هذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة " الصافات " وفي سورة " ن " {[19801]} وذلك أن يونس بن مَتَّى ، عليه السلام ، بعثه الله إلى أهل قرية " نينوى " ، وهي قرية من أرض الموصل ، فدعاهم إلى الله ، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم ، فخرج من بين أظهرهم مغاضبا لهم ، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث . فلما تحققوا منه ذلك ، وعلموا أن النبي لا يكذب ، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم ، وفرقوا بين الأمهات وأولادها ، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل ، وجأروا{[19802]} إليه ، ورغت الإبل وفُضْلانها ، وخارت البقر وأولادها ، وثغت الغنم وحُمْلانها ، فرفع الله عنهم العذاب ، قال الله تعالى : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ{[19803]} الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس : 98 ] .
وأما يونس ، عليه السلام ، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فَلَجَّجت بهم ، وخافوا أن يغرقوا{[19804]} . فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه ، فوقعت القرعة على يونس ، فأبوا{[19805]} أن يلقوه ، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضًا ، فأبوا ، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا ، قال الله تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [ الصافات : 141 ] ، أي : وقعت عليه القرعة{[19806]} ، فقام يونس ، عليه السلام ، وتجرد من ثيابه ، ثم ألقى نفسه في البحر ، وقد أرسل الله ، سبحانه وتعالى ، من البحر الأخضر - فيما قاله ابن مسعود - حوتًا يشق البحار ، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة ، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحمًا ، ولا تهشم له عظما ؛ فإن يونس ليس لك رزقا ، وإنما بطنك له يكون سجنًا .
وقوله : { وَذَا النُّونِ } يعني : الحوت ، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة .
وقوله : { إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } : قال الضحاك : لقومه ، { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } [ أي : نضيق عليه في بطن الحوت . يُروَى نحو هذا عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وغيرهم ، واختاره{[19807]} ابن جرير ، واستشهد عليه بقوله تعالى : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [ الطلاق : 7 ] .
وقال عطية العَوفي : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } {[19808]} ، أي : نقضي عليه ، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير ، فإن العرب تقول : قدَر وقَدّر بمعنى واحد ، وقال الشاعر :
فَلا عَائد ذَاكَ الزّمَانُ الذي مَضَى *** تباركت ما تَقْدرْ يَكُنْ ، فَلَكَ الأمْرُ
ومنه قوله تعالى : { فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 12 ] ، أي : قدر .
وقوله : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } قال ابن مسعود : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل . وكذا روي عن ابن عباس{[19809]} ، وعمرو بن ميمون ، وسعيد بن جُبَير ، ومحمد بن كعب ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة .
وقال سالم بن أبي الجعد : ظلمةُ حُوت في بطن حوت{[19810]} ، في ظلمة البحر .
قال ابن مسعود ، وابنُ عباس وغيرهما : وذلك أنه ذهب به الحوتُ في البحار يَشُقُّها ، حتى انتهى به إلى قرار البحر ، فسمع{[19811]} يونسُ تسبيح الحصى في قراره ، فعند ذلك وهنالكَ قال : { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ }
وقال عوف : لما صار يونس في بطن الحوت ، ظن أنه قد مات ، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه ، ثم نادى : يا رب{[19812]} ، اتخذت لك مسجدًا{[19813]} في موضع ما اتخذه{[19814]} أحد .
وقال سعيد بن أبي الحسن البصري : مكث في بطن الحوت أربعين يومًا . رواهما{[19815]} ابن جبير .
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار ، عمن حدثه ، عن عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - سمعتُ أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أراد الله حَبْسَ يونس في بطن الحوت ، أوحى الله إلى الحوت أن خذه ، ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر ، سمع يونس حسًا ، فقال في نفسه : ما هذا ؟ فأوحى الله إليه ، وهو في بطن{[19816]} الحوت : إن هذا تسبيح دواب البحر . قال : فَسَبَّح وهو في بطن الحوت ، فسمع{[19817]} الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا ، إنا نسمع صوتًا ضعيفًا [ بأرض غريبة ]{[19818]} قال : ذلك عبدي يونس ، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر . قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عملٌ صالح ؟ . قال : نعم " . قال : " فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل ، كما قال الله عز وجل :{[19819]} { وَهُوَ سَقِيمٌ } [ الصافات : 145 ] .
ورواه ابن جرير{[19820]} ، ورواه البزار في مسنده ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة ، فذكره بنحوه ، ثم قال : لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد{[19821]} ، وروى ابن عبد الحق من حديث شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سَلمَة{[19822]}
عن علي مرفوعًا : لا ينبغي لعبد أن يقول : " أنا{[19823]} خير من يونس بن متى " ؛ سبح لله في الظلمات{[19824]} .
