{ إذا جاءك المنافقون } نزلت هذه السورة في عبد الله بن أبي بن سلول وأتباعه ، وكان رأسا في النفاق والكفر ، والأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والكيد للمسلمين والضغينة لهم ، والتكبر على الله والناس ، والكذب ، وإشاعة الفاحشة في المؤمنين ، وقد استمر على ذلك حتى هلك .
{ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } أي في قولهم " نشهد إنك لرسول الله " لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا . وحقيقة الإيمان : أن يواطئ القلب اللسان ؛ فمن أخبر عن شيء وهو يضمر خلافه فهو كاذب .
قوله تعالى : " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله " روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : كنت مع عمي فسمعت عبدالله بن أبي ابن سلول يقول : " لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا " . وقال : " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " فذكرت ذلك لعمي فذكر عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبدالله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا ، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني . فأصابني هم لم يصبني مثله ، فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل : " إذا جاءك المنافقون - إلى قوله - هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله - إلى قوله - ليخرجن الأعز منها الأذل " فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ( إن الله قد صدقك ) خرجه الترمذي قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي الترمذي عن زيد بن أرقم قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبدر الماء ، وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حول حجارة ، ويجعل النطع{[15021]} عليه حتى تجيء أصحابه . قال . : فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه ، فانتزع حجرا{[15022]} فغاض الماء ، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه ، فأتى عبدالله بن أبي رأس المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه - فغضب عبدالله بن أبي ثم قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله - يعني الأعراب - وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام ، فقال عبدالله : إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا بالطعام ، فليأكل هو ومن عنده . ثم قال لأصحابه : لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال زيد : وأنا رِدْف عمي{[15023]} فسمعت عبدالله بن أبي فأخبرت عمي ، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد . قال : فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني . قال : فجاء عمي إلي فقال : ما أردت إلى أنْ مَقَتَك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك والمنافقون{[15024]} . قال : فوقع علي من جرأتهم ما لم يقع{[15025]} على أحد . قال : فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قد خففت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا . ثم إن أبا بكر لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي ، فقال أبشر ! ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر . فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وسئل حذيفة بن اليمان عن المنافق ، فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به . وهو اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ) . وعن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ) . أخبر عليه السلام أن من جمع هذه الخصال كان منافقا ، وخبره صدق . وروي عن الحسن أنه ذكر له هذا الحديث فقال : إن بني يعقوب حدثوا فكذبوا ووعدوا فأخلفوا وأتمنوا فخانوا . إنما هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين ، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال ؛ شفقا أن تقضي بهم إلى النفاق . وليس المعنى : أن من بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق . وقد مضى في سورة " التوبة " القول في هذا مستوفى والحمد لله{[15026]} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن إذا حدث صدق وإذا وعد أنجز وإذا ائتمن وفى ) . والمعنى : المؤمن الكامل إذا حدث صدق . والله اعلم .
قوله تعالى : " قالوا نشهد إنك لرسول الله " قيل : معنى " نشهد " نحلف . فعبر عن الحلف بالشهادة ؛ لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب{[15027]} ، ومنه قول قيس بن ذريح .
وأشهد عند الله أني أحبها *** فهذا لها عندي فما عندها لِيَا
ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على ظاهره أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترافا بالإيمان ونفيا للنفاق عن أنفسهم ، وهو الأشبه . " والله يعلم إنك لرسوله " كما قالوه بألسنتهم . " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " أي فيما أظهروا من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم . وقال الفراء : " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " بضمائرهم ، فالتكذيب راجع إلى الضمائر . وهذا يدل على أن الإيمان تصديق القلب ، وعلى أن الكلام الحقيقي كلام القلب . ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب . وقد مضى هذا المعنى في أول " البقرة " مستوفى{[15028]} وقيل : أكذبهم الله في أيمانهم وهو قوله تعالى : " يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم{[15029]} " [ التوبة : 56 ] .
سورة المنافقين{[1]}
مقصودها كمال التحذير مما{[2]} يثلم الإيمان من الأعمال الباطنة ، [ والترهيب-{[3]} ] مما يقدح في الإسلام من الأحوال الظاهرة ، بمخالفة {[4]}الفعل للقول{[5]} فإنه نفاق في الجملة فيوشك أن يجر إلى كمال النفاق فيخرج من الدين ويدخل الهاوية ، ليكون هذا التحذير سببا في صدق الأقوال ثم {[6]}صدق الأعمال ثم صدق الأخلاق{[7]} ثم صدق الأحوال ثم صدق الأنفاس ، فصدق القول [ أن-{[8]} ] لا يقول القائل إلا عن برهان ، وصدق العمل أن لا يكون للبدعة عليه سلطان ، وصدق الأخلاق{[9]} أن لا يلاحظ ما{[10]} يبدو منه من الإحسان بعد المبالغة فيه بعين النقصان ، وصدق الأحوال أن يكون على كشف وبيان ، وصدق الأنفاس أن لا يتنفس إلا عن وجود كالعيان ، وتسميتها بالمنافقين واضحة في ذلك ( بسم الله ) الذي له الإحاطة العظمى علما وقدرة فمن زاغ أرداه{[11]} ( الرحمن ) الذي ستر{[12]} بعموم رحمته من أراد من عباده {[13]}وفضح{[14]} من شاء وإن دقق مكره وأخفاه ( الرحيم ) الذي وفق{[15]} أهل وده بإتمام نعمته لما يحبه ويرضاه .
