قال العوفي عن ابن عباس : سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [ وَالْحَجِّ ]{[3373]} } يعلمون بها حِلَّ دَيْنهم ، وعدّة نسائهم ، ووقتَ حَجِّهم .
وقال أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : بلغنا أنَّهم قالوا : يا رسول الله ، لم خُلِقَتْ الأهلة ؟ فأنزل الله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } يقول : جَعَلَهَا الله مواقيت لصَوْم المسلمين وإفطارهم ، وعدة نسائهم ، ومَحَلّ دَيْنهم .
وكذا رُوي عن عَطَاء ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، والربيع بن أنس ، نحو ذلك .
وقال عبد الرزاق ، عن عبد العزيز بن أبي رَوّاد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فَعُدُّوا ثلاثين يومًا " .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث ابن أبي رواد ، به{[3374]} . وقال : كان ثقة عابدًا مجتهدًا شريف النسب ، فهو صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وقال محمد بن جابر ، عن قيس بن طلق ؛ عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل الله الأهلَّة ، فإذا رأيتم الهلال فصُوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن أغْمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " {[3375]} . وكذا روي من حديث أبي هريرة ، ومن كلام عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنه{[3376]} {[3377]} .
وقوله : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } قال البخاري : حدثنا عبيد الله{[3378]} بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتَوْا البيت من ظهره ، فأنزل الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا }{[3379]} .
وكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كانت الأنصار إذا قدموا من سَفَر لم يدخل الرجل من قبل بابه ، فنزلت هذه الآية .
وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر : كانت قريش تدعى الحُمْس ، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذْ خرج من بابه ، وخرج معه قُطْبة بن عامر الأنصاري ، فقالوا : يا رسول الله ، إن قطبة ابن عامر رجل تاجر{[3380]} وإنه خرج معك من الباب . فقال له : " ما حملك على ما صنعت ؟ " قال : رأيتك فعلتَه ففعلتُ كما فعلتَ . فقال : " إني [ رجل ]{[3381]} أحمس " . قال له : فإن ديني دينك . فأنزل الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } رواه ابن أبي حاتم . ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه . وكذا روي عن مجاهد ، والزهري ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والسدي ، والربيع بن أنس .
وقال الحسن البصري : كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من بيته يُريد سفره الذي خرج له ، ثم بدا له بَعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره ، لم يدخل البيت من بابه ، ولكن يتسوّره من قبل ظهره ، فقال{[3382]} الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ]{[3383]} } الآية .
وقال محمد بن كعب : كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال عطاء بن أبي رباح : كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويَرَوْنَ أن ذلك أدنى إلى البر ، فقال الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا }
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به ، واتركوا ما نهاكم عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } غدا إذا وقفتم بين يديه ، فيجزيكم{[3384]} بأعمالكم على التمام ، والكمال .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلََكِنّ الْبِرّ مَنِ اتّقَىَ وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ }
ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها ، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية جوابا لهم فيما سألوا عنه . ذكر الأخبار بذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسَ قال قتادة : سألوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك : لم جعلت هذه الأهلة ؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون : هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم ولعدّة نسائهم ومحلّ دَينهم في أشياء ، والله أعلم بما يصلح خلقه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذكر لنا أنهم قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : لم خلقت الأهلة ؟ فأنزل الله تعالى : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ وَالحَجّ }جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم ولحجهم ومناسكهم وعدّة نسائهم وحلّ ديونهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : مَوَاقِيتُ للّناسِ وَالحَجّ قال : هي مواقيت للناس في حجهم وصومهم وفطرهم ونسكهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال الناس : لم خلقت الأهلة ؟ فنزلت : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } لصومهم وإفطارهم وحجهم ومناسكهم . قال : قال ابن عباس : ووقت حجهم ، وعدة نسائهم ، وحلّ دينهم .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } فهي مواقيت الطلاق والحيض والحج .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : حدثنا الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } يعني حل دَينهم ، ووقت حجهم ، وعدّة نسائهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : سأل الناس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } يعلمون بها حل دينهم ، وعدّة نسائهم ، ووقت حجهم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد عن شريك ، عن جابر ، عن عبد الله بن يحيى ، عن عليّ أنه سئل عن قوله : { مَوَاقِيتُ للّناسِ } قال : هي مواقيت الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه فإذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غمّ عليكم فأتموا ثلاثين .
فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنه قوله في ذلك : يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرارها وتمامها واستوائها وتغير أحوالها بزيادة ونقصان ومحاق واستسرار ، وما المعنى الذي خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان ، فقل يا محمد خالف بين ذلك ربكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه ، مواقيت لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم ، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقها واستسرارها وإهلالكم إياها أوقات حل ديونكم ، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه ، وتصرّم عدة نسائكم ، ووقت صومكم وإفطاركم ، فجعلها مواقيت للناس .
وأما قوله : وَالحَجّ فإنه يعني وللحج ، يقول : وجعلها أيضا ميقاتا لحجكم تعرفون بها وقت مناسككم وحجكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون } .
قيل : نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون إذا أحرموا بيوتهم من قبل أبوابها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء يقول : كانت الأنصار إذا حجوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها . قال : فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه ، فقيل له في ذلك ، فنزلت هذه الآية : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . }
حدثني سفيان بن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيوت من ظهورها ، ولم يأتوا من أبوابها ، فنزلت : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . . . }الآية .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود ، عن قيس بن حبير : أن ناسا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه ولا دارا من بابها أو بيتا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دارا . وكان رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن تابوت ، فجاء فتسوّر الحائط ، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج من باب الدار أو قال من باب البيت خرج معه رفاعة ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما حَمَلَكَ عَلى ذَلِكَ ؟ » قال : يا رسول الله رأيتك خرجت منه ، فخرجت منه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي رَجلٌ أحْمَسُ » ، فقال : إن تكن رجلاً أحمس فإن ديننا واحد . فأنزل الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها . }
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها }يقول : ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من كوّات في ظهور البيوت وأبواب في جنوبها تجعلها أهل الجاهلية . فنهوا أن يدخلوا منها وأمروا أن يدخلوا من أبوابها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : كان ناس من أهل الحجاز إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوا من ظهورها ، فنزلت : وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى الآية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها } قال : كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم نقب كوّة في ظهر بيته فجعل سلما فجعل يدخل منها . قال : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ومعه رجل من المشركين ، قال : فأتى الباب ليدخل ، فدخل منه . قال : فانطلق الرجل ليدخل من الكوّة . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما شأنكَ ؟ » فقال : أني أحمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأنا أحْمَسُ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء يتحرّجون من ذلك ، وكان الرجل يخرج مُهلاّ بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فُتخرج إليه من بيته . حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلّ زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة ، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي أحْمَسُ » .