وقد روي هذا الحديث بدون هذه الزيادة ، من حديث ابن عباس ، وابن مسعود ، وعبد الله بن جعفر ، وسيأتي أسانيدها في سورة " ن " {[19825]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي : حدثني أبو صخر : أن يزيد الرقاشي حدثه قال : سمعت أنس بن مالك - ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يونس النبي ، عليه السلام ، حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت ، قال : " اللهم ، لا إله إلا أنت ، سبحانك ، إني كنت من الظالمين " . فأقبلت هذه الدعوة تحف بالعرش{[19826]} ، فقالت الملائكة : يا رب ، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة ؟ فقال : أما تعرفون ذاك{[19827]} ؟ قالوا : لا يا رب{[19828]} ، ومن هو ؟ قال : عبدي يونس . قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يُرفَع له عَمَلٌ متقبل{[19829]} ، ودعوة مجابة ؟ . [ قال : نعم ]{[19830]} . قالوا : يا رب ، أَوَلا{[19831]} ترحم ما كان يصنع{[19832]} في الرخاء فتنجيَه من البلاء ؟ قال : بلى . فأمر الحوت فطرحه في العراء{[19833]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وذا النون} يعني: يونس بن متى، عليه السلام، {إذ ذهب مغاضبا} يعني: مراغما لقومه... ففارقهم من غير أن يؤمنوا.
{فظن أن لن نقدر عليه} فحسب يونس أن لن نعاقبه بما صنع. {فنادى}: فدعا ربه {في الظلمات} يعني: ظلمات ثلاث ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، فنادى: {أن لا إله إلا أنت} يوحد ربه، عز وجل، {سبحانك} نزه تعالى أن يكون ظلمه، ثم أقر على نفسه بالظلم، فقال: {إني كنت من الظالمين} يقول يونس عليه السلام: إني ظلمت نفسي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد ذا النون، يعني صاحب النون. والنون: الحوت. وإنما عَنَى بذي النون: يونس بن متى، وقد ذكرنا قصته في سورة يونس بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع.
وقوله:"إذْ ذَهَبَ مُغاضِبا" يقول: حين ذهب مغاضبا.
واختلف أهل التأويل في معنى ذهابه مغاضبا، وعمن كان ذهابه، وعلى من كان غضبه؛
فقال بعضهم: كان ذهابه عن قومه وإياهم غاضب... وقال آخرون: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه... وهذا القول، أعني قول من قال: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، أشبه بتأويل الآية، وذلك لدلالة قوله: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ "على ذلك. على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبيّ من الأنبياء ربه واستعظاما له. وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم مما أنكروا، وذلك أن الذين قالوا: ذهب مغاضبا لربه اختلفوا في سبب ذهابه كذلك، فقال بعضهم: إنما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم، واسْتَحْيَا منهم، ولم يعلم السبب الذي دفع به عنهم البلاء. وقال بعض من قال هذا القول: كان من أخلاق قومه الذي فارقهم قتل من جرّبوا عليه الكذب، عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب، فلم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك... وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبيّ الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا: ذهب مغاضبا لقومه لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم، وقد أمره الله تعالى بالمُقام بين أظهرهم، ليبلغهم رسالته ويحذّرهم بأسه وعقوبته على تركهم الإيمان به والعمل بطاعته لا شك أن فيه ما فيه. ولولا أنه قد كان صلى الله عليه وسلم أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه ويصفه بالصفة التي وصفه بها، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: "وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ إذْ نادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ" ويقول: "فالْتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أنهُ كانَ مِنَ المُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ".
وقوله: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" اختلف أهل التأويل في تأويله؛ فقال بعضهم: معناه: فظنّ أن لن نعاقبه بالتضييق عليه. من قولهم قدرت على فلان: إذا ضيقت عليه، كما قال الله جلّ ثناؤه: "وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ"... عن ابن عباس: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" يقول: ظنّ أن لن نقضيَ عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه إذ غضب عليهم وفراره. وعقوبته أخذ النون إياه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظنّ أنه يُعجز ربه فلا يقدر عليه... وقال آخرون: بل ذلك بمعنى الاستفهام، وإنما تأويله: أفظنّ أن لن نقدر عليه؟... وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عَنَى به: فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيق عليه، عقوبة له على مغاضبته ربه.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الكلمة، لأنه لا يجوز أن يُنْسب إلى الكفر وقد اختاره لنبوّته، ووَصْفُه بأن ظنّ أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر عليه، وَصْفٌ له بأنه جهل قدرة الله، وذلك وصف له بالكفر، وغير جائز لأحد وصفه بذلك. وأما ما قاله ابن زيد، فإنه قول لو كان في الكلام دليل على أنه استفهام حسن، ولكنه لا دلالة فيه على أن ذلك كذلك. والعرب لا تحذف من الكلام شيئا لهم إليه حاجة إلا وقد أبقت دليلاً على أنه مراد في الكلام، فإذا لم يكن في قوله: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدرَ عَلَيْهِ" دلالة على أن المراد به الاستفهام كما قال ابن زيد، كان معلوما أنه ليس به وإذ فسد هذان الوجهان، صحّ الثالث وهو ما قلنا.
