تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (25)

يقول تعالى منكرًا على الكفار في صَدّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام ، وقضاء مناسكهم فيه ، ودعواهم أنهم أولياؤه : { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ الأنفال : 34 ] .

وفي هذه الآية دليل [ على ]{[20101]} أنها مدنية ، كما قال في سورة " البقرة " : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ } [ البقرة : 217 ] ، وقال : هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : ومن صفتهم مع كفرهم أنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ، أي : ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر ، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] أي : ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله .

وقوله : { الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } [ أي : يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وقد جعله الله شرعا سواء ، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه ، { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } ] {[20102]} ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } قال : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام .

وقال مجاهد [ في قوله ]{[20103]} : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } : أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل . وكذا قال أبو صالح ، وعبد الرحمن بن سابط ، وعبد الرحمن بن زيد [ بن أسلم ]{[20104]} .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : سواء فيه أهله وغير أهله .

وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهَويه بمسجد الخِيف ، وأحمد بن حنبل حاضر{[20105]} أيضًا ، فذهب الشافعي ، رحمه الله{[20106]} إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر ، واحتج بحديث الزهري ، عن علي بن الحُسَين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد قال : قلت : يا رسول الله ، أتنزل غدًا في دارك{[20107]} بمكة ؟ فقال : " وهل ترك لنا عَقيل من رباع " . ثم قال : " لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر " . وهذا الحديث مُخَرّج في الصحيحين{[20108]} [ وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة ، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم . وبه قال طاوس ، وعمرو بن دينار .

وذهب إسحاق بن راهَويه إلا أنها تورث ولا تؤجر . وهو مذهب طائفة من السلف ، ونص عليه

مجاهد وعطاء ، واحتج إسحاق بن راهَويه بما رواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عيسى ابن يونس ، عن عُمَر بن سعيد بن أبي حُسَين{[20109]} ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن علقمة بن نَضْلة قال : تُوُفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة إلا ]{[20110]} السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن{[20111]} .

وقال عبد الرزاق ابن مجاهد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها .

وقال أيضًا عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم ، وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهي عن تُبوّب دور مكة ؛ لأن ينزل الحاج في عَرَصاتها ، فكان أول من بَوّب داره سُهَيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين ، إني كنت امرأ تاجرا ، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري قال : فذلك إذًا .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن منصور ، عن مجاهد ؛ أن عمر بن الخطاب قال : يا أهل مكة ، لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء{[20112]} . قال : وأخبرنا مَعْمر ، عمن سمع عطاء يقول [ في قوله ]{[20113]} : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } ، قال : ينزلون حيث شاءوا .

وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نَجِيح ، عن عبد الله بن عمرو موقوفا{[20114]} من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا{[20115]} .

" وتوسط الإمام أحمد [ فيما نقله صالح ابنه ]{[20116]} فقال : تملك وتورث ولا تؤجر ، جمعا بين الأدلة ، والله أعلم .

وقوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } قال بعض المفسرين من أهل العربية : الباء هاهنا زائدة ، كقوله : { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } [ المؤمنون : 20 ] أي : تُنْبِتُ الدهن ، وكذا قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ{[20117]} } تقديره إلحادًا ، وكما قال الأعشى :

ضَمنَتْ برزق عيالنا أرْماحُنا *** بين المَرَاجِل ، والصّريحَ الأجرد{[20118]} وقال الآخر :

بوَاد يَمانِ يُنْبتُ الشَّثّ صَدْرُهُ *** وَأسْفَله بالمَرْخ والشَّبَهَان

والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى " يَهُمّ " ، ولهذا{[20119]} عداه بالباء ، فقال : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } أي : يَهُمّ فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار .

وقوله : { بِظُلْمٍ } أي : عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول ، كما قال ابن جريج{[20120]} ، عن ابن عباس : هو [ التعمد ]{[20121]} .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بِظُلْمٍ } بشرك .

وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله . وكذا قال قتادة ، وغير واحد .

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : { بِظُلْمٍ } هو أن تَستحلَ من الحرم ما حَرّم الله عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك ، وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فَعَلَ ذلك فقد وجب [ له ]{[20122]} العذاب الأليم .

وقال مجاهد : { بِظُلْمٍ } : يعمل فيه عملا سيئا .

وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر ، إذا كان عازما عليه ، وإن لم يوقعه ، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره :

حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شعبة ، عن السُّدِّي : أنه سمع مُرَّة يحدث عن عبد الله - يعني ابن مسعود - في قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : لو أن رَجُلا أراد فيه بإلحاد بظلم ، وهو بعَدَن أبينَ ، أذاقه{[20123]} الله من العذاب الأليم .

