تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة المنافقون

( سورة المنافقون مدنية ، وآياتها 11 آية ، نزلت بعد سورة الحج )

والنفاق هو إظهار الإسلام أمام المسلمين ، وإضمار غير الإسلام ، والنفق بفتحتين سرب في الأرض يكون له مخرج من موضع آخر ، ونافق اليربوع إذا أتى النافقاء ، أي دخل من مكان وخرج من مكان ، ومنه قيل : نافق الرجل ، إذا دخل في الإسلام أمام المسلمين ، ودخل في عداوة الإسلام أمام غير المسلمين .

والنفاق قسمان :

القسم الأول : نفاق العقيدة ، وهو إظهار الإيمان وإخفاء الكفر .

والقسم الثاني : نفاق العمل ، وهو الرياء والسمعة والتظاهر ، وإبراز الأمور على غير حقيقتها .

النفاق في المدينة

لم يظهر النفاق بمكة لأن المسلمين كانوا مستضعفين ، وكان أهل مكة يعلنون لهم العداء ويجابهونهم بالإيذاء ، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، والتف حوله الأنصار والمهاجرون ، وقويت شوكته بوحدة المسلمين وتماسكهم ، وظل الإسلام يتفوق يوما بعد يوم ، ويدخل فيه وجوه أهل المدينة من رجال الأوس والخزرج ، وأهل العصبية فيهم ، عندئذ رأى بعض المنافقين أن يدخلوا في الإسلام مجاملة لأهله ، وأن يبيتوا الكيد والخداع للمسلمين .

وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم من الناس ظواهرهم ، وترك بواطنهم إلى الله ، ولكنّ الأحداث كانت تُعرِّف المسلمين بهؤلاء المنافقين ، فإذا وقع المسلمون في شدة أو انهزموا في معركة تجرأ هؤلاء المنافقون على تجريحهم والتشهير بهم جهارا نهارا . وإذا أنعم الله على المؤمنين بالنصر اختبأ المنافقون في جحورهم ، وغيروا طريقتهم ، وانتقلوا من باب المواجهة إلى الكيد والدسّ في الخفاء .

وكان اليهود في المدينة يكوّنون جبهة قوية ، وقد ساندوا المنافقين وشجعوهم ، وكوّن الطرفان جبهة متحدة لمناوأة الإسلام والمسلمين .

وكان عبد الله بن أُبي بن سلول زعيم المنافقين بالمدينة ، وكان من وجهاء الأنصار ، وكان قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه ملكا عليهم ، فلما جاء الإسلام للمدينة ، وتعاظمت قوة المسلمين يوما بعد آخر ، وأصبح النبي الأمين صاحب الكلمة النافذة ، والأمر المطاع اشتد حقد عبد الله بن أُبي لضياع الملك من بين يديه ، وكوّن جبهة للنفاق تُشيع السوء والفتنة ، وتُدبر الكيد والأذى للمسلمين .

وشاء الله أن يمتحن المسلمين بوجود اليهود في المدينة ، وبوجود المنافقين فترة طويلة صاحبت نشوء الدعوة بالمدينة ، ولم يشأ الله أن يُعرف النبي صلى الله عليه وسلم بأسمائهم إلا في آخر حياته ، وقد أخفى النبي أسماءهم عن الناس ، وأعلم واحدا فقط من الصحابة بهم هو النعمان بن مقرن ليظل أمرهم مستورا .

وكان بعضهم ينكشف أمره من سلوكه وفعله وقوله وقسمات وجهه وتعبيراته .

قال تعالى : { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم } . ( محمد : 30 ) .

قصة نزول السورة

في كثير من كتب التفسيرi والسيرةii : أن هذه السورة نزلت في أعقاب غزوة بني المصطلق ، وقد انتصر فيها المسلمون ، وغنموا غنائم كثيرة ، وقد وقعت في شعبان من السنة الخامسة للهجرة ( ديسمبر 626م ) . وبعد المعركة ازدحم على الماء رجلان ، أحدهما أجير لعمر بن الخطاب وهو جهجاه بن سعيد ، والثاني حليف بني عون بن الخزرج وهو سنان الجهني ، وتضاربا فقال جهجاه : يا للمهاجرين ، وقال سنان : يا للأنصار ، فاجتمع عليها المتسرعون من المهاجرين والأنصار حتى كادوا يقتتلون ، وأوشكت أن تقوم الفتنة بين المهاجرين والأنصار ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصراخ خرج مسرعا يقول : " ما بال دعوى الجاهلية " ؟ فأخبروه الخبر ، فصاح غاضبا : " دعوا هذه الكلمة فإنها منتنة " iii . وأدرك الفريقين فهدّأ من ثورتهما ، وكلم المضروب حتى أسقط حقه ، وبذلك سكنت الفتنة وتصافى الفريقان .

