( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا103 )
( فإذا قضيتم ) أي : أتممتم ( الصلاة ) أي : صلاة الخوف ، على ما فصل ( فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) أي : فداوموا على ذكره تعالى في جميع الأحوال . فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه . قاله الرازي . وقال ابن كثير : أمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف ، وان كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها . ولكن هنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ، ومن الرخصة في الذهاب فيها والاياب ، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى : ( في الأشهر الحرم ) : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) {[2209]} . وان كان هذا منهيا عنه في غيرها ، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها . ( فإذا اطمأننتم ) أي : سكنت قلوبكم بالأمن ( فأقيموا الصلاة ) أي : على الحالة التي كنتم تعرفونها . فلا تغيروا شيئا من هيآتها ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) أي : أي : فرضا موقتا ، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها وان لزمها نقائص في رعايتها .
الأول : في هذه الآية مشروعية صلاة الخوف وصفتها . وأنه لا يجب قضاؤها . وأنه يطلب فيها حمل السلاح إلا لعذر .
الثاني : تعلق بظاهر قوله تعالى : ( وإذا كنت فيهم ) من لم ير صلاة الخوف بعده صلى الله عليه وسلم . زاعما أنها خاصة بعهده صلى الله عليه وسلم . لاشتراطه كونه فيهم . ولا يخفى أن الأئمة بعده نوابه قوام بما كان يقوم به . فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صلى الله عليه وسلم . كما في قوله تعالى : ( خذ من أموالهم صدقة ) {[2210]} . وقد قال صلى الله عليه وسلم : {[2211]} " صلوا كما رأيتموني أصلي " . وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم . وقد روى أبو داود{[2212]} والنسائي والحاكم وابن أبي شيبة وغيرهم ، عن سعيد بن العاص أنه قال ( في غزوة ومعه حذيفة ) : " أيكم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا . فأمرهم حذيفة فلبسوا السلاح ثم قال : إن هاجمكم هيج فقد حل لكم القتال . فصلى بإحدى الطائفتين ركعة . والأخرى مواجهة العدو ثم انصرف هؤلاء . فقاموا مقام أولئك . وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى . ثم سلم عليهم . وكانت الغزوة بطبرستان " . قال بعضهم : وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم . فلم ينكره أحد . فحل محل الإجماع . وروى أبو داود{[2213]} " أن عبد الرحمان بن سمرة صلى ، بكابل ، صلاة الخوف " .
الثالث : روى الإمام أحمد{[2214]} وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود والنسائي وغيرهم ( في نزول الآية عن ابن عباس رضي الله عنه ) قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان . فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد . وهم بيننا وبين القبلة . فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر . فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم . ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم . فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة . . . ) فحضرت الصلاة . فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح . فصفنا خلفه صفين . ثم ركع فركعنا جميعا . ثم رفع فرفعنا جميعا . ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم . فلما سجدوا وقاموا ، جلس الآخرون . فسجدوا في مكانهم . ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء . ثم ركع فركعوا جميعا . ثم رفع فرفعوا جميعا . ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم . فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا . ثم سلم عليهم " . وروى عبد الرزاق عن الثوري عن هشام ، مثل هذا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . إلا أنه قال : " نكص الصف المقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود . ويتقدم الصف المؤخر فيسجدون في مصاف الأولين " . وروى عبد الرزاق وابن المنذر وابن جرير{[2215]} عن ابن أبي نجيح قال : قال مجاهد : " ( في قوله تعالى : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) : نزلت يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا . فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربعا . ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعهم ، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم ويقاتلوهم ، فأنزل الله عليهم : ( فلتقم طائفة ) . فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر وصف أصحابه صفين وكبر بهم جميعا . فسجد الأولون بسجوده والآخرون قيام لم يسجدوا . حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم والصف الأول . ثم كبر بهم وركعوا جميعا . فقدموا الصف الآخر واستأجروا . فتعاقبوا السجود كما فعلوه أول مرة . وقصر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ركعتين " . وفي هذه الأحاديث أن صلاة الطائفتين مع الإمام جميعا . واشتراكهم في الحراسة . ومتابعته في جميع أركان الصلاة إلا السجود . فتسجد معه طائفة وتنتظر الأخرى حتى تفرغ الأولى . ثم تسجد . وإذا فرغوا من الركعة الأولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة . وتأخرت المتقدمة . ( فان قلت ) : لا ينطبق ما في الآية على هذه الروايات التي حكت سبب نزولها . وذلك لأنه قيل في الآية : ( فلتقم طائفة منهم معك ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا . . . ) الآية . وفي هذه الروايات أنهم قاموا جميعا معه صلى الله عليه وسلم في الصلاة . وإنما ينطبق ما فيها على ما رواه الشيخان{[2216]} عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة للعدو . ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو . وجاء أولئك . ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم . ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة " . وما روياه عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع ؛ ( أن الطائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو . فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما . فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو . وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته . فأتموا لأنفسهم فسلم بهم " . – ( قلت ) : بمراجعة ما أسلفناه في المقدمة من قاعدة سبب النزول يندفع الإشكال . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ضجنان وعسفان . فقال المشركون : لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم . وهي العصر . فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة . وأن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقسم أصحابه شطرين . فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم . وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . فتكون لهم ركعة وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان " . أخرجه أصحاب ( السنن ){[2217]} .
