الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (68)

قوله تعالى : " وربك يخلق ما يشاء ويختار " هذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم واختاروهم للشفاعة . أي الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء لا إلى المشركين . وقيل : هو جواب الوليد بن المغيرة حين قال : " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " [ الزخرف : 31 ] يعني نفسه زعم ، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف . وقيل : هو جواب اليهود إذ قالوا لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به . قال ابن عباس : والمعنى : وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار منهم من يشاء لطاعته . وقال يحيى بن سلام : والمعنى : وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار من يشاء لنبوته . وحكى النقاش : إن المعنى وربك يخلق ما يشاء من خلقه يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، ويختار الأنصار لدينه .

قلت : وفي كتاب البزار مرفوعا صحيحا عن جابر ( إن الله تعالى اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين ، واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي وفي أصحابي كلهم خير واختار أمتي - على سائر الأمم واختار لي من أمتي أربعة قرون ) وذكر سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن وهب بن منبه عن أبيه في قوله عز وجل : " وربك يخلق ما يشاء ويختار " قال : من النعم الضأن ، ومن الطير الحمام والوقف التام " يختار " وقال علي بن سليمان : هذا وقف التمام ولا يجوز أن تكون " ما " في موضع نصب ب " يختار " لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء . قال : وفي هذا رد على القدرية . قال النحاس : التمام " ويختار " أي ويختار الرسل .

قوله تعالى : " ما كان لهم الخيرة " أي ليس يرسل من اختاروه هم قال أبو إسحاق : " ويختار " هذا الوقف التام المختار ويجوز أن تكون " ما " في موضع نصب ب " يختار " ويكون المعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة . قال القشيري : الصحيح الأول لإطباقهم على الوقف على قوله " ويختار " قال المهدوي : وهو أشبه بمذهب أهل السنة و " ما " من قوله : " ما كان لهم الخيرة " نفي عام لجميع الأشياء أن يكون للعبد فيها شيء سوى اكتسابه بقدرة الله عز وجل . الزمخشري : " ما كان لهم الخيرة " بيان لقوله : " ويختار " لأن معناه يختار ما يشاء ، ولهذا لم يدخل العاطف . والمعني : وإن الخيرة الله تعالى في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها أي ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه وأجاز الزجاج وغيره أن تكون " ما " منصوبة ب " يختار " وأنكر الطبري أن تكون " ما " نافيه ، لئلا يكون المعنى إنهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى ، وهي لهم فيما يستقبل ، ولأنه لم يتقدم كلام بنفي . قال المهدي :ولا يلزم ذلك ؛ لأن " ما " تنفي الحال والاستقبال كليس ولذلك عملت عملها ، ولأن الآي كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم على ما يسأل عنه ، وعلى ما هم مصرون عليه من الأعمال وإن لم يكن ذلك في النص . وتقدير الآية عند الطبري : ويختار من خلقه ، لأن المشركين كانوا يختارون خيار أموالهم فيجعلونها لآلهتهم ، فقال الله تبارك وتعالى : " وربك يخلق ما يشاء ويختار " للهداية ومن خلقه من سبقت له السعادة في علمه ، كما اختار المشركون خيار أموالهم لآلهتهم ف " ما " على هذا لمن يعقل وهي بمعنى الذي " والخيرة " رفع بالابتداء " ولهم " الخبر والجملة خبر " كان " وشبهه بقولك : كان زيد أبوه منطلق وفيه ضعف ، إذ ليس في الكلام عائد يعود على اسم كان إلا أن يقدر فيه حذف فيجوز على بعد . وقد روي معنى ما قاله الطبري عن ابن عباس قال الثعلبي : " ما " نفي أي ليس لهم الاختيار على الله . وهذا أصوب كقوله تعالى : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " [ الأحزاب : 36 ] قال محمود الوراق :

توكل على الرحمن في كل حاجةٍ *** أردت فإن الله يقضي ويقدِرُ

إذا ما يُرِدْ ذو العرش أمراً بعبده *** يُصِبْهُ وما للعبد ما يَتَخَيَّرُ{[12379]}

وقد يهلك الإنسان من وجه حِذْرِهِ *** وينجو بحمد الله من حيث يَحْذَرُ{[12380]}

وقال آخر :

العبدُ ذو ضَجَرٍ والرب ذو قَدَرٍ *** والدهر ذو دُوَلٍ والرزق مقسومُ

والخير أجمع فيما اختار خالقُنا *** وفي اختيار سواه اللَّوْمُ والشُّومُ

قال بعض العلماء : لا ينبغي لأحد أن يقدر على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله الخيرة في ذلك بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة يقرأ في الركعة ألأولى بعد الفاتحة : " قل يا أيها الكافرون " [ الكافرون : 1 ] في الركعة الثانية " قل هو الله أحد " [ الإخلاص : 1 ] واختار بعض المشايخ أن يقرأ في الركعة الأولى " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " الآية ، وفي الركعة الثانية : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " [ الأحزاب : 36 ] وكل حسن ثم يدعو بهذا الدعاء بعد السلام ، وهو ما رواه البخاري من صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ، كما يعلمنا السورة في القرآن ، يقول : ( إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه اللهم وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ) . قال : ويسمي حاجته . وروت عائشة عن أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمرا قال : ( اللهم خر لي واختر لي ) وروى أنس أن النبي صلى الله عليه قال : ( يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ، ثم انظر إلى ما يسبق قلبك فإن الخير فيه ) قال العلماء : وينبغي له أن يفرغ قلبه من جميع الخواطر حتى لا يكون مائلا إلى أمر من الأمور ، فعند ذلك ما يسبق إلى قلبه يعمل عليه ، فإن الخير فيه إن شاء الله وإن عزم على سفر فيتوخى بسفره يوم الخميس أو يوم الاثنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم نزه نفسه سبحانه فقال : " سبحان الله " أي تنزيها . " وتعالى " أي تقدس وتمجد " عما يشركون " .


[12379]:في بعض نسخ الأصل: وما للعبد لا يتخير. والتصحيح من النسخة الخيرية.
[12380]:لعل صواب البيت: وينجو بحمد الله من ليس يحذر. وهذا ما يفيده معنى التوكل.