قال شعبة : هو رفعه لنا ، وأنا لا أرفعه لكم . قال يزيد : هو قد رفعه ، ورواه أحمد ، عن يزيد بن هارون ، به{[20124]} .

[ قلت : هذا الإسناد ]{[20125]} صحيح على شرط البخاري ، ووقفه أشبه من رفعه ؛ ولهذا صَمم شعبة على وَقْفه من كلام ابن مسعود . وكذلك رواه أسباط ، وسفيان الثوري ، عن السدي ، عن مُرة ، عن ابن مسعود موقوفا ، والله أعلم .

وقال الثوري ، عن السدي ، عن مُرَّة ، عن عبد الله قال : ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلا بعَدَن أبينَ هَمّ أن يقتل رجلا بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم . وكذا قال الضحاك بن مُزاحم .

وقال سفيان [ الثوري ]{[20126]} ، عن منصور ، عن مجاهد " إلحاد فيه " ، لا والله ، وبلى والله . وروي عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، مثله .

وقال سعيد بن جُبَير : شتم الخادم ظلم فما فوقَه .

وقال سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عطاء ، عن ميمون بن مِهْرَان ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : تجارة الأمير فيه .

وعن ابن عمر : بيع الطعام [ بمكة ]{[20127]} إلحاد .

وقال حبيب{[20128]} بن أبي ثابت : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : المحتكر بمكة . وكذا قال غير واحد .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري ، أنبأنا أبو عاصم ، عن جعفر بن يحيى ، عن عمه عمارة بن ثوبان ، حدثني موسى بن باذان ، عن يعلى بن أمية ؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " احتكار الطعام بمكة إلحاد " {[20129]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر{[20130]} ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قول الله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : نزلت في عبد الله بن أنيس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين ، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب ، فغضب عبد الله بن أنيس ، فقتل الأنصاريّ ، ثم ارتد عن الإسلام ، وهَرَب إلى مكة ، فنزلت فيه : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } يعني : من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام .

وهذه الآثار ، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ، ولكنْ هُو أعم من ذلك ، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها ، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل { تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [ الفيل : 4 ، 5 ] ، أي : دمَّرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء ؛ ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يغزو هذا البيت جيش ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِف بأولهم وآخرهم " الحديث{[20131]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كُنَاسة ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، عن أبيه قال : أتى عبدُ الله بن عمر عبدَ الله بن الزبير ، فقال : يا ابن الزبير ، إياك والإلحاد في حَرَم الله ، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه سيلحدُ فيه رجل من قريش ، لو تُوزَن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت " ، فانظر لا تكن هو{[20132]} .

وقال أيضا [ في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص ]{[20133]} : حدثنا هاشم ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، حدثنا سعيد بن عمرو قال : أتى عبدُ الله بن عمرو ابنَ الزبير ، وهو جالس في الحِجْر فقال : يا بن الزبير ، إياك والإلحادَ في الحرم ، فإني أشهد لسَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحلها ويحل به رجل من قريش ، ولو وُزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها " . قال : فانظر لا تكن{[20134]} هو{[20135]} .

ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين .


[20101]:- زيادة من ت.
[20102]:- زيادة من ف.
[20103]:- زيادة من ف ، أ.
[20104]:- زيادة من أ.
[20105]:- في ت : "حاضرا".
[20106]:- في ف : "رضي الله عنه" ، وفي أ : "رضي الله تعالى عنه".
[20107]:- في ف : "بدارك".
[20108]:- صحيح البخاري برقم (6764) وصحيح مسلم برقم (1614) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
[20109]:- في ت : "جبير" ، وفي ف ، أ : "حيوة".
[20110]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[20111]:- سنن ابن ماجه برقم (3107) وهو مرسل.
[20112]:- في ت ، ف : "شاء".
[20113]:- زيادة من ف ، أ.
[20114]:- في ف ، أ : "مرفوعا".
[20115]:- سنن الدارقطني (2/300)
[20116]:- زيادة من ف ، أ.
[20117]:- في ف ، أ : "بإلحاد بظلم".
[20118]:- البيت في تفسير الطبري (17/103) غير منسوب.
[20119]:- في ف : "ولذا".
[20120]:- في ت : "جرير".
[20121]:- زيادة من ف ، أ.
[20122]:- زيادة من أ.
[20123]:- في ت ، ف ، أ : "لأذاقه".
[20124]:- المسند (1/428)
[20125]:- زيادة من ف ، أ.
[20126]:- زيادة من ف.
[20127]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[20128]:- في ت : "جندب".
[20129]:- ورواه أبو داود في السنن برقم (2020) ، والفاكهي في تاريخ مكة برقم (1771) من طريق أبي عاصم به.
[20130]:- في ت ، ف : "بكر".
[20131]:- رواه البخاري في صحيحه برقم (2118) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[20132]:- المسند (2/136)
[20133]:- زيادة من ف ، أ.
[20134]:- في ت : "لا يكون" وفي ف : "لا تكون".
[20135]:- المسند (21912).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (25)

{ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } لا يريد به حالا ولا استقبالا وإنما يريد به استمروا الصد منهم كقولهم : فلان يعطي ويمنع ، ولذلك حسن عطفه على الماضي . وقيل هو حال من فاعل { كفروا } وخبر { إن } محذوف دل عليه آخر الآية أي معذبون . { والمسجد الحرام } عطف على اسم الله وأوله الحنفية بمكة واستشهدوا بقوله : { الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد } أي المقيم والطارئ على عدم جواز بيع دورها وإجارتها ، وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى : { الذين أخرجوا من ديارهم } وشراء عمر رضي الله تعالى عنه دار السجن فيها من غير نكير ، و { سواء } خبر مقدم والجملة مفعول ل ثان ل { جعلناه } إن جعل { للناس } حالا من الهاء وإلا فحال من المستكن فيه ، ونصبه حفص على أنه المفعول أو الحال و { العاكف } مرتفع به ، وقرىء { العاكف } بالجر على أنه بدل من الناس . { ومن يرد فيه } مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول ، وقرىء بالفتح من الورود . { بإلحاد } عدول عن القصد { بظلم } بغير حق وهما حالان مترادفان ، أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار أو صلة له : أي ملحدا بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام { ندقه من عذاب أليم } جواب ل { من } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (25)

هذا مقابل قوله { وهدوا إلى صراط الحميد } [ الحج : 24 ] بالنسبة إلى أحوال المشركين إذ لم يسبق لقوله ذلك مقابِل في الأحوال المذكورة في آية { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } [ الحج : 19 ] كما تقدم . فموقع هذه الجملة الاستئناف البياني . والمعنى : كما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتّباعهم صراط الله كذلك كان سبَبُ استحقاق المشركين ذلك العذَاب كفرَهم وصدّهم عن سبيل الله .

وفيه مع هذه المناسبة لما قبله تخلّص بديع إلى ما بعده من بيان حقّ المسلمين في المسجد الحرام ، وتهويل أمر الإلحاد فيه ، والتنويهُ به وتنزيههُ عن أن يكون مأوى للشرك ورجس الظلم والعُدوان .

وتأكيد الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به .

وجاء { يصدّون } بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه دأبهم سواء فيه أهل مكة وغيرهم لأن البقية ظاهَرُوهم على ذلك الصد ووافقوهم .

أما صيغة الماضي في قوله : { إن الذين كفروا } فلأنّ ذلك الفعل صار كاللقب لهم مثل قوله : { إن الله يدخل الذين آمنوا } [ الحج : 24 ] .

وسبيل الله : الإسلام ، فصدهم عنه هو الذي حقق لهم عذاب النار ، كما حقق اهتداءُ المؤمنين إليه لهم نعيمَ الجنّة .

والصدّ عن المسجد الحرام مما شمله الصدّ عن سبيل الله فخصّ بالذكر للاهتمام به ، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام ، وذكر بنائه ، وشرع الحجّ له من عهد إبراهيم . والمراد بصدّهم عن المسجد الحرام صدّ عرفه المسلمون يومئذ . ولعله صدّهم المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت . والمعروف من ذلك أنهم مَنَعُوا المسلمين بعد الهجرة من زيارة البيت فقد قال أبو جهل لسَعْد بن معاذ لما جاء إلى مكّة معتمراً وقال لصاحبه أميّة بن خلف : انتظر لي ساعة من النهار لعلّي أطوف بالبيت ، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل وعَرَفَهُ . فقال له أبو جهل : أتطوف بالكعبة آمناً وقد أوتيتم الصْباة ؟ ( يعني المسلمين ) . ومن ذلك مَا صنعوه يوم الحديبية . وقد قيل : إنّ الآية نزلت في ذلك . وأحسب أنّ الآية نزلت قبل ذلك سواء نزلت بمكة أم بالمدينة .

ووصف المسجد بقوله : { الذي جعلناه للناس } الآية للإيماء إلى علّة مؤاخذة المشركين بصدّهم عنه لأجل أنهم خالفوا ما أراد الله منه فإنه جعله للناس كلهم يستوي في أحقية التعبّد به العاكفُ فيه ، أي المستقرّ في المسجد ، والبادي ، أي البعيد عنه إذا دخله .

والمراد بالعاكف : الملازم له في أحوال كثيرة ، وهو كناية عن الساكن بمكة لأنّ الساكن بمكة يعكف كثيراً في المسجد الحرام ، بدليل مقابلته بالبادِي ، فأطلق العكوف في المسجد على سكنى مكة مجازاً بعلاقة اللزوم العرفي . وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم ، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة .

