تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا} (85)

الآية 85

وقوله تعالى : { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها } لم يذكر ما تلك الشفاعة التي يشفع . فتحتمل الشفاعة الحسنة الدعاء{[6094]} له بالمغفرة والرحمة ، وهو لذلك مستوجب ، فيكون له( من ذلك ){[6095]} نصيب ، والشفاعة السيئة هو الدعاء عليه{[6096]} باللعن والمقت ، وهو لذلك غير مستوجب ، فيكون له منها نصيب . وقيل : ( هو كقوله{[6097]} عليه السلام ) : " الدال على الخير كفاعله " ( مسلم1893 ) و " من دل آخر على الخير فله في ذلك نصيب " ( بنحوع الترمذي 2674 ) وكذلك من دل آخر على الشر .

وتحتمل الشفاعة الحسنة في مظلمة ( أن يسعى المرء ) {[6098]} في دفع مظلمة عن أخيه المسلم ، وهو شفاعة حسنة ، فله في ذلك نصيب . وتحتمل الشفاعة السيئة ( أن يسعى المرء ){[6099]} في فساد أمر يلحقه من ذلك نقمة ومظلمة ، فله في ذلك إثم . وقيل : الشفاعة الحسنة هي التي تنتفع بها( وتعمل بها ){[6100]} هي بينك وبينه ، وأنتما{[6101]} فيها شريكان ، ( والشفاعة السيئة ){[6102]} هي التي تصيركما {[6103]} فيها شريكين{[6104]} . ويحتمل أن يكون الشفاعة الحسنة كل معروف وكل آمر به ، والشفاعة السيئة كل منكر وآمر به ، فهما{[6105]} شريكان في ذلك : الآمر والفاعل جميعا .

وتحتمل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ){[6106]} قال : " كل معروف صدقة " ( مسلم1005 ) و " الدال على الخير كفاعله " ( مسلم 1793 ) و " الله يجب إغاثة اللهفان " ( البزار في كشف الخفاء 1951 ) وعن الحسن رضي الله عنه ( أنه ){[6107]} قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا صدقة أفضل من صدقة اللسان ، قيل : وما صدقة اللسان يا رسول الله ؟ قال : الشفاعة تجريها إلى أخيك ، وقد وقع عليه ثقل الكريهة ، وتخفي بها الذم " ) ( بنحوه السيوطي في الدر المنثور : 2/602 ) .

والكفل والنصيب واحد . وقيل : الكفل الجزاء / وقيل : إثم ، ولكن ليس إثمة خاصة . ألا ترى أنه قال عز وجل : { يؤتكم كفلين من رحمته } ؟ ( الحديد : 28 ) . والشفاعة من أعظم ما احتيج إليها ؛ إذ قد جاء القرآن بها والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والشفاعة في المعهود من الأمر يكون عنه زلات تستوجب بها المقت والعقوبة ، فيعفى عن مرتكبها بشفاعة الأخبار وأهل الرضا بهم . ثم كانت الصغائر منا ، لا يجوز التعذيب عليها عند القائلين بالخلود بالكبائر ، والكبائر مما تعفى بالشفاعة . فإذن بطل عظم ما جاء من القرآن والآثار في الاعتنان ، وسقط ما جبل عليه أهل العلم بالله وبرحمته ، ويبطل رجاء المسلمين بشفاعة الرسل- صلوات الله عليهم- ولا قوة إلا بالله .

وقال بعضهم : الشفاعة تخرج على وجهين :

( أحدهما ){[6108]} : على ذكر محاسن أحد عند آخر ليقدر عنده المنزلة والرتبة .

والثاني : أن يدعو له . فالأول هو الذي يحتمل توجيه الشفاعة إليه . والثاني : قد بين بقوله تعالى : { الذين يحملون العرش } إلى قوله : { العظيم } ( غافر : 7و8و9 )وقوله تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ( الأنبياء : 28 ) .

