تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، حدثني الحَضْرَمي ، عن أبي السَّوار ، عن جُنْدَب بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَهْطًا ، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجَرّاح [ أو عبيدة بن الحارث ]{[3763]} فلما ذهب ينطلق ، بَكَى صَبَابة{[3764]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَجَلَس ، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابًا ، وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال : لا تُكْرِهَنّ أحدًا على السير معك من أصحابك . فلما قرأ الكتابَ استرجع ، وقال : سمعًا وطاعة لله ولرسوله . فخبَّرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ، وبقي بقيَّتُهم ، فلقوا ابن الحَضْرَمي فقتلوه ، ولم يَدْرُوا أن ذلك اليوم من رجب أو من جُمَادى . فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ! فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } الآية .

وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن ابن مسعود : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سَرِيَّة ، وكانوا سَبْعَة نفر ، عليهم عبد الله بن جَحْش الأسدي ، وفيهم عَمَّار بن ياسر ، وأبو حذيفة بن عُتْبَة بن ربيعة ، وسعد بن أبي وَقَّاص ، وعتبة بن غَزْوان السُّلمي - حليف لبني نَوْفل - وسُهَيل بن بيضاء ، وعامر بن فُهيرة ، وواقد بن عبد الله اليَرْبوعي ، حليف لعمر بن الخطاب . وكتب لابن جحش كتابًا ، وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن مَلَل{[3765]} فلما نزل بطن مَلَل{[3766]} فتح الكتاب ، فإذا فيه : أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة . فقال لأصحابه : مَنْ كان يريد الموت فَلْيمض ولْيوص ، فإنني مُوص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسار ، فتخلف عنه سعد بن أبي وقَّاص ، وعتبة ، وأضلا راحلة لهما فَأتيا بُحْران{[3767]} يطلبانها ، وسار ابنُ جحش إلى بطن نخلة ، فإذا هو بالحكم بن كيسان ، والمغيرة بن عثمان ، وعمرو بن الحضرمي ، وعبد الله بن المغيرة . وانفلت [ ابن ]{[3768]} المغيرة ، [ فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة ]{[3769]} وقُتِل عَمْرو ، قتله واقد بن عبد الله . فكانت أوّل غنيمة غنمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين{[3770]} وما أصابوا المال ، أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " حتى ننظر ما فعل صاحبانا " فلما رجع سعد وصاحبه ، فادى بالأسيرين ، ففجر عليه المشركون وقالوا : إن محمدًا يزعم أنه يتبع طاعة الله ، وهو أول من استحل الشهر الحرام ، وقتل صاحبنا في رجب . فقال المسلمون : إنما قتلناه في جمادى - وقيل : في أول رجب ، وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب . فأنزل الله يُعَيِّر أهل مكة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } لا يحل ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام ، حين كفرتم بالله ، وصدَدْتم عنه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه ، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه ، حين أخرجوا محمدًا صلى الله عليه وسلم أكبر من القتل عند الله .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وذلك أنّ المشركين صَدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وَرَدوه عن المسجد [ الحرام ]{[3771]} في شهر حرام ، ففتح الله على نبيه في شهر حَرَام من العام المقبل . فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتالَ في شهر حرام . فقال الله : { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ } من القتال فيه . وأنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث سرية فلقوا عَمْرو بن الحضرمي ، وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى ، وأوّل ليلة من رجب . وأنّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى ، وكانت أول رجب ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه . وأنّ المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك . فقال الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وغير ذلك أكبر منه : صَدّ عن سبيل الله ، وكفر به والمسجد الحرام ، وإخراجُ أهله منه{[3772]} ، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصابَ أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم ، والشرك أشد منه .

وهكذا روى أبو سَعد{[3773]} البقَّال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنها أنزلت{[3774]} في سَريَّة عبد الله بن جحش ، وقتْل عمرو بن الحضرمي .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : نزل فيما كان من مصاب عَمْرو بن الحضرمي : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } إلى آخر الآية .

وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني ، رحمه الله ، في كتاب السيرة له ، أنَّه قال : وبعث - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جَحش بن رئاب الأسدي في رجب ، مَقْفَله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابًا ، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ، فيمضي لما أمره به ، ولا يَسْتكره من أصحابه أحدًا . وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين . ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف : أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، ومن حلفائهم : عبد الله بن جحش ، وهو أمير القوم ، وعُكَّاشة بن محْصن بن حُرْثان ، أحد بني أسد ابن خزيمة ، حليف لهم . ومن بني نَوفل بن عبد مناف : عتبة بن غَزْوَان بن جابر ، حليف لهم . ومن بني زُهرة بن كلاب : سعد بن أبي وقاص . ومن بني عدي بن كعب : عامر بن ربيعة ، حليف لهم من عَنز بن وائل ، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عَرِين بن ثعلبة بن يربوع ، أحد بني تميم ، حليف لهم . وخالد بن البُكَير أحد بني سعد بن ليث ، حليف لهم . ومن بني الحارث بن فِهْر : سُهَيل بن بيضاء .

فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه : " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة ، بين مكة والطائف ، ترصد بها قريشًا ، وتعلم لنا من أخبارهم " . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال : سمعًا وطاعة . ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ، أرصد بها قريشًا ، حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم . فمن كان منكم يريد الشهادةَ ويرغب فيها فَلْيَنطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد .

فسلك على الحجاز ، حتى إذا كان بِمَعْدن ، فوق الفُرْع ، يقال له : بُحْران{[3775]} أضلّ سعد بن أبي وقاص وعُتبة بن غزوان بعيرًا لهما ، كانا يَعْتقبانه ، فتخلفا عليه في طلبه ، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة من تجارة قريش ، فيها : عمرو بن الحضرمي ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان ، والحكم بن كَيسان ، مولى هشام بن المغيرة .

فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه أمنُوا وقالوا : عُمَّار ، لا بأس عليكم منهم . وتشاور القوم فيهم ، وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : والله لئن تركتم القوم هذه الليلةَ ليدخلن الحرم ، فليمتنعنّ منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقْتُلنَّهم في الشهر الحرام . فتردد القوم ، وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قَدروا عليه منهم ، وأخْذ ما معهم . فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي{[3776]} عمرَو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمانَ بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وأفلت القوم نوفلُ بن عبد الله فأعجزهم . وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة .

قال ابن إسحاق : وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش : أن عبد الله قال لأصحابه : إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس ، وذلك قبل أن يَفْرض الله الخمس من المغانم ، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير ، وقسم سائرها بين أصحابه .

قال ابن إسحاق : فلما قدموا على رسول الله قال : " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " . فوقَّف العير والأسيرين ، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنَّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . وقالت قريش : قد استحلّ محمد وأصحابه الشهرَ الحرام ، وسفكوا فيه{[3777]} الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال . فقال من يَرُدّ عليهم من المسلمين ممن كان بمكة : إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان .

وقالت : يهودُ تَفَاءلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله : عمرو : عمرت الحرب ، والحضرمي : حضرت الحرب ، وواقد بن عبد الله : وقدت الحرب . فجعل الله عليهم ذلك لا لهم .

فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } أي : إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد الحرام ، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم {[3778]} منهم ، { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } أي : قد كانوا يفتنون المسلم في دينه ، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه{[3779]} فذلك أكبر عند الله من القتل :

{ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } أي : ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين .

قال ابن إسحاق : فلما نزل القرآن بهذا من الأمر ، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين ، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نُفْديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة ابن غَزْوان - فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم . فقدم سعد وعتبة ، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم .

فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسُن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدًا . وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة ، فمات بها كافرًا .


[3763]:زيادة من طـ، أ، و.
[3764]:في جـ: "بكى صبيانه".
[3765]:في جـ: "مالك".
[3766]:في جـ: "مالك".
[3767]:في أ، و: "يجوبان".
[3768]:زيادة من أ.
[3769]:زيادة من أ.
[3770]:في جـ، ط، أ، و: "بأسيرين".
[3771]:زيادة من أ.
[3772]:في جـ: "منه أكبر عند الله".
[3773]:في ط: "أبو سعيد".
[3774]:في جـ، أ: "أنها نزلت".
[3775]:في جـ: "نجران".
[3776]:في أ: "السهمي".
[3777]:في جـ: "فيها".
[3778]:في جـ: "من قتل".
[3779]:في أ: "يفتنون المسلمين في دينهم حتى يردوهم إلى الكفر بعد إيمانهم".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 217 )