وقرأ الجمهور { سواءٌ } بالرفع على أنه مبتدأ { والعاكف فيه } فاعل سدّ مسدّ الخبر ، والجملة مفعول ثان ل { جعلناه } .

وقرأه حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني ل { جعلناه } .

والعكوف : الملازمة . والبادي : ساكن البادية .

وقوله { سواء } لم يبيّن الاستواء فيما ذا لظهور أنّ الاستواء فيه بصفة كونه مسجداً إنما هي في العبادة المقصودة منه ومن ملحقاته وهي : الطواف ، والسّعي ، ووقوف عرفة .

وكتب { والباد } في المصحف بدون ياء في آخره ، وقرأ ابن كثير { والبادِي } بإثبات الياء على القياس لأنه معرف ، والقياس إثبات ياء الاسم المنقوص إذا كان معرّفاً باللام ، ومحمل كتابته في المصحف بدون ياء عند أهل هذه القراءة أنّ الياء عوملت معاملة الحركات وألِفات أواسط الأسماء فلم يكتبوها . وقرأه نافع بغير ياء في الوقف وأثبتها في الوصل . ومحمل كتابته على هذه القراءة بدون ياء أنه روعي فيه التخفيف في حالة الوقف لأن شأن الرسم أن يراعى فيه حالة الوقف .

وقرأه الباقون بدون ياء في الحالين الوصل والوقف . والوجه فيه قصد التخفيف ومثله كثير .

وليس في هذه الآية حجة لحكم امتلاك دُور مكة إثباتاً ولا نفياً لأنّ سياقها خاص بالمسجد الحرام دون غيره . ويلحق به ما هو من تمام مناسكه : كالمسعَى ، والموقف ، والمشعر الحرام ، والجمار . وقد جرت عادة الفقهاء أن يذكروا مسألة امتلاك دور مكة عند ذكر هذه الآية على وجه الاستطراد . ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه إلاّ ما منعته الشريعة كطواف الحائض بالكعبة .

وأما مسألة امتلاك دور مكة فللفقهاء فيها ثلاثة أقوال : فكان عُمر بن الخطاب وابن عباس وغيرهما يقولون : إن القادم إلى مكة للحج له أن ينزل حيث شاء من ديارها وعلى رب المنزل أن يؤويه . وكانت دور مكة تُدعى السوائب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما .

وقال مالك والشافعي : دور مكة مِلك لأهلها ، ولهم الامتناع عن إسكان غيرهم ، ولهم إكراؤها للناس ، وإنما تجب المواساة عند الضرورة ، وعلى ذلك حملوا ما كان يفعله عمر فهو من المواساة . وقد اشترى عمر دار صفوان بن أمية وجعلها سجناً . وقال أبو حنيفة : دور مكة لا تُملك وليس لأهلها أن يكروها . وقد ظُنّ أن الخلاف في ذلك مبني على الاختلاف في أنّ مكة فتحت عنوة أو صلحاً . والحق أنه لا بناء على ذلك لأنّ من القائلين بأنها فتحت عنوة قائلين بتملك دور مكة فهذا مالك بن أنس يراها فتحت عنوة ويرى صحة تملك دورها . ووجه ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ أهلها في منازلهم فيكون قد أقطعهم إياها كما مَنّ على أهلها بالإطلاق من الأسر ومن السبي . ولم يزل أهل مكة يتبايعون دورهم ولا ينكر عليهم أحد من أهل العلم .

وخبر { إن الذين كفروا } محذوف تقديره : نذقهم من عذاب أليم ، دلّ عليه قوله في الجملة الآتية : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } .

وإذ كان الصد عن المسجد الحرام إلحاداً بظلم فإن جملة { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } تذييل للجملة السابقة لما في ( مَن ) الشرطية من العموم .

والإلحاد : الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور . والظلم يطلق على الإشراك وعلى المعاصي لأنها ظلم النفس .

والباء في { بإلحاد } زائدة للتوكيد مثلها في { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] . أي من يُرد إلحاداً وبعداً عن الحق والاستقامة وذلك صدهم عن زيارته .

والباء في { بظلم } للملابسة . فالظلم : الإشراك ، لأنّ المقصود تهديد المشركين الذين حملهم الإشراك على مناوأة المسلمين ومنعهم من زيارة المسجد الحرام .

و ( من ) في قوله : { من عذاب أليم } مزيدة للتوكيد على رأي من لا يشترطون لزيادة ( مِن ) وقوعها بعد نفي أو نهي . ولك أن تجعلها للتبعيض ، أي نذقه عذاباً من عذاب أليم .