محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَإِذَا قَضَيۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ فَإِذَا ٱطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا} (103)

( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا103 )

( فإذا قضيتم ) أي : أتممتم ( الصلاة ) أي : صلاة الخوف ، على ما فصل ( فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) أي : فداوموا على ذكره تعالى في جميع الأحوال . فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه . قاله الرازي . وقال ابن كثير : أمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف ، وان كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها . ولكن هنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ، ومن الرخصة في الذهاب فيها والاياب ، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى : ( في الأشهر الحرم ) : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) {[2209]} . وان كان هذا منهيا عنه في غيرها ، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها . ( فإذا اطمأننتم ) أي : سكنت قلوبكم بالأمن ( فأقيموا الصلاة ) أي : على الحالة التي كنتم تعرفونها . فلا تغيروا شيئا من هيآتها ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) أي : أي : فرضا موقتا ، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها وان لزمها نقائص في رعايتها .

فصل

في أحكام تتعلق بهذه الآية :

الأول : في هذه الآية مشروعية صلاة الخوف وصفتها . وأنه لا يجب قضاؤها . وأنه يطلب فيها حمل السلاح إلا لعذر .

الثاني : تعلق بظاهر قوله تعالى : ( وإذا كنت فيهم ) من لم ير صلاة الخوف بعده صلى الله عليه وسلم . زاعما أنها خاصة بعهده صلى الله عليه وسلم . لاشتراطه كونه فيهم . ولا يخفى أن الأئمة بعده نوابه قوام بما كان يقوم به . فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صلى الله عليه وسلم . كما في قوله تعالى : ( خذ من أموالهم صدقة ) {[2210]} . وقد قال صلى الله عليه وسلم : {[2211]} " صلوا كما رأيتموني أصلي " . وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم . وقد روى أبو داود{[2212]} والنسائي والحاكم وابن أبي شيبة وغيرهم ، عن سعيد بن العاص أنه قال ( في غزوة ومعه حذيفة ) : " أيكم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا . فأمرهم حذيفة فلبسوا السلاح ثم قال : إن هاجمكم هيج فقد حل لكم القتال . فصلى بإحدى الطائفتين ركعة . والأخرى مواجهة العدو ثم انصرف هؤلاء . فقاموا مقام أولئك . وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى . ثم سلم عليهم . وكانت الغزوة بطبرستان " . قال بعضهم : وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم . فلم ينكره أحد . فحل محل الإجماع . وروى أبو داود{[2213]} " أن عبد الرحمان بن سمرة صلى ، بكابل ، صلاة الخوف " .

الثالث : روى الإمام أحمد{[2214]} وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود والنسائي وغيرهم ( في نزول الآية عن ابن عباس رضي الله عنه ) قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان . فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد . وهم بيننا وبين القبلة . فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر . فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم . ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم . فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة . . . ) فحضرت الصلاة . فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح . فصفنا خلفه صفين . ثم ركع فركعنا جميعا . ثم رفع فرفعنا جميعا . ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم . فلما سجدوا وقاموا ، جلس الآخرون . فسجدوا في مكانهم . ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء . ثم ركع فركعوا جميعا . ثم رفع فرفعوا جميعا . ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم . فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا . ثم سلم عليهم " . وروى عبد الرزاق عن الثوري عن هشام ، مثل هذا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . إلا أنه قال : " نكص الصف المقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود . ويتقدم الصف المؤخر فيسجدون في مصاف الأولين " . وروى عبد الرزاق وابن المنذر وابن جرير{[2215]} عن ابن أبي نجيح قال : قال مجاهد : " ( في قوله تعالى : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) : نزلت يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا . فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربعا . ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعهم ، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم ويقاتلوهم ، فأنزل الله عليهم : ( فلتقم طائفة ) . فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر وصف أصحابه صفين وكبر بهم جميعا . فسجد الأولون بسجوده والآخرون قيام لم يسجدوا . حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم والصف الأول . ثم كبر بهم وركعوا جميعا . فقدموا الصف الآخر واستأجروا . فتعاقبوا السجود كما فعلوه أول مرة . وقصر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ركعتين " . وفي هذه الأحاديث أن صلاة الطائفتين مع الإمام جميعا . واشتراكهم في الحراسة . ومتابعته في جميع أركان الصلاة إلا السجود . فتسجد معه طائفة وتنتظر الأخرى حتى تفرغ الأولى . ثم تسجد . وإذا فرغوا من الركعة الأولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة . وتأخرت المتقدمة . ( فان قلت ) : لا ينطبق ما في الآية على هذه الروايات التي حكت سبب نزولها . وذلك لأنه قيل في الآية : ( فلتقم طائفة منهم معك ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا . . . ) الآية . وفي هذه الروايات أنهم قاموا جميعا معه صلى الله عليه وسلم في الصلاة . وإنما ينطبق ما فيها على ما رواه الشيخان{[2216]} عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة للعدو . ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو . وجاء أولئك . ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم . ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة " . وما روياه عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع ؛ ( أن الطائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو . فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما . فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو . وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته . فأتموا لأنفسهم فسلم بهم " . – ( قلت ) : بمراجعة ما أسلفناه في المقدمة من قاعدة سبب النزول يندفع الإشكال . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ضجنان وعسفان . فقال المشركون : لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم . وهي العصر . فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة . وأن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقسم أصحابه شطرين . فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم . وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . فتكون لهم ركعة وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان " . أخرجه أصحاب ( السنن ){[2217]} .