والخوف يدل على وجهي{[6109]} الشفاعة ؛ لأن المرتضى هو ذو منزلة وقدر ، وهو ممن تضمنته شفاعة الملائكة . فيقال : الوجه الأول في الآخرة لا معنى له لوجهين :

أحدهما : أنه في تقدير الأمر عند من يجهله ، والله ، جل ثناؤه ، هو العليم بحقيقة ذلك ، بل غيره مما يجوز عليهم خفاء الحقائق كقوله تعالى : { يوم يجمع الله/-ب/ الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا } الآية ( المائدة : 109 ) ، وقال عيسى عليه السلام : { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } الآية ( المائدة : 117 ) . وكان في ذلك أن الحقائق في ذلك عند الله ، وهم تبرؤوا عن العلم بذلك ، وأقروا بأن الله هو المنفرد بعلم ذلك ، وبالله التوفيق .

والثاني : أن ثمة كتبا تقرأ فيها أعمال بني آدم وما سبق منهم من صغير وكبير ، فهي الكافية في التقدير ، إن كان في حق الاحتجاج ، وإن كان في حق الإعلام . فعلم الله بهم مغن عن ذلك . ولا قوة إلا بالله .

وأم الدعاء فكذلك نقول بدعاء لمن له ذلك الوصف ، ويشفع له في ما كان في ذلك منه من المآثم والذنوب ، لا أنه إذا( كانت كل أفعاله ){[6110]} ذلك فيشفع له{[6111]} ، لأنه( لا يجوز في الحكمة تعذيبه {[6112]} على ذكر من الأفعال ، بل له{[6113]} عليها أعظم الثواب وأرفع المأوى .

وطلب الشفاعة والمغفرة لمثله يقبح من وجوه :

أحدها : أن ذلك ){[6114]} لا يجوز في الحكمة ؛ ( فكأنه طلب منه ما ){[6115]} لا يجوز ، ولا يسعه . وذلك لأن{[6116]} فسق لبخلق يخرج مخرج السفه فضلا من أن يتضرع إلى الله به . جل الكريم الحليم عن هذا الوصف .

والثاني : أن يخلوا {[6117]} في مثله ، إذ هو مثاب غير معاقب ؛ يلقى ذلك منه بالشكر والحمد ، وفي الدعاء كتمان ذلك وكفرانه ، ومحال الإذن في مثله ، وبالله التوفيق .

والثالث : أن ذلك في الموعود بالجنة والمبشر بها ، فطلب مثله يوصف {[6118]} بجهالة ذلك ، لا أن الوقت لم يبين ( ذلك ){[6119]} ؛ يكون ذلك في الاستعجال ، وهو قولنا في أصحاب الكبائر : إنهم لو عذبوا بقدر الذنوب لكان ذلك في الحكمة عدلا ، فيشفع لسائلهم بالفضل والإحسان دون العدل والاستيفاء ، ولا قوة إلا بالله .

والأصل أنها مقادير العقوبات ؛ إنما تعرف من يعرف مقادير الأجرام ، وليس من الخلائق ( من ){[6120]} يحتمل تركيبة احتمال العلم بمقاديرها ؛ إذ لا أحد يبلغ في معرفة تعظيم الله كنه عظمته ليعرفوا قدر الخلاف لأمره ، جل ، وما كان هذا سبيله فحق القول الإتباع : أن الله لا يجزي السيئة إلا مثلها .

ثم معلوم أن لا سيئة أعظم من الكفر ، وجعل مثلها من الجزاء الخلود في النار . فمن ألوم ذلك لما دونه وصف الله تعالى أنه يجزي بالسيئة أكثر من مثلها ، والله عز وجل أخبرنا أنه لا يجزي ذلك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ومن يشفع شفاعة سيئة } تكون في ما بين المرء ( وأخيه ){[6121]} ؛ يشفع إليه بالمغفرة لأحد والتجاوز عن المذنب ، فيكون( له ){[6122]} نصيب منها . ويحتمل أن يكون الله تعالى برحمته يرحمه على أخيه بالشفاعة إليه بالتجاوز عنه والمغفرة . ويحتمل أن يكون الله تعالى ، إذا غفر له ، في شفيعه شفاعة ، يهبه له كما وهب الأول له .

وفي السيئة في ما يلعنه أو يدعو الله عليه بالهلاك عن غير استحقاق ، أو عليه في بقائه ضرر ، يكون له نصيب ، بلعن الآخر ، أو أحدهم{[6123]} يلعنه ، ويدعو عليه به أن يعاقبه بإشارته إلى أخيه في طلب الهلاك بلا معنى له .

