اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (68)

قوله : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } نزلت هذه الآية جواباً للمشركين حين قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، يعني الوليد بن المغيرة ، أو عروة بن مسعود الثقفي ، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم{[40683]} .

قوله : { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } فيه وجوه :

أحدها : أنَّ ما نافية ، فالوقف على «يَخْتَارُ »{[40684]} .

والثاني : ما مصدرية أي يختار اختيارهم ، والمصدر{[40685]} واقع موقع المفعول ، أي مختارهم{[40686]} .

الثالث : أن يكون بمعنى «الذي » والعائد محذوف ، أي ما كان لهم الخيرة فيه{[40687]} كقوله : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] أي منه{[40688]} ، وجوَّز ابن عطية أن تكون كان تامة ، ولهم الخيرة جملة مستأنفة ، قال : ويتجه عندي أن يكون ما مفعول إذا قدَّرنا كان{[40689]} التامة ، أي : إن الله يختار كلَّ كائن ، ولهم الخيرة مستأنف معناه : تعديد النعم عليهم في اختيار الله لهم لو قبلوا{[40690]} . وجعل بعضهم{[40691]} في كان ضمير الشأن ، وأنشد :

4014 - أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ *** لَوْ كَانَ ذَا مِنْكَ قَبْلَ اليَوْم مَعْرُوفُ{[40692]}

ولو كان ذا اسمها لقال معروفاً ، وابن عطية منع ذلك في الآية ، قال : لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف{[40693]} ، كأنه يريد أن الجار متعلق بمحذوف وضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزئيها{[40694]} إلا أنَّ في هذا نظراً{[40695]} إن أراده ، لأن هذا الجار قائم مقام الخبر ولا أظن أحداً يمنع : هو السلطان في البلد ، وهي الدار ، والخيرة : من التخير كالطيرة من التطير فيستعملان استعمال المصدر{[40696]} ، وقال الزمخشري { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } بيان لقوله «وَيَخْتَارُ » ، لأن معناه : ويختار ما يشاء ولهذا لم يدخل العاطف ، والمعنى أن الخيرة لله في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة{[40697]} فيها ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه{[40698]} .

قال شهاب الدين : لم يزل الناس يقولون : إن الوقف على «يَخْتَار » والابتداء بما{[40699]} على أنها نافية هو مذهب أهل السنة{[40700]} ، ونقل ذلك عن جماعة كأُبيٍّ وغيره{[40701]} ، وأن كونها موصولة متصلة «يَخْتَارُ » غير موقوف عليه هو مذهب المعتزلة ، وهذا الزمخشري قد قرر كونها نافية وحصل غرضه في كلامه وهو موافق لكلام أهل السنة ظاهراً وإن كان لا يريده ، وهذا الطبري من كبار أهل السنة منع أن تكون نافية ، قال : لئلا يكون المعنى : أنه إن لم يكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل ، وأيضاً فلم يتقدم نفي{[40702]} ، وهذا الذي قاله ابن جرير{[40703]} مرويّ عن ابن عباس{[40704]} ، وقال بعضهم : ويختار لهم ما يشاؤه من الرسل ف «ما » على هذا واقعة على العقلاء{[40705]} .

فصل :

إن قيل : «ما » للإثبات فمعناه : ويختار الله ما كان لهم الخيرة ، أي : يختار ما هو الأصلح والخير ، وإن قيل : ما للنفي أي : ليس إليهم الاختيار ، أو ليس لهم أن يختاروا على الله كقوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ }{[40706]} [ الأحزاب : 36 ] ثم قال منزِّهاً نفسه سبحانه وتعالى «عَمَّا يُشْرِكُونَ » أي : إن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة


[40683]:انظر الفخر الرازي 25/10، أسباب النزول للواحدي (252).
[40684]:ورجحه مكي قال: (لأن كونها للنفي يوجب عموم جميع الأشياء في الخير والشر، أنها حدثت بقدر الله واختياره، وليس لمخلوق فيها اختيار غير اكتسابه بقدر من الله له). مشكل إعراب القرآن 2/164، والوقف على "يختار" تام. انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/151-152، إعراب القرآن للنحاس 3/241، منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (293).
[40685]:في ب: والمصدر فيه.
[40686]:حكاه أبو البقاء. التبيان 2/1024.
[40687]:قال الطبري. انظر جامع البيان 20/63.
[40688]:انظر الكشاف 3/177.
[40689]:في ب: كانت.
[40690]:تفسير ابن عطية 11/325.
[40691]:نقله الطبري عن الفراء، وليس في معاني القرآن للفراء، انظر جامع البيان 20/63-64.
[40692]:البيت من بحر البسيط، وهو مطلع قصيدة لعنترة يقولها في امرأة أبيه، وهو في الديوان (53)، جامع البيان 20/64، تفسير ابن عطية 1-/324، والسبع الطوال لابن الأنباري (353)، البحر المحيط 7/129، وفي الديوان (سهية) بدل (سمية) وهو اسمها. تذريف: من ذرفت عليه عينه تذرف تذريفاً، وهو الدمع الذي يكاد يتصل في نزوله. والشاهد فيه أن في (كان) على هذه الرواية- وهي من إنشاء القاسم بن معن- ضمير شأن اسمها، و(ذا) خبرها، و(معروف) مبتدأ مؤخر، وما قبله خبر، تنزيلاً لـ (كان) منزلة (إن). ورواية الديوان: (لو أنَّ ذا منك)، وعليها فلا شاهد في البيت.
[40693]:تفسير ابن عطية 11/325.
[40694]:بجزئيها: سقط من ب.
[40695]:في ب: نظر.
[40696]:انظر الكشاف 3/176.
[40697]:في ب: الجملة. وهو تحريف.
[40698]:الكشاف 3/176-177.
[40699]:في ب: بما كان.
[40700]:انظر القرطبي 13/305.
[40701]:انظر إعراب القرآن للنحاس 3/241.
[40702]:انظر جامع البيان 20/63-64.
[40703]:في ب: ابن جريج.
[40704]:انظر القرطبي 13/306، البحر المحيط 7/129.
[40705]:الدر المصون 5/226، وانظر أيضاً القرطبي 13/306.
[40706]:[الأحزاب: 36]. وانظر البغوي 6/358-359.