وقوله: "فَنَادَى في الظّلُماتِ" اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الظلمات، فقال بعضهم: عُني بها ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت... وقال آخرون: إنما عَنَى بذلك أنه نادى في ظلمة جوف حوت في جوف حوت آخر في البحر. قالوا: فذلك هو الظلمات...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن يونس أنه ناداه في الظلمات: "إن لا إلهَ إلا أنْتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ" وَلا شك أنه قد عنى بإحدى الظلمات: بطن الحوت، وبالأخرى: ظلمة البحر، وفي الثالثة اختلاف، وجائز أن تكون تلك الثالثة ظلمة الليل، وجائز أن تكون كون الحوت في جوف حوت آخر. ولا دليل يدلّ على أيّ ذلك من أيّ، فلا قول في ذلك أولى بالحق من التسليم لظاهر التنزيل.
وقوله: "لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ" يقول: نادى يونس بهذا القول معترفا بذنبه تائبا من خطيئته "إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ" في معصيتي إياك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إذ ذهب مغاضبا} اختلف فيه: قال بعضهم: مغاضبا لربه أي حزينا له، لأنه كان أراد أن يهلك الله قومه لما أيس من إيمان قومه، وقد كثر عنادهم ومكابرتهم، فخرج حزينا لذلك...
وقال بعضهم: {إذ ذهب مغاضبا} لقومه، وذلك يخرج على وجوه: أحدها: خرج من عندهم لما أيس من إيمان قومه؛ خرج مكيدة لقومه لأنه السنة فيهم أنه إذا خرج رسول الله من بين أظهرهم نزل بهم العذاب؛ خرج من عندهم ليخافوا العذاب، فيؤمنوا. والثاني: خرج إشفاقا على نفسه لئلا يقتل لما أن قومه هموا بقتله؛ خرج لئلا يقتل إشفاقا على نفسه كما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهر قومه لما هموا بقتله. لكن رسول الله خرج بإذن، ويونس بغير إذن. والثالث: خرج من عندهم لما أكثروا العناد والمكابرة، وأيس من إيمانهم، خرج ليفرغ نفسه لعبادة ربه إذ كان مأمورا بعبادة ربه ودعا قومه إلى ذلك. فلما أيس من إيمانهم خرج كما ذكرنا بغير إذن من ربه، وإن كان في خروجه منفعة له ولقومه، فعوقب لذلك، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} يعني لنفسي في الخروج من غير أن تأذن لي، ولم يكن ذلك من الله عقوبة، لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان تأديباً.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال إن يونس عليه السلام صَحِبَ الحوتَ أياماً قلائل فإلى القيامة يقال له: ذا النون، ولم تبطل عنه هذه النسبة.. فما ظَنُّكَ بِعَبْدٍ عَبَدَه -سبحانه- سبعين سنة، ولازم قلبه محبته ومعرفته طولَ عمره... ترى أيبطل هذا؟ لا يُظَنُّ بِكَرَمِهِ ذلك!
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم، فراغمهم وظنّ أنّ ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضباً لله وأنفة لدينه وبغضاً للكفر وأهله، وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم، فابتلي ببطن الحوت. ومعنى مغاضبته لقومه: أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، «من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب»... وفي حديث آخر «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى».
أما قوله "سبحانك "فهو تنزيه عن كل النقائص ومنها العجز، وهذا يدل على أنه ما كان مراده من قوله: {فظن أن لن نقدر عليه} أنه ظن العجز، وإنما قال: {سبحانك} لأن تقديره سبحانك أن تفعل ذلك جورا أو شهوة للانتقام، أو عجزا عن تخليصي عن هذا الحبس، بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعاء ذي النون في بطن الحوت "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له).
في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه، وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: "وكذلك ننجي المؤمنين" وليس ههنا صريح دعاء، وإنما هو مضمون قوله: "إني كنت من الظالمين" فاعترف بالظلم فكان تلويحا.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذه الأمة العظيمة، الذين آمنوا بدعوة يونس، من أكبر فضائله. ولكنه عليه الصلاة والسلام، ذهب مغاضبا، وأبق عن ربه لذنب من الذنوب، التي لم يذكرها الله لنا في كتابه، ولا حاجة لنا إلى تعيينها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن في هذه الحلقة من قصة يونس -عليه السلام- لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات. إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة، فضاق صدرا بالقوم، وألقى عبء الدعوة، وذهب مغاضبا، ضيق الصدر، حرج النفس؛ فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين. ولولا أن ثاب إلى ربه! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه. لما فرج الله عنه هذا الضيق. ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه. وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها. وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقا. ولكنه بعض تكاليف الرسالة. فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا. ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا. إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب، ومن عتو وجحود. فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة.. وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف.. ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أوصاد القلوب! إن طريق الدعوات ليس هينا لينا. واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة. فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات، والنظم والأوضاع، يجثم على القلوب. ولا بد من إزالة هذا الركام. ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة. ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة. ومن محاولة العثور على العصب الموصل.. وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء. ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلا تاما في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها. وإن الإنسان ليدهش أحيانا وهو يحاول ألف محاولة، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود، وقد أعيا من قبل على كل الجهود!...
إن الداعية أداة في يد القدرة. والله أرعى لدعوته وأحفظ. فليؤد هو واجبه في كل ظرف، وفي كل جو، والبقية على الله. والهدى هدى الله. وإن في قصة ذي النون لدرسا لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه. وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها.