وقوله تعالى : { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها } لم يذكر ما تلك الشفاعة التي يشفع . فتحتمل الشفاعة الحسنة الدعاء{[6094]} له بالمغفرة والرحمة ، وهو لذلك مستوجب ، فيكون له( من ذلك ){[6095]} نصيب ، والشفاعة السيئة هو الدعاء عليه{[6096]} باللعن والمقت ، وهو لذلك غير مستوجب ، فيكون له منها نصيب . وقيل : ( هو كقوله{[6097]} عليه السلام ) : " الدال على الخير كفاعله " ( مسلم1893 ) و " من دل آخر على الخير فله في ذلك نصيب " ( بنحوع الترمذي 2674 ) وكذلك من دل آخر على الشر .
وتحتمل الشفاعة الحسنة في مظلمة ( أن يسعى المرء ) {[6098]} في دفع مظلمة عن أخيه المسلم ، وهو شفاعة حسنة ، فله في ذلك نصيب . وتحتمل الشفاعة السيئة ( أن يسعى المرء ){[6099]} في فساد أمر يلحقه من ذلك نقمة ومظلمة ، فله في ذلك إثم . وقيل : الشفاعة الحسنة هي التي تنتفع بها( وتعمل بها ){[6100]} هي بينك وبينه ، وأنتما{[6101]} فيها شريكان ، ( والشفاعة السيئة ){[6102]} هي التي تصيركما {[6103]} فيها شريكين{[6104]} . ويحتمل أن يكون الشفاعة الحسنة كل معروف وكل آمر به ، والشفاعة السيئة كل منكر وآمر به ، فهما{[6105]} شريكان في ذلك : الآمر والفاعل جميعا .
وتحتمل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ){[6106]} قال : " كل معروف صدقة " ( مسلم1005 ) و " الدال على الخير كفاعله " ( مسلم 1793 ) و " الله يجب إغاثة اللهفان " ( البزار في كشف الخفاء 1951 ) وعن الحسن رضي الله عنه ( أنه ){[6107]} قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا صدقة أفضل من صدقة اللسان ، قيل : وما صدقة اللسان يا رسول الله ؟ قال : الشفاعة تجريها إلى أخيك ، وقد وقع عليه ثقل الكريهة ، وتخفي بها الذم " ) ( بنحوه السيوطي في الدر المنثور : 2/602 ) .
والكفل والنصيب واحد . وقيل : الكفل الجزاء / وقيل : إثم ، ولكن ليس إثمة خاصة . ألا ترى أنه قال عز وجل : { يؤتكم كفلين من رحمته } ؟ ( الحديد : 28 ) . والشفاعة من أعظم ما احتيج إليها ؛ إذ قد جاء القرآن بها والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والشفاعة في المعهود من الأمر يكون عنه زلات تستوجب بها المقت والعقوبة ، فيعفى عن مرتكبها بشفاعة الأخبار وأهل الرضا بهم . ثم كانت الصغائر منا ، لا يجوز التعذيب عليها عند القائلين بالخلود بالكبائر ، والكبائر مما تعفى بالشفاعة . فإذن بطل عظم ما جاء من القرآن والآثار في الاعتنان ، وسقط ما جبل عليه أهل العلم بالله وبرحمته ، ويبطل رجاء المسلمين بشفاعة الرسل- صلوات الله عليهم- ولا قوة إلا بالله .
وقال بعضهم : الشفاعة تخرج على وجهين :
( أحدهما ){[6108]} : على ذكر محاسن أحد عند آخر ليقدر عنده المنزلة والرتبة .
والثاني : أن يدعو له . فالأول هو الذي يحتمل توجيه الشفاعة إليه . والثاني : قد بين بقوله تعالى : { الذين يحملون العرش } إلى قوله : { العظيم } ( غافر : 7و8و9 )وقوله تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ( الأنبياء : 28 ) .
والخوف يدل على وجهي{[6109]} الشفاعة ؛ لأن المرتضى هو ذو منزلة وقدر ، وهو ممن تضمنته شفاعة الملائكة . فيقال : الوجه الأول في الآخرة لا معنى له لوجهين :
أحدهما : أنه في تقدير الأمر عند من يجهله ، والله ، جل ثناؤه ، هو العليم بحقيقة ذلك ، بل غيره مما يجوز عليهم خفاء الحقائق كقوله تعالى : { يوم يجمع الله/-ب/ الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا } الآية ( المائدة : 109 ) ، وقال عيسى عليه السلام : { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } الآية ( المائدة : 117 ) . وكان في ذلك أن الحقائق في ذلك عند الله ، وهم تبرؤوا عن العلم بذلك ، وأقروا بأن الله هو المنفرد بعلم ذلك ، وبالله التوفيق .
والثاني : أن ثمة كتبا تقرأ فيها أعمال بني آدم وما سبق منهم من صغير وكبير ، فهي الكافية في التقدير ، إن كان في حق الاحتجاج ، وإن كان في حق الإعلام . فعلم الله بهم مغن عن ذلك . ولا قوة إلا بالله .
وأم الدعاء فكذلك نقول بدعاء لمن له ذلك الوصف ، ويشفع له في ما كان في ذلك منه من المآثم والذنوب ، لا أنه إذا( كانت كل أفعاله ){[6110]} ذلك فيشفع له{[6111]} ، لأنه( لا يجوز في الحكمة تعذيبه {[6112]} على ذكر من الأفعال ، بل له{[6113]} عليها أعظم الثواب وأرفع المأوى .