ثم رأيت القرطبي بحث في ( تفسيره ) نحو ما سبق لي حيث قال : وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد . لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين . ثم قال ( بعد رواية حديث أبي هريرة المذكور ) قلت : ولا تعارض بين هذه الروايات . فلعله صلى الله عليه وسلم صلى بهم أخرى مفترقين . انتهى .

الرابع : ظاهر الآية الكريمة الترخيص لكل طائفة بركعة واحدة . لأنه لم يبين فيها حال الركعة الباقية . وقد روى النسائي{[2218]} عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد فصف الناس خلفه صفين : صفا خلفه وصفا موازي العدو . فصلى بالذين خلفه ركعة . ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء . وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة " . وكذا روى أبو داود والنسائي{[2219]} أيضا عن حذيفة " أنه صلى بطبرستان بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا " . وروى أحمد ومسلم{[2220]} وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " فرض الله الصلاة على نبيكم صلى الله عليه وسلم ، في الحضر ، أربعا . وفي السفر ركعتين . وفي الخوف ركعة " . فهذه الأحاديث تدل على أن من صفة صلاة الخوف ، الاقتصار على ركعة لكل طائفة .

قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف ، يقول الثوري واسحاق ومن تبعهما . وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين . ومنهم من قيد بشدة الخوف . وقال الجمهور : قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد . وتأولوا هذه الأحاديث بان المراد بها ركعة مع الامام وليس فيها نفي الثانية . ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس وحذيفة : ( ولم يقضوا ركعة ) وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني : ( وفي الخوف ركعة ) وأما تأولهم قوله : ( لم يقضوا ) بأن المراد منه لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن – فبعيد جدا . كذا في ( نيل الأوطار ) نعم . وقع في حديث ابن عمر المتفق عليه وقد قدمناه : " ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة " . وعند أبي داود من حديث ابن مسعود : " ثم سلم ، وقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة . ثم سلموا ثم ذهبوا . ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم هديه صلى الله عليه وسلم في أدائها ، قال في آخر سورة : وتارة كان يصلي باحدى الطائفتين ركعة فتذهب ولا تقضي شيئا . وتجيء الأخرى فيصلي بهم ركعة ولا تقضي شيئا . فيكون له صلى الله عليه وسلم ركعتان . ولهم ركعة ركعة . وهذه الأوجه كلها يجوز الصلاة بها .

قال الامام احمد : كل حديث يروى في باب صلاة الخوف فالعمل به جائز . انتهى . وقال ابن كثير : صلاة الخوف أنواع كثيرة . فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة . وتارة يكون في غير صوبها . ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة . بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها . ورجالا وركبانا . ولهم أن يمشوا والحالة هذه ، ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة . ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم ، وبه قال أحمد بن حنبل .

قال المنذري : وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد . واليه ذهب طاووس والضحاك . وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف . واليه ذهب ابن حزم أيضا . وقال اسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها ايماء . فإن لم تقدر فسجدة واحدة . لأنها ذكر الله . وقال آخرون : يكفي تكبيرة واحدة . فلعله أراد ركعة واحدة . كما قاله الامام أحمد بن حنبل وأصحابه . وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدي . ورواه ابن جرير . ولكن الذين حكوه انما حكوه على ظاهره في الاجتراء بتكبيرة واحدة . كما هو مذهب اسحاق بن راهويه . واليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي حتى قال : فإن لم يقدر على التكبيرة فلا يتركها في نفسه . يعني بالنية . رواه سعيد بن منصور في ( سننه ) عن اسماعيل بن عياش عن شعيب بن دينار عنه . فالله أعلم . ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة . كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب الظهر والعصر ، فصلاهما بعد الغروب . ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء . وكما قال بعدها ، يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش : " لا يصلين احد منكم العصر الا في بني قريظة . فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق . فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم الا تعجيل المسير . ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها . فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق . وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب . ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الفريقين " .

فاحتج في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة ، اليهود . وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فانها لم تكن نزلت بعد . فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك . وهذا أبين في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعي رحمه الله وأهل ( السنن ) . ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاري في ( صحيحه ) {[2221]} حيث قال ( باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو ) وقال الأوزاعي : ان كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا ايماء . كل امرئ لنفسه . فإن لم يقدروا / على الايماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين . فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين . فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا . وبه قال مكحول . وقال أنس بن مالك : " حضرت عند مناهضة حصن تستر عند اضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة . فلم نصل الا بعد ارتفاع النهار . فصليناها ونحن مع أبي موسى ، ففتح لنا . وقال أنس : وما يسرني ، بتلك الصلاة ، الدنيا وما فيها " . انتهى . ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ثم بحديث{[2222]} أمره إياهم أن لا يصلوا العصر الا في بني قريظة وكأنه كالمختار لذلك . والله أعلم . ولمن جنح له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالبا . وكان ذلك في امارة عمر بن الخطاب . ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة . والله أعلم . قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي . وممن نص على ذلك محمد بن اسحاق وموسى بن عقبة والواقدي ومحمد بن سعد ، كاتبه وخليفة بن الخياط وغيرهم . وقال البخاري{[2223]} وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق ، لحديث أبي موسى . وما قدم الا في خيبر . والله أعلم .

/ الحكم الخامس : استدل بقوله تعالى : ( طائفة ) على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد . لكن لا بد أن تكون التي تحرص الثقة بها في ذلك .

قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد . فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف . جاز لأحدهم أن يصلي بواحد . ويحرس واحد . ثم يصلي الآخر . وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة .

السادس : استدل بالآية على عظم أمر الجماعة بل على ترجيح القول بموجبها . لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها . ولو صلى كل امرئ منفردا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك . أفاده الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) .

قال ابن كثير : وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة . حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة . فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك .

السابع : قال بعض المفسرين : اختلف بأخذ السلاح في قوله تعالى : ( وليأخذوا أسلحتهم ) فقيل : هم الطائفة الذين يواجهون العدو . وهذا ظاهر : وقيل : بل هم الطائفة المصلون . وأراد ما لا يشغل عن الصلاة من الدرع والخنجر والسيف ونحو ذلك . وقيل : للطائفتين . وهو قول القاسم . انتهى .

قال الناصر في ( الانتصاف ) : والظاهر أن المخاطب بأخذ الأسلحة المصلون . اذ من لم يصل انما أعد للحرس . فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه . وهم انما أخروا الصلاة لذلك . أما المصلون فهم في مظنة طرح الأسلحة لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة . فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وان كانوا في الصلاة . لضرورة الخوف وخشية الغرة . وأيضا فصنيع الآية يعطي ذلك . لأنه قال : ( فلتقم طائفة منهم معك ) وعقب ذلك بقوله : ( وليأخذوا أسلحتهم ) فالظاهر رجوع الضمير إليهم . وحيث يعاد إلى غير المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم ، بدلالة قوة الكلام عليهم ، وان لم يذكروا . وناقش الناصر أيضا ، الزمخشري في جعله المراد بقوله تعالى : ( فاذا سجدوا فليكونوا ) غير المصلين . فقال : الظاهر ان معنى السجود ههنا الصلاة ، وقد عبر عنها بالسجود كثيرا . والمراد : فاذا صلت الطائفة ، ( أي أتمت صلاتها ) فليكونوا من ورائكم . انتهى .