ولكن عبد الله بن أُبي عزّ عليه أن تنطفئ هذه الشرارة قبل أن تحدث حريقا بين المسلمين ، وأن نموت هذه الفتنة قبل أن تذهب صفوف المسلمين من وحدة وائتلاف ، فأخذ يُهيج من معه من الأنصار ويثير ضغينتهم ضد المهاجرين ، وجعل يقول في أصحابه :

( والله ما رأيت كاليوم مذلة ، لقد نافرونا وكاثرونا في بلدنا ، وأنكروا منّتنا ، والله ما وعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك . . لئن رجعا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) . يقصد بالأعز نفسه ، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم أقبل ابن أُبي على من حضره من قومه يلومهم ويعنفهم فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وأنزلتموهم منازلكم ، وآسيتموهم في أموالكم حتى استغنوا . . أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم . . ثم لم ترضوا ما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا ، فقتلتم دونهم ، فأيتمتم أولادكم ، وقللتم وكثروا . . فلا تنفقوا على من حوله حتى ينفضوا .

وكان في القوم زيد بن أرقم – وهو يومئذ غلام لم يبلغ الحلم ، أو قد بلغ حديثا – فنقل كلام أُبي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتأثر من معه من المهاجرين والأنصار ، وشاع في الجيش ما قاله ابن أُبي حتى ما كان للناس حديث غيره ، وقال عمر للنبي : يا رسول الله ، مُرْ بلالا فليقتله ، وهنا ظهر النبي كدأبه بمظهر القائد المحنك والحكيم البعيد النظر ، إذ التفت إلى عمر وقال : " فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " ؟ ولكنه قدر في نفس الوقت أنه إذا لم يتخذ خطوة حازمة فقد يستفحل الأمر . لذلك أمر أن يؤذن في الناس بالرحيل ، في ساعة لم يكن يرتحل فيها المسلمون .

وترامى إلى ابن أُبي ما بلغ النبي عنه ، فأسرع إلى حضرته ينفي ما نُسب إليه ويحلف بالله ما قاله ولا تكلم به ، ولم يغير ذلك من قرار النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل .

قال ابن إسحاق : فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار ، لقيه أسيد بن حضيرiv ، فحيّاه بتحية النبوة وسلم عليه ، ثم قال : يا نبي الله ، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو ما بلغك ما قال صاحبكم " ؟ قال : وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال : " عبد الله بن أُبي " .

قال : وما قال ؟ قال : " زعم أنه إن رجع المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " . قال أسيد : فأنت يا رسول الله – والله – تخرجه منها إن شئت ، هو – الله – الذليل وأنت العزيز ، في عز من الرحمن ومنعة المسلمين . ثم قال أسيد : يا رسول الله ، ارفق به فو الله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه ، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا .

ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما . . وإنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليشغل الناس عن كلام عبد الله بن أُبي .

ونزلت سورة المنافقون في ابن أبي ومن كان على مثل أمره ، ولما نزلت السورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا غلام ، إن الله قد صدقك وكذب المنافقين " .

ولما ظهر كذب عبد الله بن أبي قيل له : قد نزلت فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك ، فلوى رأسه وقال : أمرتموني أن أؤمن فآمنت ، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت ، وما بقي إلا أن أسجد لمحمد ، فنزل فيه قوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لوّوا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون . ( المنافقون : 5 ) .

وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبي الذي كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت لابد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه ، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر ، فأدخل النار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا " .

مع السورة

وصفت الآيات الأربع الأولى من السورة رياء المنافقين ، وكشفت خداعهم ، إنهم يُظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ويسارعون بالشهادة لله وبالوحدانية ولمحمد بالرسالة ، وهم كاذبون في هذه الشهادة ، لأنها لا تطابق عقيدتهم ، ولا توافق ما يضمرونه في قلوبهم . ( آية : 1 ) .