قال الزهري : وكان الحمس لا يبالون ذلك . فقال الأنصاري : وأنا أحمس ، يقول : وأنا على دينك . فأنزل الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . }
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ }الآية كلها . قال قتادة : كان هذا الحيّ من الأنصار في الجاهلية إذا أهلّ أحدهم بحجّ أو عمرة لا يدخل دارا من بابها إلا أن يتسوّر حائطا تسوّرا ، وأسلموا وهم كذلك . فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك ما تسمعون ، ونهاهم عن صنيعهم ذلك ، وأخبرهم أنه ليس من البرّ صنيعهم ذلك ، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها ، } فإن ناسا من العرب كانوا إذا حجوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها كانوا ينقبون في أدبارها ، فلما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم . فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم باب البيت احتبس الرجل خلفه وأبى أن يدخل قال : يا رسول الله إني أحمس يقول : إني محرم وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون الحُمْس . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأنا أيْضا أحْمَسُ فادْخُلْ » فدخل الرجل ، فأنزل الله تعالى ذكره : وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها . } وإن رجالاً من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدهم من عدوّه شيئا أحرم فأمن ، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته واتخذ نقبا من ظهر بيته . فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان بها رجل محرم كذلك ، وإن أهل المدينة كانوا يسمون البستان : الحُشّ . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بستانا ، فدخله من بابه ، ودخل معه ذلك المحرم ، فناداه رجل من ورائه : يا فلان إنك محرم وقد دخلت فقال : «أَنا أحْمَسُ » ، فقال : يا رسول الله إن كنتَ محرما فأنا محرم ، وإن كنتَ أحمس فأنا أحمس . فأنزل الله تعالى ذكره{ : وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها } إلى آخر الآية . فأحلّ الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيّع قوله : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها }قال : كان أهل المدينة وغيرهم إذا أحرموا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها ، وذلك أن يتسوروها ، فكان إذا أحرم أحدهم لا يدخل البيت إلا أن يتسوّره من قبل ظهره . وإن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم بيتا لبعض الأنصار ، فدخل رجل على أثره ممن قد أحرم ، فأنكروا ذلك عليه ، وقالوا : هذا رجل فاجر فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لِمَ دَخَلْتَ مِنَ البابِ وَقَدْ أحْرَمْتَ ؟ » فقال : رأيتك يا رسول الله دخلت فدخلت على أثرك . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي أحْمَسُ » وقريش يومئذ تدعى الحمس فلما أن قال ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم قال الأنصاريّ : إن ديني دينك . فأنزل الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . . } . الآية .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قلت لعطاء قوله : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها } قال : كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرونه برّا ، فقال «البرّ » ، ثم نعت البرّ ، وأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها .
قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : كانت هذه الآية في الأنصار يأتون البيوت من ظهورها يتبررون بذلك .
فتأويل الآية إذا : وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها ، ولكن البرّ من اتقى الله فخافه ، وتجنب محارمه ، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها ، فأما إتيان البيوت من ظهورها فلا برّ لله فيه ، فأتوها من حيث شئتم من أبوابها وغير أبوابها ، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال ، فإن ذلك غير جائز لكم اعتقاده ، لأنه مما لم أحرّمه عليكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون . }
يعني تعالى ذكره بذلك : واتقوا الله أيها الناس فاحذروه وارهبوه بطاعته فيما أمركم من فرائضه واجتناب ما نهاكم عنه لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه ، وتدركوا به البقاء في جناته والخلود في نعيمه . وقد بينا معنى الفلاح فيما مضى قبل بما يدلّ عليه .
اعتراض بين شرائع الأحكام الراجعة إلى إصلاح النظام ، دعا إليه ما حدث من السؤال ، فقد روى الواحدي أنها نزلت بسبب أن أحد اليهود سأل أنصارياً عن الأهلة وأحوالها في الدقة إلى أن تصير بدراً ثم تتناقص حتى تختفي فسأل الأنصاري رسول الله فنزلت هذه الآية ، ويظهر أن نزولها متأخر عن نزول آيات فرض الصيام ببضع سنين ؛ لأن آية : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } متصلة بها . وسيأتي أن تلك الآية نزلت في عام الحديبية أو عام عمرة القضية . فمناسبة وضعها في هذا الموضع هي توقيت الصيام بحلول شهر رمضان ، فكان من المناسبة ذكر المواقيت لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه ، ومن كمال النظام ضبط الأوقات ، ويظهر أن هذه الآية أيضاً نزلت بعد أن شرع الحج أي بعد فتح مكة ، لقوله تعالى : { قل هي مواقيت للناس والحج } .
وابتدئت الآية ب { يسألونك } لأن هنالك سؤالاً واقعاً عن أمر الأهلة . وجميع الآيات التي افتتحت ب { يسألونك } هي متضمنة لأحكام وقع السؤال عنها فيكون موقعها في القرآن مع آيات تناسبها نزلت في وقتها أو قرنت بها . وروي أن الذي سأله عن ذلك معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة الأنصاري فقالا : ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يزيد حتى يمتلىء ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، قال العراقي لم أقف لهذا السبب على إسناد .
