الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (68)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"وَرَبّكَ" يا محمد "يَخْلُقُ ما يَشاءُ "أن يخلقه، "ويَخْتارُ" لولايته الخِيَرة من خلقه، ومن سبقت له منه السعادة. وإنما قال جلّ ثناؤه "ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيرَةُ" والمعنى: ما وصفت، لأن المشركين كانوا فيما ذُكِر عنهم يختارون أموالَهم، فيجعلونها لآلهتهم، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وربك يا محمد يخلق ما يشاء أن يخلقه، ويختار للهداية والإيمان والعمل الصالح من خلقه ما هو في سابق علمه أنه خِيَرَتهم، نظير ما كان من هؤلاء المشركين لآلهتهم خيار أموالهم، فكذلك اختياري لنفسي واجتبائي لولايتي واصطفائي لخدمتي وطاعتي خيارَ مملكتي وخلقي... وقوله: "سبحانه وتعالى عَمّا يُشْرِكُونَ" يقول: تعالى ذكره، تنزيها لله وتبرئة له وعلوّا عما أضاف إليه المشركون من الشرك، وما تخرّصوه من الكذب والباطل عليه. وتأويل الكلام: سبحان الله وتعالى عن شركهم. وقد كان بعض أهل العربية يوجهه إلى أنه بمعنى: وتعالى عن الذي يشركون به.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وربك يختار للرسالة من يشاء، ويجتبيه لها، فيجعلهم رسلا {ما كان لهم الخيرة} يقول: لم يكن لهم أن يختاروا ويصطفوا من يشاؤون، ولكن الله يختار ويصطفي من يشاء، رد لقولهم: {لولا نزل هذا القرآن} الآية [الزخرف: 31] إلى هذا ذهب بعضهم. وجائز أن يكون هذا في كل أمر، أي وربك يختار ما يشاء، ويأمر {ما كان لهم الخيرة} من أمره أي التخلص والنجاة من أمره...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

" سبحانه وتعالى عما يشركون "معناه ما عظم الله حق عظمته من أشرك في عبادته، لأن من تعظيمه إخلاص الإلهية له، وأنه الواحد فيما تفرد به على استحقاق العبادة.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

يختار ما يشاء ومَنْ يشاء من جملة ما يخلق. ومَنْ ليس إليه شيءٌ من الخَلْقِ.. فما له والاختيار؟! الاختيار للحقِّ استحقاقُ عِزٍّ يوجِبُ أن يكون ذلك له، لأنَّه لو لم يُنَفِّذْ مشيئتَه واختيارَه لم يكن بوصف العِزِّ، فَمَنْ بَقِيَ عن مُرادِه لا يكون إلاَّ ذليلاً؛ فالاختيارُ للحقِّ نعتُ عِزٍّ، والاختيارُ للخَلْقِ صفةُ نَقْصٍ ونعتُ بلاءٍ وقصور؛ فاختيارُ العَبْدِ غيرُ مُبَارَكٍ عليه لأنَّه صفةٌ هو غيرُ مُسْتَحِقٍّ لها، ومَنْ اتصف بما لا يليق به افتضح في نَفْسِه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

الخيرة من التخير، كالطيرة من التطير: تستعمل بمعنى المصدر هو التخير، وبمعنى المتخير كقولهم: محمد خيرة الله من خلقه {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} بيان لقوله: {وَيَخْتَارُ} لأنّ معناه: ويختار ما يشاء، ولهذا لم يدخل العاطف. والمعنى: أنّ الخيرة لله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه. قيل: السبب فيه قول الوليد بن المغيرة: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يعني: لا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم. وقيل: معناه ويختار الذي لهم فيه الخيرة، أي: يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح، وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم، من قولهم في الأمرين: ليس فيهما خيرة لمختار... {سبحان الله} أي الله بريء من إشراكهم وما يحملهم عليه من الجراءة على الله واختيارهم عليه ما لا يختار.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... ويحتمل أن يريد و {يختار} الله تعالى الأديان والشرائع وليس [لهم] الخيرة في أن يميلوا إلى الأصنام ونحوها في العبادة، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: {سبحان الله وتعالى عما يشركون}... ويتجه عندي أن يكون {ما} مفعولة إذا قدرنا {كان} تامة أي أن الله تعالى يختار كل كائن ولا يكون شيء إلا بإذنه، وقوله تعالى: {لهم الخيرة} جملة مستأنفة معناها تعديد النعمة عليهم في اختيار الله تعالى لهم لو قبلوا وفهموا.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{سبحان الله وتعالى عما يشركون} والمقصود أن يعلم أن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة.

