تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ فَإِذَا ٱطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا} (103)

يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف ، وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها ، ولكن هاهنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب وغير ذلك ، مما ليس يوجد في غيرها ، كما قال تعالى في{[8245]} الأشهر الحرم : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [ التوبة : 36 ] ، وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها ، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها ؛ ولهذا قال تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } أي في سائر أحوالكم .

ثم قال : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } أي : فإذا أمنتم وذهب الخوف ، وحصلت الطمأنينة { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } أي : فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها ، وخشوعها ، وسجودها وركوعها ، وجميع شئونها .

وقوله : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } قال ابن عباس : أي مفروضا . وكذا روي عن مجاهد ، وسالم بن عبد الله ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، والحسن ، ومقاتل ، والسدي ، وعطية العوفي .

وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } قال ابن مسعود : إن للصلاة وقتا{[8246]} كوقت الحج .

وقال زيد بن أسلم : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } قال : منجما ، كلما مضى نجم ، جاءتهم يعني : كلما مضى وقت جاء وقت .


[8245]:في أ: "حين ذكر".
[8246]:في د، ر: "للصلاة وقت".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ فَإِذَا ٱطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا} (103)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مّوْقُوتاً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : فإذا فرغتم أيها المؤمنون من صلاتكم ، وأنتم مواقفو عدوّكم التي بيناها لكم ، فاذكروا الله على كلّ أحوالكم قياما وقعودا ، ومضطجعين على جنوبكم بالتعظيم له ، والدعاء لأنفسكم بالظفر على عدوّكم ، لعلّ الله أن يظفركم وينصركم عليهم . وذلك نظير قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيُتمْ فِئَةً فاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيرا لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } . وكما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { فاذْكُرُوا اللّهَ قِياما } يقول : لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاءا معلوما . ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر ، فإن الله لم يجعل له حدّا ينتهي إليه ، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله ، فقال : فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ، بالليل والنهار ، في البرّ والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسرّ والعلانية ، وعلى كلّ حال .

وأما قوله : { فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ } فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معنى قوله : { فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ } : فإذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في أمصاركم ، { فأقِيمُوا } يعني : فأتموا { الصّلاةَ } التي أذن لكم بقصرها في حال خوفكم في سفركم وضربكم في الأرض . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد في قوله : { فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ } قال : الخروج من دار السفر إلى دار الإقامة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ } يقول : إذا اطمأننتم في أمصاركم فأتموا الصلاة .

وقال آخرون : معنى ذلك : فإذا استقررتم فأقيموا الصلاة ، أي فأتموا حدودها بركوعها وسجودها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ } قال : فإذا اطمأننتم بعد الخوف .

وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ } قال : فإذا اطمأننتم فصلوا الصلاة لا تصلّها راكبا ولا ماشيا ولا قاعدا .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ } قال : أتموها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل الاَية ، تأويل من تأوّله : فإذا زال خوفكم من عدوّكم وأمنتم أيها المؤمنون واطمأنت أنفسكم بالأمن ، فأقيموا الصلاة ، فأتموها بحدودها المفروضة عليكم ، غير قاصريها عن شيء من حدودها .

وأنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاَية ، لأن الله تعالى ذكره عرّف عباده المؤمنين الواجب عليهم من فرض صلاتهم بهاتين الاَيتين في حالين : إحداهما شدة حال خوف أذن لهم فيها بقصر الصلاة ، على ما بينت من قصر حدودها عن التمام ، والأخرى حال غير شدّة الخوف أمرهم فيها بإقامة حدودها ، وإتمامها على ما وصفه لهم جلّ ثناؤه من معاقبة بعضهم بعضا في الصلاة خلف أئمتهم ، وحراسة بعضهم بعضا من عدوّهم وهي حالة لا قصر فيها ، لأنه يقول جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الحال : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة . فمعلوم بذلك أن قوله : { فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ } إنما هو : فإذا اطمأننتم من الحالة التي لم تكونوا مقيمين فيها صلاتكم فأقيموها ، وتلك حالة شدة الخوف ، لأنه قد أمرهم باقامتها في حال غير شدة الخوف بقوله : { وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ } . . . الاَية .

القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : إن الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة . ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي في قوله : { إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا } قال : فريضة مفروضة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، قال : ثني عليّ عن ابن عباس : { إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا } قال : مفروضا ، الموقوت : المفروض .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أما كتابا موقوتا : فمفروضا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : { كِتابا مَوْقُوتا } قال : مفروضا .

وقال آخرون : معنى ذلك : إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضا واجبا . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن في قوله : { إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا } قال : كتابا واجبا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { كِتابا مَوْقُوتا } قال : واجبا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن معمر بن سام ، عن أبي جعفر في قوله : { كِتابا مَوْقُوتا } قال : مُوجَبا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّ الصّلاةَ كانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا } والموقوت : الواجب .

حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا معمر بن يحيى ، قال : سمعت أبا جعفر يقول : { إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا } قال : وجوبها .

وقال آخرون : معنى ذلك : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا منجما يؤدونها في أنجمها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا } قال : قال ابن مسعود : إن للصلاة وقتا كوقت الحجّ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن زيد بن أسلم في قوله : { إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا } قال : منَجّما ، كلما مضَى نَجم جاء نجم آخر ، يقول : كلما مضى وقت جاء وقت آخر .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن زيد بن أسلم بمثله .

قال أبو جعفر : وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض ، لأن ما كان مفروضا فواجب ، وما كان واجبا أداؤه في وقت بعد وقت فمنجم . غير أن أولى المعاني بتأويل الكلمة قول من قال : إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضا منجما ، لأن الموقوت إنما هو مفعول من قول القائل : وَقَتَ اللّه عليك فرضه فهو يَقِتُهُ ، ففرضُه عليك موقوت ، إذا أخبر أنه جَعل له وقتا يجب عليك أداؤه . فكذلك معنى قوله : { إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقوتا } إنما هو كانت على المؤمنين فرضا وقت لهم وقت وجوب أدائه ، فبّين ذلك لهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ فَإِذَا ٱطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا} (103)

ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف ، على حد ما أمروا عند قضاء المناسك بذكر الله{[4264]} ، فهو ذكر باللسان ، وذهب إلى أن { قضيتم } بمعنى فعلتم ، أي إذا تلبستم بالصلاة فلتكن على هذه الهيئات بحسب الضرورات : المرض ، وغيره ، وبحسب هذه الآية رتب ابن المواز صلاة المريض فقال : يصلي قاعداً فإن لم يطق فعلى جنبه الأيمن ، فإن لم يطق فعلى الأيسر ، فإن لم يطق فعلى الظهر ، ومذهب مالك في المدونة التخيير ، لأنه قال : فعلى جنبه أو على ظهره ، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أنه قال : يبتدىء بالظهر ثم بالجنب ، قال ابن حبيب : وهو وهم ، قال اللخمي : وليس بوهم ، بل هو أحكم في استقبال القبلة ، وقال سحنون : يصلي على جنبه الأيمن كما يجعل في قبره ، فإن لم يقدر فعلى ظهره ، و «الطمأنينة » في الآية : سكون النفس من الخوف ، وقال بعض المتأولين : المعنى : فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعاً ، وقوله تعالى : { كتاباً موقوتاً } معناه : منجماً في أوقات ، هذا ظاهر اللفظ ، وروي عن ابن عباس : أن المعنى مفروضاً ، فهما لفظان بمعنى واحد كرر مبالغة .


[4264]:- في قوله تعالى في الآية (200) من سورة البقرة: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا}.