وجمع الضمير في قوله : { يسألونك } مع أن المروي أن الذي سأله رجلان نظراً لأن المسؤول عنه يهم جميع السامعين أثناء تشريع الأحكام ؛ ولأن من تمام ضبط النظام أن يكون المسؤول عنه قد شاع بين الناس واستشرف كثير منهم لمعرفته سواء في ذلك من سأل بالقول ومن سأل في نفسه .
وذكر فوائد خلق الأهلة في هذا المقام للإيماء إلى أن الله جعل للحج وقتاً من الأشهر لا يقبل التبديل وذلك تمهيداً لإبطال ما كان في الجاهلية من النسىء في أشهر الحج في بعض السنين .
والسؤال : طلب أحدٍ من آخر بذلَ شيء أو إخباراً بخبر ، فإذا كان طلب بذل عُدّي فعل السؤال بنفسه وإذا كان طلب إخبار عدي الفعل بحرف « عن » أو ما ينوب منابه .
وقد تكررت في هذه السورة آيات مفتتحة ب { يسألونك } وهي سبع آيات غير بعيد بعضها عن بعض ، جاء بعضها غير معطوف بحرف العطف وهي أربع وبعضها معطوفاً به وهي الثلاث الأواخر منها ، وأما غير المفتتحة بحرف العطف فلا حاجة إلى تبيين تجردها عن العاطف ؛ لأنها في استئناف أحكام لا مقارنة بينها وبين مضمون الجمل التي قبلها فكانت جديرة بالفصل دون عطف ، ولا يتطلب لها سوى المناسبة لمواقعها .
وأما الجمل الثلاث الأواخر المفتتحة بالعاطف فكل واحدة منها مشتملة على أحكام لها مزيد اتصال بمضمون ما قبلها فكان السؤال المحكي فيها مما شأنه أن ينشأ عن التي قبلها فكانت حقيقةً بالوصل بحرف العطف كما سيتضح في مواقعها .
والسؤال عن الأهلة لا يتعلق بذواتها إذ الذوات لا يسأل إلا عن أحوالها ، فيُعلم هنا تقدير وحذف أي عن أحوال الأهلة ، فعلى تقدير كون السؤال واقعاً بها غير مفروض فهو يحتمل السؤال عن الحكمة ويحتمل السؤال عن السبب ، فإن كان عن الحكمة فالجواب بقوله : { قل هي مواقيت للناس } جار على وفق السؤال ، وإلى هذا ذهب صاحب « الكشاف » ، ولعل المقصود من السؤال حينئذٍ استثبات كون المراد الشرعي منها موافقاً لما اصطلحوا عليه ؛ لأن كونها مواقيت ليس مما يخفى حتى يسأل عنه ، فإنه متعارف لهم ، فيتعين كون المراد من سؤالهم إن كان واقعاً هو تحقق الموافقة للمقصد الشرعي .
وإن كان السؤال عن السبب فالجواب بقوله : { قل هي مواقيت } غير مطابق للسؤال ، فيكون إخراجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بصرف السائل إلى غير ما يتطلب ، تنبيهاً على أن ما صرف إليه هو المهم له ، لأنهم في مبدأ تشريع جديد والمسؤول هو الرسول عليه الصلاة والسلام وكان المهم لهم أن يسألوه عما ينفعهم في صلاح دنياهم وأخراهم ، وهو معرفة كون الأهلة ترتبت عليها آجال المعاملات والعبادات كالحج والصيام والعدة ، ولذلك صرفهم عن بيان مسؤولهم إلى بيان فائدة أخرى ، لا سيما والرسول لم يجيء مبيناً لعلل اختلاف أحوال الأجرام السماوية ، والسائلون ليس لهم من أصول معرفة الهيئة ما يهيئهم إلى فهم ما أرادوا علمه بمجرد البيان اللفظي بل ذلك يستدعى تعليمهم مقدمات لذلك العلم ، على أنه لو تعرض صاحب الشريعة لبيانه لبين أشياء من حقائق العلم لم تكن معروفة عندهم ولا تقبلها عقولهم يومئذٍ ، ولكان ذلك ذريعة إلى طعن المشركين والمنافقين بتكذيبه ، فإنهم قد أسرعوا إلى التكذيب فيما لم يطلعوا على ظواهره كقولهم : { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة } [ سبأ : 7 ، 8 ] وقولهم : { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلاّ اختلاق } [ ص : 7 ] وعليه فيكون هذا الجواب بقوله : { هي مواقيت للناس والحج } تخريجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر كقول الشاعر . أنشده في « المفتاح » ولم ينسبه ولم أقف على قائله ولم أره في غيره :
أتت تشتكي منّي مزاولة القرى *** وقد رأت الأضياف يَنْحَوْن منزلـي
فقلت لها لمّا سمعت كلامهــا *** هم الضيف جِدِّي في قراهم وعجِّلي
وإلى هذا نحا صاحب « المفتاح » وكأنه بناه على أنهم لا يظن بهم السؤال عن الحكمة في خلق الأهلة لظهورها ، وعلى أن الوارد في قصة معاذ وثعلبة يشعر بأنهما سألا عن السبب إذ قالا : ما بال الهلال يبدو دقيقاً الخ .