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

المراد بالاختيار هنا الاجتباء والاصطفاء. فهو اختيار بعد الخلق. والاختيار العام اختيار قبل الخلق. فهو أعم وأسبق. وهذا أخص وهو متأخر، فهو اختيار من الخلق والأول اختيار للخلق. وأصح القولين الوقف التام على قوله: {ويختار} ويكون {ما كان لهم الخيرة} نفيا. أي ليس هذا الاختيار إليهم، بل إلى الخالق وحده. فكما أنه هو المتفرد بالخلق، فهو المتفرد بالاختيار منه. فليس لأحد أن يخلق ولا يختار سواه. فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ومحال رضاه، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له. وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه... إن هذه الآية مذكورة عقب قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ * فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ * وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} فكما خلقهم وحده سبحانه، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحا، فكانوا صفوته من عباده، وخيرته من خلقه، وكان هذا الاختيار راجعا إلى حكمته وعلمه سبحانه، لمن هو أهل له. لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم. فسبحان الله وتعالى عما يشركون.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

بعد أن وبخهم فيما سلف على اتخاذهم الشركاء، وذكر أنه يسألهم عنهم يوم القيامة تهكما بهم وتقريعا لهم -أردف ذلك بتجهيلهم على اختيار ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة، وأبان لهم أن تمييز بعض المخلوقات عن بعض، واصطفاءه على غيره من حق الله لا من حقكم أنتم، والله لم يصطف شركاءكم الذين اصطفيتموهم للعبادة والشفاعة، فما أنتم إلا جهال ضُلال.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهذا التعقيب يجيء بعد حكاية قولهم: (إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) وبعد استعراض موقفهم يوم الحساب على الشرك والغواية.. يجيء لتقرير أنهم لا يملكون الاختيار لأنفسهم فيختاروا الأمن أو المخافة! ولتقرير وحدانية الله ورد الأمر كله إليه في النهاية...

هذه الحقيقة لو استقرت في الأخلاد والضمائر لما سخط الناس شيئا يحل بهم، ولا استخفهم شيء ينالونه بأيديهم، ولا أحزنهم شيء يفوتهم أو يفلت منهم. فليسوا هم الذين يختارون، إنما الله هو الذي يختار. وليس معنى هذا أن يلغوا عقولهم وإرادتهم ونشاطهم. ولكن معناه أن يتقبلوا ما يقع -بعد أن يبذلوا ما في وسعهم من التفكير والتدبير والاختيار- بالرضى والتسليم والقبول. فإن عليهم ما في وسعهم والأمر بعد ذلك لله.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة}

هذا من تمام الاعتراض وهي جملة {فأما من تاب وءامن وعمل صالحاً} [القصص: 67] وظاهر عطفه على ما قبله أن معناه آيل إلى التفويض إلى حكمة الله تعالى في خلق قلوب منفتحة للاهتداء ولو بمراحل، وقلوب غير منفتحة له فهي قاسية صماء، وأنه الذي اختار فريقاً على فريق. وفي « أسباب النزول» للواحدي « قال أهل التفسير نزلت جواباً للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله عنه {وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] اه. يعنون بذلك الوليد بن المغيرة من أهل مكة وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف. وهما المراد بالقريتين. وتبعه الزمخشري وابن عطية. فإذا كان كذلك كان اتصال معناها بقوله {ماذا أجبتم المرسلين} [القصص: 65]، فإن قولهم {لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} هو من جملة ما أجابوا به دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى: أن الله يخلق ما يشاء من خلقه من البشر وغيرهم ويختار من بين مخلوقاته لما يشاء مما يصلح له جنس ما منه الاختيار، ومن ذلك اختياره للرسالة من يشاء إرساله، وهذا في معنى قوله {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124]، وأن ليس ذلك لاختيار الناس ورغباتهم؛ والوجهان لا يتزاحمان.

والمقصود من الكلام هو قوله {ويختار} فذكر {يخلق ما يشاء} إيماء إلى أنه أعلم بمخلوقاته.

وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي يفيد القصر في هذا المقام إن لوحظ سبب النزول أي ربك وحده لا أنتم تختارون من يرسل إليكم.

وجوز أن يكون {ما} من قوله {ما كان لهم الخيرة} موصولة مفعولاً لفعل {يختار} وأن عائد الموصول مجرور ب (في) محذوفين. والتقدير: ويختار ما لهم فيه الخير، أي يختار لهم من الرسل ما يعلم أنه صالح بهم لا ما يشتهونه من رجالهم.

وجملة {ما كان لهم الخيرة} استئناف مؤكد لمعنى القصر لئلا يتوهم أن الجملة قبله مفيدة مجرد التقوي. وصيغة {ما كان} تدل على نفي للكون يفيد أشد مما يفيد لو قيل: ما لهم الخيرة، كما تقدم في قوله تعالى {وما كان ربك نسيَّاً} في سورة مريم (64).

