تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (68)

يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار ، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب فقال : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } أي : ما يشاء ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده ، ومرجعها إليه .

وقوله : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } نفي على أصح القولين ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ] .

وقد اختار ابن جرير أن { مَا } هاهنا بمعنى " الذي " ، تقديره : ويختار الذي لهم فيه خيرة . وقد احتج بهذا المسلك طائفة المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح . والصحيح أنها نافية ، كما نقله ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس وغيره أيضا ، فإن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار ، وأنه لا نظير له في ذلك ؛ ولهذا قال : { سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : من الأصنام والأنداد ، التي لا تخلق ولا تختار شيئًا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (68)

{ وربك يخلق ما يشاء ويختار } لا موجب عليه ولا مانع له . { ما كان لهم الخيرة } أي التخير كالطيرة بمعنى التطير ، وظاهره نفي الاختيار عنهم رأسا والأمر كذلك عند التحقيق ، فإن اختيار العباد مخلوق باختيار الله منوط بدواع لا اختيار لهم فيها ، وقيل المراد أنه ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ولذلك خلا عن العاطف ، ويؤيده ما روي أنه نزل في قولهم { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } . وقيل { ما } موصولة مفعول ل{ يختار } والراجع إليه محذوف والمعنى : ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي الخير والصلاح . { سبحان الله } تنزيه له أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره اختيار . { وتعالى عما يشركون } عن إشراكهم أو مشاركة ما يشركونه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (68)

وقوله تعالى : { وربك يخلق ما يشاء ويختار } الآية ، قيل سببها ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقول بعضهم { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }{[9163]} [ الزخرف : 31 ] فنزلت هذه الآية بسبب تلك المنازع ، ورد الله تعالى عليهم وأخبر أنه يخلق من عباده وسائر مخلوقاته ما يشاء وأنه يختار لرسالته من يريد ويعلم فيه المصلحة ثم نفى أن يكون الاختيار للناس في هذا ونحوه ، هذا قول جماعة من المفسرين{[9164]} أن { ما } نافية أي ليس لهم تخير على الله تعالى فتجيء الآية كقوله تعالى { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله }{[9165]} الآية [ الأحزاب : 36 ] .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد و { يختار } الله تعالى الأديان والشرائع وليس له الخيرة في أن يميلوا إلى الأصنام ونحوها في العبادة ، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى : { سبحان الله وتعالى عما يشركون } ، وذهب الطبري إلى أن { ما } في قوله تعالى و { يختار ما كان } مفعولة ب { يختار } قال : والمعنى أن الكفار كانوا يختارون من أموالهم لأصنامهم أشياء فأخبر الله تعالى أن الاختيار إنما هو له وحده يخلق ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس لا كما يختارون هم ما ليس إليه ويفعلون ما لم يؤمروا به .

قال القاضي أبو محمد : واعتذر الطبري عن الرفع الذي أجمع القراء عليه في قوله تعالى : { ما كان لهم الخيرة } بأقوال لا تتحصل{[9166]} وقد رد الناس عليه في ذلك ، وذكر عن الفراء أن القاسم بن معن أنشده بيت عنترة : [ البسيط ]

أمن سمية دمع العين تذريف . . . لو كان ذا منك قبل اليوم معروف{[9167]}

وقرن الآية بهذا البيت والرواية في البيت لو أن ذا ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أن يكون الأمر والشأن مضمراً في كان وذلك في الآية ضعيف ، لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها مجرور وفي هذا كله نظر ، والوقف على ما ذهب إليه جمهور الناس في قوله { ويختار } وعلى ما ذهب إليه الطبري لا يوقف على ذلك ويتجه عندي أن يكون { ما } مفعولة إذا قدرنا { كان } تامة أي أن الله تعالى يختار كل كائن ولا يكون شيء إلا بإذنه ، وقوله تعالى : { لهم الخيرة } جملة مستأنفة معناها تعديد النعمة عليهم في اختيار الله تعالى لهم لو قبلوا وفهموا .


[9163]:من الآية 31 من سورة الزخرف، روي أن الذي قال ذلك هو الوليد بن المغيرة، وكان يعني نفسه، أو عروة بن مسعود الثقفي من الطائف، فآتينا هنا رد عليه، أو جواب لقوله.
[9164]:منهم الزجاج، وعلي بن سليمان، والنحاس، وهم يرون أن الوقف على قوله: (ويختار).
[9165]:من الآية 36 من سورة الأحزاب.
[9166]:قال الطبري: "فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من أن [ما] اسم منصوب بوقوع قوله: [يختار] عليها، فأين خبر [كان] فقد علمت أن ذلك إذا كان كما قلت إن في [كان] ذكرا من [ما]، ولا بد [كان] إذا كان كذلك من تمام، وأين التمام؟ قيل: إن العرب تجعل لحروف الصفات إذا جاءت الأخبار بعدها أحيانا أخبارا كفعلها بالأسماء إذا جاءت بعدها أخبارها، وذلك كما في بيت عنترة حيث رفع (معروفا) بحرف الصفة، وهو لا شك خبر لـ (ذا)". وبيت عنترة هو الذي ذكره ابن عطية هنا بعد قليل.
[9167]:البيت في الديوان مطلع قصيدة قالها لحادثة وقعت له مع امرأة أبيه، وكان اسمها سهية، وقيل: سمية، إذا كانت قد حرشت عليه أباه قبل أن ينسبه إلى نفسه، وقالت لأبيه: إنه يراودني عن نفسه، فغضب أبوه من ذلك غضبا شديدا، وضربه ضربا عنيفا، ثم ضربه بالسيف، فلما رأت امرأة أبيه ذلك وقعت عليه وكفت أباه عنه، ولما رأت جراحه بكت، فقال عنترة هذه الأبيات، والقصة في الأغاني عن الأخفش الصغير، وتذريف: من ذرفت عليه عينه تذرف ذريفا، وهو الدمع الذي يكاد يتصل في نزوله، وقوله: (لو كان ذا منك قبل اليوم معروف) يريد أنه ينكره منها اليوم، ولو كان معروفا منها قبل ذلك لما أنكره. والشاهد أنه جعل قوله (معروف) خبرا بعد الصفة التي في الجار والمجرور (منك)، وهي خبر عن (ذا). كأنه يقول: إن حرف الصفة موضوع موضع ضمير مبتدأ، و (معروف) خبره، وفي هذا كثير من التعسف والتكلف، على أن رواية البيت في الديوان هي: (لو أن ذا منك قبل اليوم معروف)، وعلى هذا فلا شاهد فيه كما قال ابن عطية، والشاهد يأتي على رواية القاسم بن معن القاضي التي ذكرها الفراء، والبيت غير مذكور في (معاني القرآن) للفراء ولعله ذكره في كتاب آخر له.