والأهلة : جمع هلال وهو القمر في أول استقباله الشمس كل شهر قمري في الليلة الأولى والثانية ، قيل والثالثة ، ومن قال إلى سبع فإنما أراد المجاز ، لأنه يشبه الهلال ، ويطلق الهلال على القمر ليلة ست وعشرين وسبع وعشرين لأنه في قدر الهلال في أول الشهر ، وإنما سمي الهلال هلالاً لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم بالإخبار عنه ينادي بعضهم بعْضاً لذلك ، وإن هَلَّ وأهَلَّ بمعنى رفع صوته كما تقدم في قوله تعالى : { وما أهل به لغير الله } [ البقرة : 173 ] .
وقوله : { مواقيت للناس } أي مواقيت لما يُوقَّت من أعمالهم فاللام للعلة أي لفائدة الناس وهو على تقدير مضاف أي لأعمال الناس ، ولم تذكر الأعمال الموقَّتة بالأهلة ليشمل الكلام كل عمل محتاج إلى التوقيت ، وعطف الحج على الناس مع اعتبار المضاف المحذوف من عطف الخاص على العام للاهتمام به واحتياج الحج للتوقيت ضروري ؛ إذ لو لم يوقّت لجاء الناس للحج متخالفين فلم يحصل المقصود من اجتماعهم ولم يجدوا ما يحتاجون إليه في أسفارهم وحلولهم بمكة وأسواقها ؛ بخلاف الصلاة فليست موقتة بالأهلة ، وبخلاف الصوم فإن توقيته بالهلال تكميلي له ؛ لأنه عبادة مقصورة على الذات فلو جاء بها المنفرد لحصل المقصد الشرعي ولكن شُرع فيه توحيد الوقت ليكون أخف على المكلفين ، فإن الصعب يخف بالاجتماع وليكون حالهم في تلك المدة متماثلاً فلا يشق أحد على آخر في اختلاف أوقات الأكل والنوم ونحوهما .
والمواقيت جمع ميقات والميقات جاء بوزن اسم الآلة من وقَّت وسمى العرب به الوقت ، وكذلك سُمي الشهر شهراً مشتقاً من الشهرة ، لأن الذي يرى هلال الشهر يشهره لدى الناس . وسمى العرب الوقت المعيَّن ميقاتاً كأنه مبالغة وإلاّ فهو الوقت عينه . وقيل : الميقات أخص من الوقت ، لأنه وقت قُدّر فيه عمل من الأعمال ، قلت : فعليه يكون صوغه بصيغة اسم الآلة اعتباراً بأن ذلك العمل المعيَّن يكون وسيلة لتحديد الوقت فكأنه آلة للضبط والاقتصار على الحج دون العمرة لأن العمرة لا وقت لها فلا تكون للأهلة فائدة في فعلها .
