت نزوات الرجال وعنجهيتهم في المجتمع الجاهلي.

هذه مسألة الظهار.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وهذا كله زيادة تحريض على تلقي أمر الله بالقبول والامتثال ونبذ ما خالفه.