والابتداء بقوله {وربك يخلق ما يشاء} تمهيد للمقصود وهو قوله {ويختار ما كان لهم الخيرة} أي كما أن الخلق من خصائصه فكذلك الاختيار.

و {الخيرة} بكسر الخاء وفتح التحتية: اسم لمصدر الاختيار مثل الطيرة اسم لمصدر التطير. قال ابن الأثير: ولا نظير لهما. وفي « اللسان» ما يوهم أن نظيرهما: سبي طيبة، إذا لم يكن فيه غدر ولا نقض عهد. ويحتمل أنه أراد التنظير في الزنة لا في المعنى، لأنها زنة نادرة.

واللام في {لهم} للملك، أي ما كانوا يملكون اختياراً في المخلوقات حتى يقولوا {لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]. ونفي الملك عنهم مقابل لقوله {ما يشاء} لأن {ما يشاء} يفيد معنى ملك الاختيار.

وفي ذكر الله تعالى بعنوان كونه رباً للنبيء صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه اختاره لأنه ربه وخالقه فهو قد علم استعداده لقبول رسالته.

{سبحان الله وتعالى عما يشركون}.

استئناف ابتدائي لإنشاء تنزيه الله وعلوه على طريقة الثناء عليه بتنزهه عن كل نقص وهي معترضة بين المتعاطفين. و {سبحان} مصدر نائب مناب فعله كما تقدم في قوله {قالوا سبحانك لا علم لنا} في سورة البقرة (32). وأضيف {سبحان} إلى اسمه العلم دون أن يقال: وسبحانه، بعد أن قال {وربك يعلم} [القصص: 69] لأن اسم الجلالة مختص به تعالى وهو مستحق للتنزيه بذاته لأن استحقاق جميع المحامد مما تضمنه اسم الجلالة في أصل معناه قبل نقله إلى العلمية.

والمجرور يتنازعه كلا الفعلين. ووجه تقييد التنزيه والترفيع ب (ما يشركون) أنه لم يجترئ أحد أن يصف الله تعالى بما لا يليق به ويستحيل عليه إلا أهل الشرك بزعمهم أن ما نسبوه إلى الله إنما هو كمال مثل اتخاذ الولد أو هو مما أنبأهم الله به، و {إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} [الأعراف: 28]. وزعموا أن الآلهة شفعاؤهم عند الله. وقالوا في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. وأما ما عدا ذلك فهم معترفون بالكمال لله، قال تعالى {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25]. و {ما} مصدرية أي سبحانه وتعالى عن إشراكهم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ويجوز {ما كان لهم الخيرة} أي: المؤمنون ما كان لهم أن يعترضوا على قبول توبة الله على المشركين الذين آذوهم، يقولون: لماذا تقبل منهم التوبة وقد فعلوا بنا كذا وكذا، وقد كنا نود أن نراهم يتقلبون في العذاب؟ والحق تبارك وتعالى يختار ما يشاء، ويفعل ما يريد، وحين يقبل التوبة من المشرك لا يرحمه وحده، ولكن يرحمكم أنتم أيضا حين يريحكم من شره...

وقوله: {سبحان الله وتعالى عما يشركون} أي: تعالى الله وتنزه عما يريدون من أن ينزلوا الحق سبحانه على مرادات أصحاب الأهواء من البشر، ولو أن الحق سبحانه نزل على مرادات أصحاب الأهواء من البشر – وأهواؤهم مختلفة – لفسدت حياتهم جميعا.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} لأنهم لا يملكون من أمرهم شيئاً، فلا بد لهم من الانقياد إليه، والاتكال عليه، وتحريك إرادتهم في خط إرادته، لأنهم لا يملكون حرية التصرف بعيداً عن دائرة التشريع الإلهي، في ما كلَّفهم به، كما لا يملكون القدرة على التحرك بعيداً عن دائرة الإرادة الإلهية في حركة التكوين لينسجم الإنسان في ما يعتمد عليه نظام حياته العملي مع ما يعتمد عليه في وجوده الواقعي.

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :

لقد تقدم في الآيات قبل هذه التنديد بالشرك وتوبيخ المشركين وتحديهم بدعاء شركائهم ليخلصوهم مما هم فيه من الذل والعذاب، وكان شركهم باختيارهم الخاص وإرادتهم الحرة إذ تبرأ منهم من اختاروهم آلهة مع الله فعبدوهم معه. وفي هذه الآية يكشف تعالى عن خطئهم في الاختيار... كان المفروض فيهم والمطلوب منهم أن يطلبوا من الله تعالى خالقهم أن يختار لهم ما يعبدون ويبين لهم كيف يعبدون، إذ هو مولاهم الحق ولا مولى لهم سواه أما أن يركبوا رؤوسهم ويختاروا بأنفسهم ما يعبدون فهذا ظلم منهم كبير استوجبوا به اللوم في الدنيا والعذاب في الآخرة.