تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

الآية 2 : وقوله تعالى : ]الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة[ لو كان الخطاب يجب اعتقاده على ظاهر المخرج والعموم على ما قاله بعض الناس لكان الكل{[13619]} أحد أن يقيم على آخر حدا بظاهر قوله : ]الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة[ فيقول : الله أمرني ذلك بقوله : ]فاجلدوا[ أو أن يضربوا جميعا واحدا من الزناة بظاهر قوله ]فاجلدوا[ فيزداد الضرب والحد على ما حد الله أضعافا مضاعفة .

فدل أن اعتقاد العموم فاسد بظاهر المخرج ، أو أن يقول قائل : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " العينان تزنيان واليدان تزنيان ، والرجلان تزنيان والفرج يصدق ذلك كله ويكذب " ( مسلم 265/21 ) سمى الناظر إلى ما لا يحل نظره إليه زانيا والماس له{[13620]} كذلك ، فيلزمه الحد بظاهر قوله ]الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة( .

فإذا لم يفهم من ظاهر قوله : ] الزانية والزاني[ ما ذكرنا كله دل أن الاعتقاد على عموم المخرج فاسد ، وأن المراد بقوله : ]الزانية والزاني فجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة[ راجع إلى الخصوص إلى مقيم دون مقيم ، وإلى زان دون زان ، وهو الزاني الذي يجمع في فعل الزنى جميع بدنه : العين واليد والرجل والفرج وجميع بدنه . ورجع الخطاب به إلى البكرين الحرين والثيبين الحرين اللذين لم يستجمعا جميعا أسباب{[13621]} الإحصان . فأما من استجمع جميع أسباب الإحصان فإن حده الرجم على اتفاق القول منهم جميعا .

إلا أن طائفة من أهل العلم أوجبوا عليه مع الرجم الجلد ، وفي البكر مع الجلد تغريب عام ، والدليل على أن المراد راجع إلى الحرين البكرين أو الثيبين اللذين لم يستجمعا أسباب الإحصان ما ذكرنا من القول المتفق عليه{[13622]} .

وقوله تعالى : ]فإذا أحصن فإن أتين/360-ب/ بفاحشة فعليهن ما على المحصنات من العذاب[ ( النساء : 25 ) دل إيجاب نصف ما على المحصنات على الإماء على أنه أراد بالمحصنات الحرائر اللاتي لم يستجمعن جميع أسباب الإحصان ، وأن الخطاب بقوله : ]الزانية والزاني( إلى آخر ما ذكر راجع إلى الحرين اللذين ذكرناهما . ثم لم يضرب في الزنى الذي به زنى ، وهو الفرج ، وقطع في السرقة ، ( التي بها سرق ، وهي ){[13623]} اليد ، فهو ، والله أعلم ، لما جعل الحدود زواجر عن المعاودة ، لم تجعل دافعة مذهبة إمكان ذلك الفعل من الأصل . وفي ضرب الفرج ذهاب إمكان الفعل من الأصل ، ولا كذلك في قطع اليد في السرقة ، إذ تبقى أخرى ، بها يأخذ ، وبها يقبض . لذلك افترقا ؛ إذ أن يقال : في ضرب الفرج خوف ( هلاك المرء ){[13624]} في الأغلب ، وليس ذلك في قطع اليد ، بل يبقى حيا في الغالب . وقد ذكرنا أن الحدود لم تجعل مهلكة متلفة ، ولكن جعلت زواجر عن المعاودة لذلك افترقا .

وفي قوله : ]الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة[ دلالة على أن النفي ليس من عذاب الزانيين ولا من عقوبتهما لأنه قال : ]وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين[ والنفي مما لا يحتمل أن يؤمر بشهوده لأنه لا يمكن . فدل أنه ليس من عذابهما .

ويدل أيضا قوله : ]فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب[ ( على ذلك ){[13625]} لأنهم أجمعوا على أن نفي على الإماء إذا زنين ، وقد أوجب عليهن إذا زنين نصف ما على المحصنات أو إن ثبت النفي فهو يحتمل ( أحدهما : أحدها ){[13626]} : أنه أراد به قطع الشين الذي لحقهما بفعل الزنى لأنه ليس جرم من الأجرام أكثر شيئا وأشد من فعل الزنى ، فأراد أن ينقطع ذلك من بين الناس .

( والثاني ){[13627]} : أن يكون أراد به قطع الشهوة التي حملتهما على الزنى بذل السفر وذلة الغربة .