وكانوا يحلفون بالله كذبا ، ويتحصنون بهذه الأيمان ، وبئست أفعال الرجال ، الكذب والأيمان الفاجرة . ( آية : 2 ) .

لقد تكرر نفاقهم ، وطبع الله على قلوبهم ، فلا ينفذ إليهم الهدى والإيمان . ( آية : 3 ) .

وكان فيهم أقوام صباح الوجوه ، أشداء البنية ، فصحاء الألسنة ، فإذا تكلموا أعجبوا السامع بكلامهم المعسول ، ولكن واقعهم لا يوافق ظاهرهم ، وإن عداوتهم ضاربة ، فاحذرهم ، واتق جانبهم في حياتك ، فإنهم سيلقون مصيرهم المحتوم بالهلاك والنكال . ( آية : 4 ) .

وتشير الآيات ( 4-8 ) إلى ما حدث من عبد الله بن أُبي بن سلول في أعقاب غزوة بني المصطلق ، وقد مرت قصتها .

ولما انكشف أمره ، دعاه الناس ليستغفر له الرسول الأمين ، فأعرض ولوى وجهه ، خوفا من مواجهة الرسول بالحقيقة . ( آية : 5 ) .

وكان ابن أُبي قد طلب من بعض الأنصار أن يُمسكوا نفقتهم ومساعدتهم عن المهاجرين ، حتى ينفضوا عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، فذكر القرآن أن خزائن الله عامرة ، وخيره لا ينفذ ، وهو الرزاق ذو القوة المتين . ( آية : 7 ) .

وكان ابن أبيّ يبيت كيدا مع أتباعه ويتوعد بأن يخرج النبي من المدينة ذليلا ، فبين الله أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، بالإيمان وبمساعدة الرحمن وبعون الله القوي المتين ، ولكن المنافقين لا يفقهون هذه المعاني الكريمة . ( آية : 8 ) .

أما المقطع الأخير في السورة ويشمل الآيات ( 9-11 ) فإنه يتوجه إلى المؤمنين بالنداء ألا تشغلهم أموالهم ولا أولادهم عن تذكر ربهم ، والقيام بحقه ومرضاته ، وتأمرهم بالصدقة والزكاة وعمل الخير ، فالله مصدر الرزق ، وله الحمد في الأولى والآخرة . فأنفق وأنت صحيح شحيح ، ولا تمهل إذا حتى إذا بلغت الروح الحلقوم تمنيت العودة للدنيا لإخراج الصدقة وعمل الصالحات ، ولكن الأجل إذا جاء لا يتأخر لحظة ، بل يساق الإنسان إلى الخبير العليم فيلقى جزاء ما قدم .

وهكذا تختم السورة بهذه الدعوة إلى الإخلاص لله ، وامتثال أوامره ، فهو مطّلع وشاهد ، وهو الحكيم العادل .

المعنى الإجمالي للسورة

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود السورة : تقريع المنافقين وتبكيتهم ، وبيان ذلهم وكذبهم ، وذكر تشريف المؤمنين وتبجيلهم ، وبيان عزهم وشرفهم ، والنهي عن نسيان ذكر الحق تعالى ، والغفلة عنه ، والإخبار عن ندامة الكفار بعد الموت ، وبيان أنه لا تأخير ولا إمهال بعد حلول الأجل ، في قوله تعالى : { ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون } . ( المنافقون : 11 ) .

******

صفات المنافقين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( 1 ) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 2 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ( 3 ) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 4 ) }

1

المفردات :

المنافقون : الذين كانوا يُظهرون الإيمان ويُخفون الكفر .

التفسير :

1- { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } .

كان المنافقون يحلفون كذبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويشهدون مؤكدين شهادتهم ، بأن محمدا رسول الله .

والله تعالى يعلم أن محمدا رسول الله حقا وصدقا ، والله تعالى يشهد إن المنافقين لكاذبون في دعواهم الإيمان ، وإنما هم منافقون ، يُظهرون هذه الشهادة نفاقا ورياء ، ويبطنون الكفر والكيد للإسلام ولرسوله .

جاء في التسهيل :

وقوله : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ . . } ليس من كلام المنافقين ، وإنما هو من كلام الله تعالى ، ولو لم يذكره لكان يوهم أن قوله : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . إبطال للرسالة ، فوسّطه بين حكاية المنافقين وبين تكذيبهم ، ليزيل هذا الوهم وليحقق الرسالة .