الثامن : قال أبو علي الجرجاني صاحب ( النظم ) : قوله تعالى : ( وخذوا حذركم ) يدل على أنه كان يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم ان يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا ، غير غافل عن كيد العدو . والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر . لان العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة . فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة . ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم . فلا جرم ، أمروا بأن يصيروا طائفتين : طائفة في وجه العدو ، وطائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة . واما حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان وببطن نخل ، فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين . وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة . والمسلمون كانوا مستقبلين لها . فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة . فلم يحتاجوا إلى الاحتراس الا عند السجود . فلا جرم ، لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم . فلما فرغوا من السجود وقاموا ، تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا . وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني . فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى : ( خذوا حذركم ) . يدل على جواز كل هذه الوجوه . والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه ، أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكرارا محضا من غير فائدة . ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن . وانه غير جائز . نقله الرازي .

وقال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة . يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة . فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى . انتهى . وأنواعها مبينة في شروح السنة .


[2209]:|9/ التوبة/ 36| ونصها: (ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلوكم كافة واعلموا ان الله مع المتقين36).
[2210]:|9/ التوبة/ 103| ونصها: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ونزكيهم بها وصل عليهم ان صلواتك سكن لهم والله سميع عليم103).
[2211]:أخرجه البخاري في: 10 –كتاب الأذان، 18 –باب الأذان للمسافر اذا كانوا جماعة، والاقامة، حديث 402 ونصه: عن مالك بن الحويرث: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون. فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا. فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا. فأخبرناه. قال: "ارجعوا الى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم" وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها "وصلوا كما رأيتموني أصلي. فاذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكبركم".
[2212]:أخرجه أبو داود في: 4 –كتاب الصلاة، 18 –باب من قال يصلي بكل ركعة ولا يقضون، حديث 1246. والنسائي في: 18 –كتاب صلاة الخوف، 1 –أخبرنا اسحاق بن ابراهيم.
[2213]:أخرجه أبو داود في: 4 –كتاب الصلاة، 17 –باب من قال يصلي بكل طائفة ركعة، ثم يسلم... الخ. حديث 1245.
[2214]:أخرجه في المسند بالصفحة 59 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي). وأبو داود في: 4 –كتاب الصلاة، 12 –باب صلاة الخوف، حديث 1236. والنسائي في: 18 –كتاب صلاة الخوف، 21 –باب اخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار.
[2215]:الأثر رقم 10321.
[2216]:أخرجه البخاري في: 64 –كتاب المغازي، 31 –باب غزوة ذات الرقاع، حديث 1889. ومسلم في: 6 –كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث 305 و306 (طبعتنا).
[2217]:أخرجه النسائي في: 18 –كتاب صلاة الخوف، 16 –باب أخبرنا العباس بن عبد العظيم.
[2218]:أخرجه النسائي في: 18 –كتاب صلاة الخوف، 16 –باب أخبرنا العباس بن عبد العظيم.
[2219]:أخرجه النسائي في: 18 –كتاب صلاة الخوف، 2 –باب أخبرنا عمرو بن علي.
[2220]:أخرجه مسلم في: 6 –كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث 5 (طبعتنا).
[2221]:أخرجه البخاري يف: 12 –كتاب صلاة الخوف، 4 –باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو.
[2222]:أخرجه البخاري في: 12 –كتاب صلاة الخوف، 5 –باب صلاة الطالب والمطلوب، حديث 549 ونصه: عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا، لما رجع من الأحزاب، "لا يصلين أحد العصر الا في بني قريظة" فأدرك بعضهم العصر في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي. لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحدا منهم.
[2223]:البخاري في: 64 –كتاب المغازي، 31 –باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان. فنزل نخلا. وهي بعد خيبر. لأن أبا موسى جاء بعد خيبر.