ثم رأيت القرطبي بحث في ( تفسيره ) نحو ما سبق لي حيث قال : وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد . لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين . ثم قال ( بعد رواية حديث أبي هريرة المذكور ) قلت : ولا تعارض بين هذه الروايات . فلعله صلى الله عليه وسلم صلى بهم أخرى مفترقين . انتهى .
الرابع : ظاهر الآية الكريمة الترخيص لكل طائفة بركعة واحدة . لأنه لم يبين فيها حال الركعة الباقية . وقد روى النسائي{[2218]} عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد فصف الناس خلفه صفين : صفا خلفه وصفا موازي العدو . فصلى بالذين خلفه ركعة . ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء . وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة " . وكذا روى أبو داود والنسائي{[2219]} أيضا عن حذيفة " أنه صلى بطبرستان بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا " . وروى أحمد ومسلم{[2220]} وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " فرض الله الصلاة على نبيكم صلى الله عليه وسلم ، في الحضر ، أربعا . وفي السفر ركعتين . وفي الخوف ركعة " . فهذه الأحاديث تدل على أن من صفة صلاة الخوف ، الاقتصار على ركعة لكل طائفة .
قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف ، يقول الثوري واسحاق ومن تبعهما . وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين . ومنهم من قيد بشدة الخوف . وقال الجمهور : قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد . وتأولوا هذه الأحاديث بان المراد بها ركعة مع الامام وليس فيها نفي الثانية . ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس وحذيفة : ( ولم يقضوا ركعة ) وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني : ( وفي الخوف ركعة ) وأما تأولهم قوله : ( لم يقضوا ) بأن المراد منه لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن – فبعيد جدا . كذا في ( نيل الأوطار ) نعم . وقع في حديث ابن عمر المتفق عليه وقد قدمناه : " ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة " . وعند أبي داود من حديث ابن مسعود : " ثم سلم ، وقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة . ثم سلموا ثم ذهبوا . ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم هديه صلى الله عليه وسلم في أدائها ، قال في آخر سورة : وتارة كان يصلي باحدى الطائفتين ركعة فتذهب ولا تقضي شيئا . وتجيء الأخرى فيصلي بهم ركعة ولا تقضي شيئا . فيكون له صلى الله عليه وسلم ركعتان . ولهم ركعة ركعة . وهذه الأوجه كلها يجوز الصلاة بها .
قال الامام احمد : كل حديث يروى في باب صلاة الخوف فالعمل به جائز . انتهى . وقال ابن كثير : صلاة الخوف أنواع كثيرة . فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة . وتارة يكون في غير صوبها . ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة . بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها . ورجالا وركبانا . ولهم أن يمشوا والحالة هذه ، ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة . ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم ، وبه قال أحمد بن حنبل .
قال المنذري : وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد . واليه ذهب طاووس والضحاك . وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف . واليه ذهب ابن حزم أيضا . وقال اسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها ايماء . فإن لم تقدر فسجدة واحدة . لأنها ذكر الله . وقال آخرون : يكفي تكبيرة واحدة . فلعله أراد ركعة واحدة . كما قاله الامام أحمد بن حنبل وأصحابه . وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدي . ورواه ابن جرير . ولكن الذين حكوه انما حكوه على ظاهره في الاجتراء بتكبيرة واحدة . كما هو مذهب اسحاق بن راهويه . واليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي حتى قال : فإن لم يقدر على التكبيرة فلا يتركها في نفسه . يعني بالنية . رواه سعيد بن منصور في ( سننه ) عن اسماعيل بن عياش عن شعيب بن دينار عنه . فالله أعلم . ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة . كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب الظهر والعصر ، فصلاهما بعد الغروب . ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء . وكما قال بعدها ، يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش : " لا يصلين احد منكم العصر الا في بني قريظة . فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق . فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم الا تعجيل المسير . ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها . فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق . وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب . ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الفريقين " .