ومجيء ذكر الحج في هاته الآية ، وهي من أول ما نزل بالمدينة ، ولم يكن المسلمون يستطيعون الحج حينئذٍ لأن المشركين يمنعونهم إشارة إلى أن وجوب الحج ثابت ولكن المشركين حالوا دون المسلمين ودونه{[177]} . وسيأتي عند قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } في [ سورة آل عمران : 97 ] وعند قوله : { الحج أشهر معلومات } [ البقرة : 197 ] في هذه السورة .
معطوفة على { يسألونك } وليست معطوفة على جملة { هي مواقيت } لأنّه لم يكن مما سألوا عنه حتى يكون مقولاً للمجيب . ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها أن سبب نزولها كان موالياً أو مقارناً لسبب نزول الآية التي قبلها وأن مضمون كلتا الجملتين كان مثار تردد وإشكال عليهم من شأنه أن يسأل عنه ، فكانوا إذا أحرموا بالحج أو العمرة من بلادهم جعلوا من أحكام الإحرام ألا يدخل المحرم بيته من بابه أو لا يدخل تحت سقف يحول بينه وبين السماء ، وكان المحرمون إذا أرادوا أخذ شيء من بيوتهم تسنَّموا على ظهور البيوت أو اتخذوا نقباً في ظهور البيوت إن كانوا من أهل المدر ، وإن كانوا من أهل الخيام دخلوا من خلف الخيمة ، وكان الأنصار يدينون بذلك ، وأما الحُمس فلم يكونوا يفعلون هذا ، والحمس جمع أحمس والأحمس المتشدد بأمر الدين لا يخالفه ، وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجُشم وبنو نصر ابن معاوية ومدلج وعَدوان وعَضْل وبنو الحارث بن عبد مناة ، وبنو عامر بن صعصعة وكلهم من سكان مكة وحرمها ما عدا بني عامر بن صعصعة فإنهم تحمسوا لأن أمهم قرشية .
ومعنى نفي البر عن هذا نفي أن يكون مشروعاً أو من الحنيفية ، وإنما لم يكن مشروعاً لأنه غلو في أفعال الحج ، فإن الحج وإن اشتمل على أفعال راجعة إلى ترك الترفه عن البدن كترك المخيط وترك تغطية الرأس إلاّ أنه لم يكن المقصد من تشريعه إعنات الناس بل إظهار التجرد وترك الترفه ، ولهذا لم يكن الحمس يفعلون ، ذلك لأنهم أقرب إلى دين إبراهيم ، فالنفي في قوله : { وليس البر } نفي جنس البر عن هذا الفعل بخلاف قوله المتقدم { ليس البر أن تولوا وجوهكم } [ البقرة : 177 ] والقرينة هنا هي قوله : { وأتوا البيوت من أبوابها } ولم يقل هنالك : واستقبلوا أية جهة شئتم ، والمقصود من الآيتين إظهار البر العظيم وهو ما ذكر بعد حرف الاستدراك في الآيتين بقطع النظر عما نفي عنه البر ، وهذا هو مناط الشبه والافتراق بين الآيتين .
روى الواحدي في « أسباب النزول » أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ عام الحديبية من المدينة وأنه دخل بيتاً وأن أحداً من الأنصار ، قيل : اسمه قطبة بن عامر وقيل : رفاعة بن تابوت . كان دخل ذلك البيت من بابه اقتداء برسول الله فقاله له النبي صلى الله عليه وسلم لم دخلت وأنْتَ قد أحرمت ؟ فقال له الأنصاري : دخلت أنت فدخلت بدخولك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إني أحمس فقال له الأنصاري : وأنا ديني دينك رضيت بهديك فنزلت الآية ، فظاهر هذه الروايات أن الرسول نهى غير الحُمس عن ترك ما كانوا يفعلونه حتى نزلت الآية في إبطاله ، وفي « تفسير ابن جرير وابن عطية » عن السدي ما يخالف ذلك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل باباً وهو محرم وكان معه رجل من أهل الحجاز فوقف الرجل وقال : إني أحمس فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : وأنا أحمس فنزلت الآية ، فهذه الرواية تقتضي أن النبي أعلن إبطال دخول البيوت من ظهورها .
