تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

وقوله : { فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : خالقهما وما بينهما ، { جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي : من جنسكم وشكلكم ، منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا وأنثى ، { وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا } أي : وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج .

وقوله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : يخلقكم فيه ، أي : في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم {[25794]} فيه ذكورا وإناثا ، خلقا من بعد خلق ، وجيلا بعد جيل ، ونسلا بعد نسل ، من الناس والأنعام .

وقال البغوي رحمه الله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقيل : في هذا الوجه من الخلقة .

قال مجاهد : ونسلا بعد نسل من الناس والأنعام .

وقيل : " في " بمعنى " الباء " ، أي : يذرؤكم به .

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي : ليس كخالق الأزواج كلها شيء ؛ لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }


[25794]:- (1) في أ: "نوعكم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

القول في تأويل قوله تعالى :

فَاطِرُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ

يقول تعالى ذكره : فَاطِرُ السّمَواتِ وَالأَرْضِ ، خالق السموات السبع والأرض . كما :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : فاطِرُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : خالق .

وقوله : جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجاً يقول تعالى ذكره : زوّجكم ربكم من أنفسكم أزواجاً . وإنما قال جلّ ثناؤه : مِنْ أنْفُسِكُمْ لأنه خلق حوّاء من ضلع آدم ، فهو من الرجال . وَمِنَ الأنْعامِ أزْوَاجاً يقول جلّ ثناؤه : وجعل لكم من الأنعام أزواجاً من الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ذكوراً وإناثاً ، ومن كل جنس من ذلك يَذْرَؤُكُم فِيهِ : يقول : يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم ، ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام .

وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معنى ذلك : يخلقكم فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : نسل بعد نسل من الناس والأنعام .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : يَذْرَؤُكُمْ قال : يخلقكم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : نسلاً بعد نسل من الناس والأنعام .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، أنه قال في هذه الاَية : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : يخلقكم .

وقال آخرون : بل معناه : يعيشكم فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعام أزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يقول : يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : يعيشكم فيه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : عيش من الله يعيشكم فيه .

وهذان القولان وإن اختلفا في اللفظ من قائليهما فقد يحتمل توجيههما إلى معنى واحد ، وهو أن يكون القائل في معناه يعيشكم فيه ، أراد بقوله ذلك : يحييكم بعيشكم به كما يحيى من لم يخلق بتكوينه إياه ، ونفخه الروح فيه حتى يعيش حياً . وقد بيّنت معنى ذرء الله الخلق فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته .

وقوله : لَيْس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيه وجهان : أحدهما أن يكون معناه : ليس هو كشيء ، وأدخل المثل في الكلام توكيداً للكلام إذا اختلف اللفظ به وبالكاف ، وهما بمعنى واحد ، كما قيل :

*** ما إنْ نَدِيتُ بشَيْءٍ أنْتَ تَكْرَهُهُ ***

فأدخل على «ما » وهي حرف جحد «إن » وهي أيضاً حرف جحد ، لاختلاف اللفظ بهما ، وإن اتفق معناهما توكيداً للكلام ، وكما قال أوس بن حَجَر :

وَقَتْلَى كمِثْلِ جُذوعِ نّخيلْ *** تَغَشّاهُمْ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ

ومعنى ذلك : كجذوع النخيل ، وكما قال الاَخر :

سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إذَا أبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ *** ما إنْ كمِثْلِهِمِ فِي النّاسِ مِنَ أحَدِ

والاَخر : أن يكون معناه : ليس مثل شيء ، وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام ، كقول الراجز :

*** وَصَالِياتِ كَكَما يُؤْثَفَيْنِ ***

فأدخل على الكاف كافاً توكيداً للتشبيه ، وكما قال الاَخر :

تَنْفِي الغَيادِيقُ عَلى الطّرِيقِ *** قَلّصَ عَنْ كَبَيْضَةٍ فِي نِيقِ

فأدخل الكاف مع «عن » ، وقد بيّنا هذا في موضع غير هذا المكان بشرح هو أبلغ من هذا الشرح ، فلذلك تجوّزنا في البيان عنه في هذا الموضع . وقوله : وَهُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول جلّ ثناؤه واصفاً نفسه بما هو به ، وهو يعني نفسه : السميع لما تنطق به من خلقه قول ، البصير لأعمالهم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولا يعزب عنه علم شيء منه ، وهو محيط بجميعه ، محصٍ صغيره وكبيره لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ من خير أو شرّ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

{ فاطر السموات والأرض } خبر آخر ل{ ذلكم } أو مبتدأ خبره . { جعل لكم } وقرئ بالجر على البدل من الضمير أو الوصف لإلى الله . { من أنفسكم } من جنسكم . { أزواجا } نساء . { ومن الأنعام أزواجا } أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا ، أو خلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا وأناثا ، { يذرؤكم } يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذر والذرو والضمير على الأول للناس ، و{ الأنعام } على تغليب المخاطبين العقلاء . { فيه } في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد ، فإنه كالمنبع للبث والتكثير . { ليس كمثله شيء } أي ليس مثله شيء يزاوجه ويناسبه ، والمراد من مثله ذاته كما في قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى ، ونظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب ألا وفيهم الطيب الطاهر لذاته . ومن قال الكاف فيه زائدة لعله عني أنه يعطى معنى { ليس مثله } غير أنه آكد لما ذكرناه . وقيل " مثله " صفته أي ليس كصفته صفة . { وهو السميع البصير } لكل ما يسمع و يبصر .