وقوله تعالى أيضا : { ومن يشفع } الآية تحتمل في ما بينه وبين ربه يشفع له بخير إليه من عفو وتجاوز أو بسوء إليه من لعنه أو هلاكه . والنصيب منها بوجهين :

أحدهما : المغفرة في الأول ، هي برحمته أخاه وإشفاقه عليه ، أو يعطي المشفوع الشفاعة ، فيكون له نصيب منها .

والثاني{[6124]} : يجزيه بإصابة من لعنه ودعاء عليه بالهلاك بلا استحقاق ؛ يقبض الأول أو واحدا بمثله فيه ، والله أعلم .

ويحتمل في ما بينه وبين الناس ، ثم يكون ذلك بوجوه :

أحدها : بما يشفع إلى ما بين أخيه وآخر سوء في دفع ذلك ، وقد{[6125]} حلت التحية أو الإلفة أو ضد ذلك( أو ){[6126]} يشفع في إقالة عثرة ، أو ينم بينهما لإلقاء عداوة ، أو يشفع إليه بالدلالة على ملهوف في إغاثة أو مظلوم في نكبة ، أو يصنع معروفا أو منكرا ، يبعث ذلك على خير أو شر ، ولا قوة إلا بالله .

وقوله تعالى : { وكان الله على كل شيء مقينا } قيل : هو الحافظ ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وقيل : { مقيتا } حسيبا أي مقتدرا مجازيا بالحسنة والسيئة . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استأكل بمسلم أكلة أطعمه الله من نار جهنم ، ومن قام بأخيه مقام سمعة ورياء أقامه الله تعالى مقام سمعة ورياء ، ومن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ، ومن تتبع عورته يفضحه في بيته " ( بنحوه أحمد5/279 ) .

وعن الفراء والكسائي ، ( أنهما ){[6127]} قالا : ( المقيت المقتدر من : أقات يقيت إقاتة ) . وقيل : المقيت مشتقة من القوت ؛ يقول : رزق كل دابة على الله حتى تستوفي أكلها ورزقها . وقيل : { مقيتا } واجدا{[6128]} ؛ يكلؤهم ، ويرزقهم .

وقال أبو بكر الكسائي : ( وهو مأخوذ من الكتب السابقة ، ليس هو بلساننا ، فنحن لا نتأوله ، فلعله على خلاف ما نتأوله ، والله أعلم ) .


[6094]:أدرج قبلها في الأصل وم: هي.
[6095]:في الأصل وم:لذلك.
[6096]:أدرج في الأصل وم قبلها:له.
[6097]:في الأصل وم: قوله العرب. في م: كقوله العرب.
[6098]:في الأصل وم: يسعى.
[6099]:في الأصل وم: هو أن يسعى.
[6100]:في م: وعمل بها. ساقطة من الأصل.
[6101]:في الأصل وم: هما
[6102]:ساقطة من الأصل وم.
[6103]:في الأصل وم: تصير به مما.
[6104]:في الأصل وم: شريكان.
[6105]:في الأصل وم: فيهما.
[6106]:ساقطة من الأصل وم.
[6107]:ساقطة من الأصل وم.
[6108]:ساقطة من الأصل وم.
[6109]:في الأصل وم: وجهين.
[6110]:في الأصل وم: كان كل أفعالهم.
[6111]:في الأصل وم: لهم.
[6112]:في الأصل: تعذيبهم.
[6113]:في الأصل: لهم.
[6114]:ساقطة من م.
[6115]:في الأصل وم: فكأنهم طلبوا منه.
[6116]:في الأصل وم:لا.
[6117]:في الأصل وم: يخلق.
[6118]:في الأصل وم: يوجب.
[6119]:ساقطة من الأصل وم.
[6120]:ساقطة من الأصل وم.
[6121]:ساقطة من الأصل وم.
[6122]:ساقطة من الأصل وم.
[6123]:في الأصل وم: وفي الثاني.
[6124]:في الأصل وم: أحد.
[6125]:في الأصل وم: و.
[6126]:ساقطة من الأصل وم.
[6127]:ساقطة من الأصل وم.
[6128]:في الأصل وم: واجبا.