وأن الحمس هم الذين كانوا يدخلون البيوت من ظهورها ، وأقول : الصحيح من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال : كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل فدخل من بابه فكأنَّه عبّر بذلك هذه الآية ، ورواية السدي وهَم ، وليس في الصحيح ما يقتضي أن رسول الله أمر بذلك ولا يظن أن يكون ذلك منه ، وسياق الآية ينافيه .
وقوله : { ولكن البر من اتقى } القول فيه كالقول في قوله تعالى : { ولكن البر من ءامن بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] .
و { اتقى } فعل منزل منزلة اللازم ؛ لأن المراد به من اتصف بالتقوى الشرعية بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات .
وُجر { بأن تأتوا } بالباء الزائدة لتأكيد النفي بلَيْس ، ومقتضى تأكيد النفي أنهم كانوا يظنون أن هذا المنفي من البر ظناً قوياً فلذلك كانَ مقتضى حالهم أن يؤكَّد نفيُ هذا الظن .
وقوله : { وأتوا البيوت من أبوابها } معطوف على جملة { وليس البر } عطف الإنشاء على الخبر الذي هو في معنى الإنشاء ؛ لأن قوله : { ليس البر } في معنى النهي عن ذلك فكان كعطف أمر على نهي .
وهذه الآية يتعين أن تكون نزلت في سنة خمس حين أزمع النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إلى العمرة في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة والظاهر أن رسول الله نوى أن يحج بالمسلمين إن لم يصده المشركون ، فيحتمل أنها نزلت في ذي القعدة أو قبله بقليل .
وقرأ الجمهور « البيوت » في الموضعين في الآية بكسر الباء على خلاف صيغة جمع فَعْل على فُعول فهي كسرةٌ لمناسبة وقوع الياء التحتية بعد حركة الضم للتخفيف كما قرأوا { عيون } [ الحجر : 45 ] . وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء على أصل صيغة الجمع مع عدم الاعتداد ببعض الثقل ؛ لأنه لا يبلغ مبلغ الثقل الموجب لتغيير الحركة ، قال ابن العربي في « العواصم » : والذي أَختاره لنفسي إذا قرأتُ أكسر الحروف المنسوبة إلى قالون إلاّ الهمزة فإني أتركه أصلاً إلاّ فيما يحيل المعنى أو يلبسه ولا أكسر باء بيوت ولا عَين عيون ، وأطال بما في بعضه نظر ، وهذا اختيار لنفسه بترجيح بعض القراءات المشهورة على بعض .
وقد تقدم خلاف القراء في نصب { البر } من قوله : { ليس البر } [ البقرة : 177 ] وفي تشديد نون { لكن } من قوله : { ولكن البر } .
وقوله { واتقوا الله لعلكم تفلحون } أي تظفَرون بمطلبكم من البر : فإن البر في اتباع الشرع فلا تفعلوا شيئاً إلا إذا كان فيه مرضاة الله ولا تتبعوا خطوات المبتدعين الذين زادوا في الحج ما ليس من شرع إبراهيم .
وقد قيل في تفسير الآية وجوه واحتمالات أخرى كلها بعيدة : فقيل إن قوله { وليس البر } مثل ضربه الله لما كانوا يأتونه من النسيء قاله أبو مسلم وفيه بعد حقيقة ومجازاً ومعنى ؛ لأن الآيات خطاب للمسلمين وهم الذين سألوا عن الأهلة ، والنسيء من أحوال أهل الجاهلية ، ولأنه يئول إلى استعارة غير رشيقة ، وقيل : مثل ضرب لسؤالهم عن الأهلة من لا يعلم وأمرهم بتفويض العلم إلى الله وهو بعيد جداً لحصول الجواب من قبل ، وقيل : كانوا ينذرون إذا تعسر عليهم مطلوبهم ألاّ يدخلوا بيوتهم من أبوابها فنهوا عن ذلك وهذا بعيدٌ معنى ، لأن الكلام مع المسلمين وهم لا يفعلون ذلك ، وسَنَداً ، إذ لم يروِ أحد أن هذا سبب النزول .