وقوله تعالى { يسألونك عن الشهر الحرام } الآية ، نزل في قصة عمرو بن الحضرمي ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية عليها عبد الله بن جحش الأسدي مقدمه( {[2014]} ) من بدر الأولى ، فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل المخزوميان والحكم بن كيسان في آخر يوم من رجب على ما ذكر ابن إسحاق ، وفي آخر يوم من جمادى الآخرة على ما ذكره الطبري عن السدي وغيره . والأول أشهر ، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذاك كان في أول ليلة من رجب والمسلمون يظنونها من جمادى ، وأن القتل في الشهر الحرام لم يقصدوه ، وأما على قول ابن إسحاق فإنهم قالوا إن تركناهم اليوم دخلوا الحرم فأزمعوا قتالهم ، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، وأسر عثمان بن عبد الله والحكم ، وفر نوفل فأعجزهم ، واستسهل المسلمون هذا في الشهر الحرام خوف فوتهم ، فقالت قريش : محمد قد استحل الأشهر الحرم ، وعيروا بذاك ، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم ، فنزلت هذه الآية .

وذكر المهدوي أن سبب هذه الآية أن عمرو بن أمية الضمري قتل رجلين من بني كلاب في رجب فنزلت ، وهذا تخليط من المهدوي( {[2015]} ) . وصاحبا عمرو كان عندهما عهد من النبي صلى الله عليه وسلم( {[2016]} ) ، وكان عمرو قد أفلت من قصة بئر معونة ، وذكر الصاحب بن عباد( {[2017]} ) في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبد الله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت ، لكونه مؤمراً على جماعة من المؤمنين ، و { قتال } بدل عند سيبويه ، وهو بدل الاشتمال( {[2018]} ) .

وقال الفراء : هو خفض بتقدير عن( {[2019]} ) .

وقال أبو عبيدة «هو خفض على الجوار » ، وقوله هذا خطأ( {[2020]} ) ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه » بتكرير عن ، وكذلك قرأها الربيع والأعمش ، وقرأ عكرمة «عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل » دون ألف فيهما ، و { الشهر } في الآية اسم الجنس( {[2021]} ) ، وكانت العرب قد جعل الله لها { الشهر الحرام } قواماً تعتدل عنده( {[2022]} ) ، فكانت لا تسفك دماً ولا تغير في الأشهر الحرم ، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، وروى جابر بن عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو فيها إلا أن يغزى( {[2023]} ) ، فذلك قوله تعالى { قل قتال فيه كبير } ، و { صد } مبتدأ مقطوع مما قبله( {[2024]} ) ، والخبر { أكبر } ، و { المسجد } معطوف على { سبيل الله } ، وهذا هو الصحيح( {[2025]} ) .

وقال الفراء : { صد } عطف على { كبير } ، وذلك خطأ ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله { وكفر به } عطف أيضاً على { كبير }( {[2026]} ) ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، هذا بين فساده( {[2027]} ) ، ومعنى الآية على قول الجمهور : إنكم يا كفار قريش تستعمظون علينا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد عنه كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر جرماً عند الله .

وقال الزهري ومجاهد وغيرهما : قوله { قل قتال فيه كبير } منسوخ بقوله { وقاتلوا المشركين كافة } [ التوبة : 36 ] ، وبقوله : { فاقتلوا المشركين }( {[2028]} ) [ التوبة : 5 ] .

وقال عطاء : «لم تنسخ ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم » ، وهذا ضعيف( {[2029]} ) .

وقوله تعالى : { والفتنة أكبر من القتل } المعنى عند جمهور المفسرين ، والفتنة التي كنتم تفتنون المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا( {[2030]} ) أشد اجتراماً من قتلكم في الشهر الحرام ، وقيل : المعنى والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون ، أي فعلكم على كل إنسان أشد من فعلنا( {[2031]} ) .

وقال مجاهد وغيره : { الفتنة } هنا الكفر أي كفركم أشد من قتلنا أولئك .

قوله تعالى : { ولا يزالون } ابتداء خبر من الله -عز وجل- وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة ، و { يردوكم } نصب ب { حتى } لأنها غاية مجردة( {[2032]} ) ، وقوله تعالى { ومن يرتدد } [ أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر ، قالت طائفة من العلماء : يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل .

وقال عبيد بن عمير وطاوس والحسن -على خلاف عنه- والشافعي في أحد قوليه : يقتل دون أن يستتاب ، وروي نحو هذا عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل( {[2033]} ) .