فاحتج في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة ، اليهود . وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فانها لم تكن نزلت بعد . فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك . وهذا أبين في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعي رحمه الله وأهل ( السنن ) . ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاري في ( صحيحه ) {[2221]} حيث قال ( باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو ) وقال الأوزاعي : ان كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا ايماء . كل امرئ لنفسه . فإن لم يقدروا / على الايماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين . فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين . فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا . وبه قال مكحول . وقال أنس بن مالك : " حضرت عند مناهضة حصن تستر عند اضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة . فلم نصل الا بعد ارتفاع النهار . فصليناها ونحن مع أبي موسى ، ففتح لنا . وقال أنس : وما يسرني ، بتلك الصلاة ، الدنيا وما فيها " . انتهى . ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ثم بحديث{[2222]} أمره إياهم أن لا يصلوا العصر الا في بني قريظة وكأنه كالمختار لذلك . والله أعلم . ولمن جنح له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالبا . وكان ذلك في امارة عمر بن الخطاب . ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة . والله أعلم . قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي . وممن نص على ذلك محمد بن اسحاق وموسى بن عقبة والواقدي ومحمد بن سعد ، كاتبه وخليفة بن الخياط وغيرهم . وقال البخاري{[2223]} وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق ، لحديث أبي موسى . وما قدم الا في خيبر . والله أعلم .
/ الحكم الخامس : استدل بقوله تعالى : ( طائفة ) على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد . لكن لا بد أن تكون التي تحرص الثقة بها في ذلك .
قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد . فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف . جاز لأحدهم أن يصلي بواحد . ويحرس واحد . ثم يصلي الآخر . وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة .
السادس : استدل بالآية على عظم أمر الجماعة بل على ترجيح القول بموجبها . لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها . ولو صلى كل امرئ منفردا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك . أفاده الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) .
قال ابن كثير : وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة . حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة . فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك .
السابع : قال بعض المفسرين : اختلف بأخذ السلاح في قوله تعالى : ( وليأخذوا أسلحتهم ) فقيل : هم الطائفة الذين يواجهون العدو . وهذا ظاهر : وقيل : بل هم الطائفة المصلون . وأراد ما لا يشغل عن الصلاة من الدرع والخنجر والسيف ونحو ذلك . وقيل : للطائفتين . وهو قول القاسم . انتهى .
قال الناصر في ( الانتصاف ) : والظاهر أن المخاطب بأخذ الأسلحة المصلون . اذ من لم يصل انما أعد للحرس . فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه . وهم انما أخروا الصلاة لذلك . أما المصلون فهم في مظنة طرح الأسلحة لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة . فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وان كانوا في الصلاة . لضرورة الخوف وخشية الغرة . وأيضا فصنيع الآية يعطي ذلك . لأنه قال : ( فلتقم طائفة منهم معك ) وعقب ذلك بقوله : ( وليأخذوا أسلحتهم ) فالظاهر رجوع الضمير إليهم . وحيث يعاد إلى غير المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم ، بدلالة قوة الكلام عليهم ، وان لم يذكروا . وناقش الناصر أيضا ، الزمخشري في جعله المراد بقوله تعالى : ( فاذا سجدوا فليكونوا ) غير المصلين . فقال : الظاهر ان معنى السجود ههنا الصلاة ، وقد عبر عنها بالسجود كثيرا . والمراد : فاذا صلت الطائفة ، ( أي أتمت صلاتها ) فليكونوا من ورائكم . انتهى .
الثامن : قال أبو علي الجرجاني صاحب ( النظم ) : قوله تعالى : ( وخذوا حذركم ) يدل على أنه كان يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم ان يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا ، غير غافل عن كيد العدو . والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر . لان العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة . فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة . ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم . فلا جرم ، أمروا بأن يصيروا طائفتين : طائفة في وجه العدو ، وطائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة . واما حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان وببطن نخل ، فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين . وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة . والمسلمون كانوا مستقبلين لها . فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة . فلم يحتاجوا إلى الاحتراس الا عند السجود . فلا جرم ، لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم . فلما فرغوا من السجود وقاموا ، تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا . وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني . فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى : ( خذوا حذركم ) . يدل على جواز كل هذه الوجوه . والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه ، أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكرارا محضا من غير فائدة . ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن . وانه غير جائز . نقله الرازي .
وقال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة . يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة . فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى . انتهى . وأنواعها مبينة في شروح السنة .