تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّـٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ} (176)

الآية 176 وقوله تعالى : { ولو شئنا لرفعناه بها } يحتمل قوله تعالى : { لرفعناه بها } عصمناه حتى لا ينسلخ منها ، ولا يكذّب بها ؛ أي لو شئنا لوفّقناه بها حتى يعمل بها . أو أن يقال : لو شئنا لعصمناه حتى لا يختار ما اختار ، لكنه إذ علم منه أنه يختار ذلك ، ويميل إليه شاء ألا يعصمه ، ولا يوفّقه .

فكيف ما كان فهو على المعتزلة ؛ لأنه أخبر لو شاء لرفعه بها ، وكان له مشيئة الرفع . ثم أخبر أنه لم يرفعه{[9131]} ، ولو رفعه بها كان أصلح له في الدين . دل أنه قد يفعل به ما ليس هو بأصلح في الدين . وهم يقولون : المشيئة ههنا مشيئة القهر والقسر لا مشيئة الاختيار . لكن ما ذكرنا أن الإيمان في حال الاضطرار والقهر لا يكون إيمانا . فلا معنى لذلك ، ولا يكون ذلك رفعا ، فيبطل قولهم .

وقوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } وهو ما ذكرنا : لمّا علم منه أنه يخلد إلى الأرض ، ويميل إليها لم يعصمه{[9132]} ولم يرفعه . والإخلاد إلى{[9133]} الأرض : قال الحسن : سكن إلى الأرض . وكذلك قال الكسائيّ : الإخلاد في كلامهم السكون إلى الشيء والرّكون إليه . وقال أبو عبيدة : هو اللزوم للشيء .

وفي{[9134]} قوله : { ولكنه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه } دلالة أن الإزاغة من الله وترك العصمة كما يكون من العبد الميل والركون{[9135]} إلى مخالفته وترك الائتمار له واتّباع الهوى .

قال قتادة : قوله تعالى : { ولو شئنا لرفعناه بها } يقول : لو شئنا من إتيانه الهدى فلم [ يكن ]{[9136]} للشيطان عليه سبيل ، ولكن يبتلي من عباده من يشاء .

وقوله تعالى : { أخلد إلى الأرض } ذكر الأرض يحتمل أن يكون كناية عن الدنيا كقوله تعالى : { وغرّتهم الحياة الدنيا } [ الأنعام : 70 ] . ويحتمل أن يكون كناية عن الذل والهوان ؛ لأن كل خير وبركة إنما يطلب من السماء ، وهم إذا اختاروا ذلك اختاروا الذل والهوان .

وقال : الحسن في قوله تعالى : { فأتبعه الشيطان } الآية : قال : حال الشيطان بينه وبين أن يصبح الهدى بما منّاه ، وزيّن له { واتبع هواه فمثله كمثل الكلب } قال : هذا مثل الكافر ، أميت فؤاده كما أميت فؤاد الكلب [ كقوله تعالى : { ساء مثلا القوم الذين كذّبوا بآياتنا } [ الآية : 177 ] أي ساء مثل الأفعال التي ضرب الله مثلها بالذي ذكر في القرآن ]{[9137]} قال : { ساء مثلا } صدق الله ، وبئس المثل { فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } فتدبروا ، فتفكروا في أمثال الله التي ضرب ، واعقلوها . إلى هذا ذهب الحسن .

وقال غيره : وجه ضرب مثل الذي كذّب بالآيات بالكلب ، من عادته أن يذلّ ، ويخضع لكل أحد لما يطمع أن ينال منه أدنى شيء ، ولا يبالي ما يصيبه من الذل والهوان في ذلك بعد أن ينال منه شيئا{[9138]} . فعلى ذلك الكافر والمكذّب بالآيات لا يبالي ما يلحقه من الذل /190-ب/ والهوان بعد أن يصيب من الدنيا شيئا .

ويشبه أن يكون وجه ضرب المثل بالكلب لما أن من عادة الكلاب إذا ظفرت بالجيف تنكبّ عليها{[9139]} ، حتى إذا تنادى{[9140]} وتدعى ، لا تكترث إليه ، ولا تلتفت . فعلى ذلك هذا الكافر ينكب [ على كل ]{[9141]} جيفة ، ويخضع ، ولا يلتفت إلى ما نودي ، ودعي إليه .

وقوله تعالى : { إن تحمل عليه يلهث } أي يخرج لسانه ، ويتنفس تنفسا { أو تتركه يلهث } ومعناه ، والله اعلم ، إذا أصابه العطش والجوع لهث ، وإذا لم يصبه لهث أيضا . فعلى ذلك الكافر يميل إلى ذلك ، ويختار ، أصابه شدة ، أو لم تصبه ، أو كلام نحو هذا .

وقال قتادة : هذا مثل الكافر ؟ ميت الفؤاد كما أميت فؤاد الكلب { ذلك مثل القوم الذين كذّبوا بآياتنا } ضرب الله عز وجل ، مثل الكافر مرة بالكلب ومرة بالميت ومرة بالأعمى ومرة بالتراب ومرة بالأنعام ونحو هذا ، وذلك لما فيه من معاني ما ذكر .

وقوله تعالى : { فاقصص القصص لعلهم } كذا ؛ وهو قوله تعالى : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } [ الأعراف : 175 ] . أمر رسوله ليقص أنباء الأمم السالفة على هؤلاء ليكون زجرا وتحذيرا للكفار ليعلموا ما حصل بأولئك بصنيعهم ليحذروا من صنيعهم ، ويكون عظة وتذكيرا للمؤمنين كقوله تعالى : { وموعظة للمتقين } .


[9131]:في الأصل وم: يرفع.
[9132]:من م، في الأصل: يعصمه.
[9133]:في الأصل وم: في.
[9134]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[9135]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[9136]:من م، ساقطة من الأصل.
[9137]:من م، ساقطة من الأصل.
[9138]:في الأصل وم: بشيء.
[9139]:في الأصل وم: لها.
[9140]:في الأصل وم: ينادى لها.
[9141]:في الأصل وم: لكل.