قال القاضي أبو محمد : ومقتضى قولهما إنه يقال له للحين : راجع ، فإن أبى ذلك قتل ، وقال عطاء ابن أبي رباح : «إن كان المرتد ابن مسلمين قتل دون استتابة وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب » ، وذلك لأنه يجهل من فضل الإسلام ما لا يجهل ابن المسلمين ، واختلف القائلون بالاستتابة : فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستتاب ثلاثة أيام . وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه .

وقال الزهري : «يدعى إلى الإسلام فإن تاب وإلا قتل » .

وروي عن علي أبي طالب رضي الله عنه أنه استتاب مرتداً شهراً فأبى فقتله ، وقال النخعي والثوري : يستتاب محبوساً أبداً ، قال ابن المنذر : واختلفت الآثار عن عمر في هذا الباب .

{ قال القاضي أبو محمد } : كان رضي الله عنه ينفذ بحسب جرم ذلك المرتد أو قلة جرمه المقترن بالردة ، وحبط العمل إذا انفسد( {[2034]} ) في آخر فبطل( {[2035]} ) ، وقرأ أبو السمال( {[2036]} ) «حبطَت » بفتح الباء في جميع القرآن .

وقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه : ميراث المرتد لورثته من المسلمين ، وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور : ميراثه في بيت المال( {[2037]} ) ، وأجمع الناس على أن ورثته من أهل الكفر لا يرثونه إلإ شذوذاً ، روي عن عمر بن عبد العزيز وعن قتادة ، وروي عن عمر بن عبد العزيز خلافه( {[2038]} ) .