( والثالث : أنه ){[13628]} صار منسوخا لما شدد في الضرب بقوله : ]ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله( .

وفي ما ذكر النفي لم يذكر فيه الشدة ، إنما ذكر فيه الجلد فحسب بقوله عليه السلام : " أما على ابنك هذا فجلد مئة وتغريب عام " ( البخاري : 2695 و 2696 ) فجائز أن يكون الضرب كان بالتخفيف . وفيه نفي . فلما شدد في الضرب ارتفع النفي .

وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه نفى رجلا ، فارتد عن الإسلام ، ولحق بالروم ، فقال : كفى بالنفي فتنة ، وقال : لا أنفي بعد هذا أبدا .

وكذلك روي عن علي رضي الله عنه والله أعلم .

وقوله تعالى : ]ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله[ قال بعضهم : ]ولا تأخذكم بهما رأفة[ في تخفيفها . فهو ، والله أعلم ، لأنه من أعظم الأجرام في الشين .

ثم للمعتزلة تعلق بظاهر قوله : ]ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله[ قالوا : إن الله وصف نفسه بالرحمة بقوله : ]والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم[ ( الفتح : 29 ) ثم نهاهم أن تأخذهم رأفة على الزانيين وقت إقامة الحد عليها . دل أن الزاني قد خرج بفعله عن الإيمان لما ذكرنا من رفع الرأفة والرحمة عنهما .

لكن عندنا في الآية دلالة أنه ليس على ما ذهبوا إليه ، لأن الزاني لو كان يخرج عن الإيمان بفعل الزنى لكان لا يحتاج إلى أن يقول : ]ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله[ لأنهم كانوا على ما وصفهم الله بالشدة على غير المؤمنين بقوله : ]أشداء على الكفار( .

دل أن الزنى لم يخرجه عن الإيمان ، فنهى ألا تأخذنا بهما رأفة الإيمان والدين في تعطيل الحد وتخفيفه ، ويكون النهي عن أخذ الرأفة ليتحملا{[13629]} ذلك الحد ، وإلا لم ينتفع به في الآخرة ، وهو ألا يعذب به .

ألا ترى أنه قال : ]إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر[ وفائدته ما ذكرنا ]ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله[ إضاعة الحد لما يتأمل منن النفع في الآخرة نحو من يشرب الأدوية الكريهة ، ويقتصد ، ويحتجم ، لما يطمع البرء به والنفع .

فعلى ذلك جائز أن يكون النهي عن أخذ الرأفة في حد الزنى ليقام ذلك عليه ، فينجو في الآخرة من عذابه ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ]وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين[ قال بعضهم : الطائفة واحد أو اثنان فصاعدا . وكذلك قالوا في قوله : ]وإن طائفة من المؤمنين اقتتلوا[ ( الحجرات : 9 ) هما رجلان اقتتلا ، دل على ذلك قوله : ]فأصلحوا بين أخويكم[ وهما اثنان في الظاهر لكن أن ينضم إلى كل واحد منهما جماعة من عشيرته ، فتكون الطائفة جماعة لا واحدا .

وقال بعضهم : الطائفة جماعة من العشرة{[13630]} فصاعدا .

ثم يجب أن ينظر لأثر معنى أمر أن يشهد عذابهما طائفة من بين سائر الأجرام . فهو والله أعلم ، يحتمل وجوها .

أحدها : للمحنة : أراد أن يمتحن من حضر ذلك ؛ إذ{[13631]} المرء قد يتألم على ضرب آخر ، وما يحل بغيره ليزجر عن مثله .

. الثاني : لانتشار الخبر في الناس ليزجروا عن مثله .

والثالث : لئلا يتعدى الضارب والمقيم ذلك الحد ، ويجاوزه على الحد الذي جعل له ؛ فإن هو يتعد منعه من حضره عن المجاوزة و التعدي .

والرابع : لدفع التهمة عن الحاكم : لئلا يتهمه الناس أنه أقام عليه الحد بلا سبب ، كان منه ، ولا جرم .

فإن كان الأمر بشهود الطائفة عذابهما هذه الوجوه الأربعة{[13632]} التي ذكرنا من انتشار الخبر ودفع التهمة عنه ومنع المجاوزة ( والمحنة فهو ){[13633]} يحتاج أن تكون جماعة لأن{[13634]} الواحد غير كاف لذلك .