لما نهى سبحانه في الممتحنة عن اتخاذ عدوه ولياً ، وذم في الصف على المخالفة بين القول والفعل ، وحذر آخر الجمعة من الإعراض عن حال من أحوال{[65432]} النبي صلى الله عليه وسلم على حال من الأحوال ولو مع الوفاق ، لأن صورة ذلك كله صورة النفاق ، قبح في أول هذه حال من أقبل{[65433]} عليه على حال النفاق ، لأنه يكون كاليهود الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ، واستمرت السورة كلها في ذمهم بأقبح الذم ليكون زاجراً عن كل ما ظاهره نفاق ، فقال تعالى : { إذا جاءك } أي يا أيها الرسول المبشر به في التوراة والإنجيل { المنافقون{[65434]} } أي العريقون في وصف النفاق وهو إسلام الظاهر وكفر الباطن ، وأغلبهم من اليهود { قالوا } مؤكدين لأجل استشعارهم لتكذيب من يسمعهم{[65435]} لما عندهم من الارتياب : { نشهد } قال الحسن : هو بمنزلة يمين كأنهم قالوا : نقسم { إنك } - التأكيد لذلك وإيهاماً {[65436]}لأن قوة{[65437]} تأكيدهم لشدة رغبتهم في مضمون ما يقولونه { لرسول الله } أي الملك الذي له{[65438]} الإحاطة الكاملة ، فوافقوا الحق بظاهر{[65439]} أحوالهم ، وخالفوا بقلوبهم وأفعالهم .
ولما كانت الشهادة الإخبار عن علم اليقين لأنها من الشهود وهو كمال الحضور وتمام الاطلاع ومواطأة القلوب للألسنة ، صدق سبحانه المشهود به وكذبهم في الإقسام بالشهادة ومواطأة ألسنتهم لقلوبهم فقال{[65440]} : { والله يعلم } أي وعلمه هو العلم في الحقيقة ، وأكده سبحانه بحسب إنكار المنافقين فقال : { إنك لرسوله{[65441]} } سواء شهد المنافقون بذلك أم لم يشهدوا ، فالشهادة بذلك حق ممن يطابق لسانه{[65442]} قلبه ، وتوسط هذا بين شهادتهم وتكذيبهم لئلا يتوهم أن ما تضمنته شهادتهم من الرسالة كذب .
ولما كان ربما ظن أن هذا تأكيد لكلام المنافقين ، دل على أنه تحقيق لمضمون كلامهم دون شهادتهم فقال : { والله } أي المحيط بجميع صفات الكمال { يشهد } شهادة هي الشهادة لأنها محيطة{[65443]} بدقائق الظاهر والباطن { أن المنافقين } أي الراسخين في وصف النفاق { لكاذبون * } أي في إخبارهم عن أنفسهم أنهم يشهدون لأن{[65444]} قلوبهم لا تطابق ألسنتهم فهم لا يعتقدون ذلك ، ومن شرط قول الحق أن يتصل ظاهره بباطنه{[65445]} وسره بعلانيته ، ومتى تخالف ذلك فهو كذب ، لا{[65446]} المراد أنهم كاذبون في صحة ما تضمنته شهادتهم من أنك رسول الله والحاصل أن الشهادة تتضمن شيئين : صدق مضمون الخبر والإذعان له ، فصدقهم في الأول وكذبهم في الثاني فصاروا بنفاقهم أسفل حالاً وشر مآلاً من اليهود .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أعقب حال المؤمنين فيما خصهم الله به مما انطوت عليه الآيات الثلاث إلى صدر سورة الجمعة إلى قوله :
{ والله ذو الفضل العظيم }[ الجمعة : 4 ] بذكر حال من لم{[65447]} ينتفع بما حمل حسبما تقدم ، وكان في ذلك من المواعظ والتنبيه ما ينتفع به من سبقت له السعادة ، أتبع بما هو أوقع في الغرض وأبلغ في المقصود ، وهو ذكر طائفة بين أظهر من قدم الثناء عليهم ومن أقرانهم{[65448]} وأترابهم وأقاربهم ، تلبست في الظاهر بالإيمان ، وأظهرت الانقياد والإذعان ، وتعرضت فأعرضت وتنصلت فيما وصلت ، بل عاقتها الأقدار ، فعميت البصائر والأبصار ، ومن المطرد المعلوم أن اتعاظ الإنسان بأقرب{[65449]} الناس إليه وبأهل زمانه أغلب من{[65450]} اتعاظه بمن بعد عنه زماناً ونسباً ، فأتبعت سورة الجمعة بسورة المنافقين وعظاً للمؤمنين بحال أهل النفاق{[65451]} ، وبسط من قصصهم ما يلائم ما ذكرناه ، وكان قيل{[65452]} لهم : ليس من أظهر الانقياد والاستجابة ، ثم بني إسرائيل ثم كان فيما حمل كمثل الحمار يحمل أسفاراً بأعجب من حال إخوانكم زماناً وقرابة ، وأنتم أعرف الناس بهم وأنهم قد{[65453]} كانوا في الجاهلية موصوفين بجودة الرأي وحسن النظر
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم }[ المنافقين : 4 ]
{ ولكن المنافقين لا يفقهون }[ المنافقين : 7 ] قلت : وقد مر{[65454]} في الخطبة ما رويناه في مصنف ابن أبي شيبة من قول أناس من المؤمنين : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين{[65455]} فيبشر بها المؤمنين ويحرضهم ، وأما سورة المنافقين فيوئس بها المنافقين ويوبخهم ، وهذا نحو ما ذكرناه أولاً - انتهى .