[2014]:- أي عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من بدر الأولى.
[2015]:- أي بين القصتين، والحق أن سبب النزول هو قصة عبد الله بن جحش، قال شيخ المفسرين أبو جعفر (ط) رحمه الله: «ولا خلاف بين أهل التأويل جميعا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب قتل ابن الحضرمي وقاتله». ثم روى بأسانيده عمن قال ذلك. انظره.
[2016]:- ولم يعلم بذلك عمرو بن أمية الضمري.
[2017]:- لُقِّب بذلك لصحبته ابن العميد في وزارته، واسمه: اسماعيل بن عباد تلميذ ابن العميد، وشيخ الشيخ عبد القاهر الجرجاني مدون علم البيان وواضع قواعده في كتابيه العظيمين: «دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة». وقد توفي الصاحب بمدينة الري وحضر جنازته فخر الدولة بن بُوَيه وسائر القواد والأعيان، جمع بين صنعة الشعر والنثر، وفاق أقرانه فيهما إلا ما كان من الصابئي فإنه كما قال الثعالبي: كان يكتب كما يُراد، والصاحب كان يكتب كما يُريد. رُوي أنه سافر إلى بغداد فسُئل عنها فقال: بغداد في البلاد: والأستاذ في العباد، ومراده بالأستاذ شيخه ابن العميد.
[2018]:- أي لأن الزمان يشتمل على ما يقع فيه من الأفعال كالقتال.
[2019]:- هو كقولهم: البدل على نية تكرار العامل، فالعبارتان متقاربتان، ومرجعهما إلى قول الجمهور: إنه بدل، وقد قرأ عبد الله ابن مسعود وغيره: (عن قتال فيه) بتكرير (عن).
[2020]:- تبع ابن عطية في تخطئة الخفض بالجوار النحاس وكذلك أبو (ح) (2-44) البحر المحيط، وهو كذلك، لأن الخفض بالجوار من مواضع الضرورة والشذوذ، ولا يجوز أن يعمد إلى ذلك في كتاب الله، ولا حتى في الكلام إذا وجدت عنه مندوحة.
[2021]:- يشمل الأشهر الحرم كلها.
[2022]:- القِوام كحساب العدل والاعتدال، فقوله: تعتدل عنده (أي تستقيم) تفسير لما قبله.
[2023]:- روى حديث جابر ابن جرير في التفسير.
[2024]:- أي غير مقول، وغير داخل تحت القول.
[2025]:- فيه الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وهو لا يجوز، فالأحسن أن يكون معطوفا على الضمير في قوله: [وكُفْرٌ به]، وبالمسجد الحرام، ولا يضر عدم إعادة الجار لقول ابن مالك: وليس عندي لازماً إذْ قد أتَــى في النَّظْـم والنَّثْــر الصَّحِيــح مُثْبَتَــا
[2026]:- بل من الجائز أن يتم المعنى عند قوله: [وصدّ عن سبيل الله]، أي قل: قِتال فيه كبير. وفيه صد عن سبيل الله، ثم يكون قوله: [وكفر به] مبتدأ والخبر ما بعده.
[2027]:- لا يجيء ذلك، لأن المعنى أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، وليس المعنى: أكبر عند الله من الكفر، فكلام ابن عطية رحمه الله هنا غير منخول.
[2028]:- من الآية (36) من سورة التوبة – ومن الآية (5) من سورة التوبة.
[2029]:- أصل هذا في كلام الإمام ابن جرير رحمه الله، وقد أطال في ذلك. والحق أنه لا يجوز القتال فيها إلا أن يقاتلوا فيها ولا دليل على تلك العموميات ولا في تلك الغزوات التي وقع بها الاستدلال، لأن تلك الحروب كان المشركون قد ابتدؤوا القتال فيها، وبيعة الرضوان إنما كانت نتيجة الخوف على عثمان بن عفان رضي الله عنه، فهي بيعة على الدفاع لا على الهجوم، انظر ابن القيم في "زاد المعاد" ومما يرجح أنها محكمة غير منسوخة حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو في الأشهر الحرم إلا أن يغزى – وذلك قوله: [قل قتال فيه كبير] – وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وَدَى ابن الحضرمي وردّ الغنيمة والأسيرين، وأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة وهذه خاصة، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق، وأيضا فقد جاء في سورة المائدة وهي من آخر ما نزل وليس فيها منسوخ: [يا أيها الذين آمنوا لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام] الآية – والبقرة من أول ما نزل.
[2030]:- أي بحبسهم وسجنهم ومنعهم وتعذيبهم.
[2031]:- يعني لأن ألم الفتنة متجدد، وألم القتل ألم منقض.
[2032]:- جعلها الزمخشري علّة، والتقييد بالعلة أمكن من التقييد بالغاية – لأن الفعل الصادر منهم ضد المؤمنين – وهو المقاتلة – مرتبط بعلة، فالزمان مستغرق الفعل ما دامت علة الفعل. بخلاف الغاية فإنها تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه، فزمان وجوده مقيد بغايته – وفرق في القوة بين الفعل المقيد بالغاية والفعل المقيد بالعلة بين الباعث والدافع. ولا يتحقق ذلك في المقيد بالغاية.
[2033]:- ما روى عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
[2034]:- لا يقال في اللغة (انفسد) فكان عليه أن يقول (إذا فسد)، اللهم إلا إذا كان ذلك من النّسخة، وهو ما يظهر، والله أعلم.
[2035]:- قال الإمام ابن العربي: قال علماؤنا: إنما ذكر الله الموافاة شرطا ها هنا أي قوله: (فيمت وهو كافر) لأنه علّق على ذلك الخلود في النار، فمن وافى على الكفر خلّده الله في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله، بقوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطنّ عملك) فهما آيتان مفيدتان لمعنيين وحكمين متغايرين، وما خوطب به عليه السلام فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه به، وهذا هو مذهب الإمام مالك أن من ارتد يحبط عمله بنفس الردة حتى أن من حج ثم ارتد ثم أسلم فإنه يجب عليه إعادة الحج، ثم إن الإحباط إحباطان: إحباط إسقاط وهو إحباط الكفر للأعمال الصالحة، فلا يفيد شيء منها معه، وإحباط موازنة، وهو وزن العمل الصالح بالعمل السيء، فإن رجح السيء فإنه في هاوية، وإن رجح الصالح فهو في عيشة راضية، كلاهما معتبر، غير أنه يعتبر أحدهما بالآخر، ومع الكفر لا اعتبار البتّة، ومن قبيل إحباط الموازنة ما جاء في أثر عائشة رضي الله عنها كما في الموطأ أنها قالت لأم ولد زيد بن أرقم، وقد باعت له عبدا بثمانمائة درهم إلى العطاء واشترته منه بستمائة درهم نقدا: أخبري زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل زيدا رضي الله عنه كان لا يعتقد حرمة الربا بين السيد وعبده انظر (ق).
[2036]:- في البحر المحيط نسب ذلك إلى (أبو السماك) بالكاف. ونسبها أيضا هنا إلى (الحسن).
[2037]:- لأنه لا وراثة بين ملّتين.
[2038]:- سبب الإجماع هو الاحتفاظ بالمال في بلد الإسلام، فلا يذهب إلى أهل الكفر، فهو إما لورثته المسلمين، وإما لبيت مال المسلمين، والمال هو قوام الأمة وعماد الحياة.