وطلب الشفاعة والمغفرة لمثله يقبح من وجوه :
أحدها : أن ذلك ){[6114]} لا يجوز في الحكمة ؛ ( فكأنه طلب منه ما ){[6115]} لا يجوز ، ولا يسعه . وذلك لأن{[6116]} فسق لبخلق يخرج مخرج السفه فضلا من أن يتضرع إلى الله به . جل الكريم الحليم عن هذا الوصف .
والثاني : أن يخلوا {[6117]} في مثله ، إذ هو مثاب غير معاقب ؛ يلقى ذلك منه بالشكر والحمد ، وفي الدعاء كتمان ذلك وكفرانه ، ومحال الإذن في مثله ، وبالله التوفيق .
والثالث : أن ذلك في الموعود بالجنة والمبشر بها ، فطلب مثله يوصف {[6118]} بجهالة ذلك ، لا أن الوقت لم يبين ( ذلك ){[6119]} ؛ يكون ذلك في الاستعجال ، وهو قولنا في أصحاب الكبائر : إنهم لو عذبوا بقدر الذنوب لكان ذلك في الحكمة عدلا ، فيشفع لسائلهم بالفضل والإحسان دون العدل والاستيفاء ، ولا قوة إلا بالله .
والأصل أنها مقادير العقوبات ؛ إنما تعرف من يعرف مقادير الأجرام ، وليس من الخلائق ( من ){[6120]} يحتمل تركيبة احتمال العلم بمقاديرها ؛ إذ لا أحد يبلغ في معرفة تعظيم الله كنه عظمته ليعرفوا قدر الخلاف لأمره ، جل ، وما كان هذا سبيله فحق القول الإتباع : أن الله لا يجزي السيئة إلا مثلها .
ثم معلوم أن لا سيئة أعظم من الكفر ، وجعل مثلها من الجزاء الخلود في النار . فمن ألوم ذلك لما دونه وصف الله تعالى أنه يجزي بالسيئة أكثر من مثلها ، والله عز وجل أخبرنا أنه لا يجزي ذلك ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { ومن يشفع شفاعة سيئة } تكون في ما بين المرء ( وأخيه ){[6121]} ؛ يشفع إليه بالمغفرة لأحد والتجاوز عن المذنب ، فيكون( له ){[6122]} نصيب منها . ويحتمل أن يكون الله تعالى برحمته يرحمه على أخيه بالشفاعة إليه بالتجاوز عنه والمغفرة . ويحتمل أن يكون الله تعالى ، إذا غفر له ، في شفيعه شفاعة ، يهبه له كما وهب الأول له .
وفي السيئة في ما يلعنه أو يدعو الله عليه بالهلاك عن غير استحقاق ، أو عليه في بقائه ضرر ، يكون له نصيب ، بلعن الآخر ، أو أحدهم{[6123]} يلعنه ، ويدعو عليه به أن يعاقبه بإشارته إلى أخيه في طلب الهلاك بلا معنى له .
وقوله تعالى أيضا : { ومن يشفع } الآية تحتمل في ما بينه وبين ربه يشفع له بخير إليه من عفو وتجاوز أو بسوء إليه من لعنه أو هلاكه . والنصيب منها بوجهين :
أحدهما : المغفرة في الأول ، هي برحمته أخاه وإشفاقه عليه ، أو يعطي المشفوع الشفاعة ، فيكون له نصيب منها .
والثاني{[6124]} : يجزيه بإصابة من لعنه ودعاء عليه بالهلاك بلا استحقاق ؛ يقبض الأول أو واحدا بمثله فيه ، والله أعلم .
ويحتمل في ما بينه وبين الناس ، ثم يكون ذلك بوجوه :
أحدها : بما يشفع إلى ما بين أخيه وآخر سوء في دفع ذلك ، وقد{[6125]} حلت التحية أو الإلفة أو ضد ذلك( أو ){[6126]} يشفع في إقالة عثرة ، أو ينم بينهما لإلقاء عداوة ، أو يشفع إليه بالدلالة على ملهوف في إغاثة أو مظلوم في نكبة ، أو يصنع معروفا أو منكرا ، يبعث ذلك على خير أو شر ، ولا قوة إلا بالله .
وقوله تعالى : { وكان الله على كل شيء مقينا } قيل : هو الحافظ ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وقيل : { مقيتا } حسيبا أي مقتدرا مجازيا بالحسنة والسيئة . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استأكل بمسلم أكلة أطعمه الله من نار جهنم ، ومن قام بأخيه مقام سمعة ورياء أقامه الله تعالى مقام سمعة ورياء ، ومن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ، ومن تتبع عورته يفضحه في بيته " ( بنحوه أحمد5/279 ) .
وعن الفراء والكسائي ، ( أنهما ){[6127]} قالا : ( المقيت المقتدر من : أقات يقيت إقاتة ) . وقيل : المقيت مشتقة من القوت ؛ يقول : رزق كل دابة على الله حتى تستوفي أكلها ورزقها . وقيل : { مقيتا } واجدا{[6128]} ؛ يكلؤهم ، ويرزقهم .
وقال أبو بكر الكسائي : ( وهو مأخوذ من الكتب السابقة ، ليس هو بلساننا ، فنحن لا نتأوله ، فلعله على خلاف ما نتأوله ، والله أعلم ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.