فإن كان الأول ، وهو المحنة ، فالواحد وما فوقه يكون : يمتحن كلا في نفسه بحضور ذلك الحد ليتألم به . وقد ذكرنا أن بعض أهل العلم قالوا : إنه يجمع مع الرجم الجلد ، واحتجوا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الثيب بالثيب جلد مئة ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام " ( مسلم : 1690 ) فأما الجلد فلا خلاف في أنه حد البكر . وأما النفي ( فقد اختلفوا فيه ){[13635]} : فمنهم من رآه واجبا ومنهم من رآه عقوبة ، ( لم يضمه ){[13636]} على الحد .

ونحن قد ذكرنا المعنى في ذلك إن ثبت ما يغنينا عن تكراره . ونزيد أيضا نكتة ، وهي أن الحدود{[13637]} ذات نهايات مقدار{[13638]} وغايات ، ولذلك سميت حدودا لأن لها نهاية وغاية ، كما يقال حد الدار{[13639]} منتهاها وآخرها .

فلما لم يكن للنفي مكان معلوم ، ينفى الزاني إليه ، دل أنه ليس بحد ، ولكن أراد به الوجوه التي ذكرنا : إما حبسا كما يُحبس الداعر حتى يحدث توبة ( وإما ){[13640]} قطع الشين والذكر الذي يتحدث الناس به لينسى ذلك ، ويترك ( وإما ){[13641]} قطع الشهوات التي حملتهما{[13642]} على ذلك بذلة السفر والغربة ، وإن كان ثم صار منسوخا بما شدد فيه الضرب والله أعلم .

وأما قول أصحابنا ، رحمهم الله ، في إزالة الجلد عن الثيب غذ كان محصنا لقول النبي صلى الله عليه وسلم {[13643]} " اغذ يا أُنَيْسُ على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " ( البخاري : 2695 و 2696 ) ولم يذكر جلدا .

وذهبوا أيضا إلى أن حديث ماعز بن مالك لما رجمه النبي صلى الله عليه وسلم باعترافه ، ولم يُذكَر أنه جلد .

وروي أن أبا بكر رضي الله عنه قال له لما{[13644]} اعترف ثلاثا . لو اعترفت في المرة الرابعة لرجمتك{[13645]} ، ولم يقل : لجلدتك . عُلم أنه لا يجمع مع الرجم الجلد .

ورُوي عن عمر رضي الله عنه أنه أمر برجم امرأة زنت ، ولم يجلدها . ورُوي عن ابن عمر عن عمر مثله . إلى هذه الأخبار ذهب أصحابنا ، رحمهم الله علم .

ويقولون : لا يجتمع على رجل في فعل واحد حدان الجلد والرجم جميعا كما يجتمع في غيره من الأجرام في فعل واحد حدان أو عقوبتان/361-أ/ .

وقوله صلى الله عليه وسلم " الثيب بالثيب يجلد ، ويرجم " ( مسلم : 1690 ) يحتمل الجلد ثيبا غير محصن والرجم{[13646]} ثيبا آخر محصنا أو الجلد{[13647]} ثيبا في حال والرجم{[13648]} ثيبا في حال . وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة النساء . {[13649]}


[13619]:من م، ساقطة من الأصل.
[13620]:في الأصل وم: لها.
[13621]:في الأصل وم: أحكام.
[13622]:ساقطة من الأصل وم.
[13623]:في الأصل وم: الذي به سرق وهو.
[13624]:في الأصل وم: هلاك.
[13625]:ساقطة من الأصل وم.
[13626]:في الأصل وم: وجهين أحدهما.
[13627]:في الأصل وم : أو
[13628]:في الأصل وم: أو.
[13629]:في الأصل وم:وجهين أحدهما.
[13630]:في الأصل وم: العشيرة.
[13631]:في الأصل وم: أو.
[13632]:في الأصل وم: الثلاثة.
[13633]:في الأصل وم: فالطائفة.
[13634]:في الأصل وم: كان.
[13635]:في الأصل وم: فما اختلفوا.
[13636]:في الأصل وم: لهم يضم.
[13637]:في الأصل وم:ذو.
[13638]:في الأصل وم: المقدار.
[13639]:ي الأصل وم: الدارين أنه.
[13640]:في الأصل وم: أو.
[13641]:في الأصل وم: أو.
[13642]:في الأصل وم: حملتهم.
[13643]:أدرج بعدها في الأصل: قال حيث، وفي م: حيث قال.
[13644]:من م، ساقطة من الأصل.
[13645]:في الأصل وم: لرجمك.
[13646]:في الأصل وم: ويرجم.
[13647]:في الأصل وم: يرجم.
[13648]:في الأصل: يرجم.
[13649]:في تفسير الآية /25/.