تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَيۡرُ مَنُوعًا} (21)

الآيتان 20 و 21 ومنهم من يقول : تفسير ما ذكر على {[22055]} إثره من قوله : { إذا مسه الشر جزوعا } { وإذا مسه الخير منوعا } وهذا أيضا مثل الأول لأن الذي منعه [ على الخير ]{[22056]} شدة حبه إياه ، والذي حمله على الجزع ما مسه من الضر والشر ، فجزعت نفسه لذلك ، لأنها أنشئت نافرة الضر ومبغضة له .

وقال الله عز وجل : { وكان الإنسان عجولا } [ الإسراء : 11 ] وقال في موضع آخر : { وكان الإنسان قتورا }[ الإسراء : 100 ] أي لا يسخو على إخراج ما في يديه .

ففي هذه الآيات أنبأ أن الإنسان خلق على هذه الأحوال : قتورا عجولا هلوعا . فلما أنشئ على حب ما ينفعه وبغض ما يكرهه ، ويتألم به ، علم أنه {[22057]} خلق على هذه للمحنة . فمن تفكر{[22058]} في ما وعد الله تعالى من النعم لمن قام بوفاء ما أمره به حمله ذلك على التسارع في الخيرات [ وترك ]{[22059]} ما يحبه في الدنيا ، يسأل الموعود في الآخرة ، إذ هو في الأصل أنشئ محبا لما يتلذذ [ به ] {[22060]} . ومن تذكر ما أوعد من العذاب بما يعطي نفسه من الشهوات من معاصي الله تعالى وبما يمنع من حقوق الله تعالى الواجبة في ماله سهل عليه ترك الشهوات ، وخف عليه بذل ما طلب منه لئلا يحل به ما ينغص عيشه من الآلام والمكاره .

والأصل أن الإنسان ، وإن كان مطبوعا على هذه الأخلاق الذميمة من البخل والإقتار والعجلة ، وجبل عليها ، فقد ملك رياضة نفسه {[22061]} ، ويمكنه أن يستخرجها من تلك الطباع الذميمة إلى أضدادها من الأخلاق الحميدة والشمائل المرضية ، فلزمه القيام بذلك .

ألا ترى أنه يتهيأ له أن يقوم برياضة الدواب والسباع ، فيخرجها بالرياضة عن طباعها التي أنشئت عليها من النفار عن الخلق والامتناع عن الانقياد حتى تصير منقادة للخلق ذليلة لهم ، فيتهيأ لهم الاستمتاع والتوصل إلى منافعها ؟

فكذلك الإنسان إذا قام برياضة نفسه أمكنه أن يخرجها عن خلقتها ، فتصير مطيعة له ، فيخف عليها بذل ما يطلب منها ، ويسهل عليها تحمل ما كان يشتد عليها .

ثم الأصل أن المرء ، وإن جبل على حب ما يتلذذ به وبغض ما يتألم ، ويتوجع ، فقد جبل أيضا على ترك ما هو فيه من اللذة للذة هي أعظم منها وعلى التصبر لاحتمال الأذى والمكروه ليتخلص مما هو أعظم من ذلك المكروه والألم .

وإذا كان كذلك فهو إذا قابل نعيم الدنيا بنعيم الآخرة وأقرب اللذتين بأبعدهما ، فرأى لذة {[22062]} الآخرة أعظم وأبقى ، خف عليه ترق أقربهما لأبعدهما وأقلهما لأكثرهما ، وإذا قابل مكروه الآخرة وعذابها {[22063]} بعذاب الآخرة ، فرأى عذاب الآخرة أشد وأبقى ، خف عليه تحمل المكاره في الدنيا ، فهذا السبب الذي ذكرنا مما يتوصل به إلى رياضة النفس ، والذي يدل على أن المرء قد يخف عليه تحمل الشدائد وترك اللذات الحاضرة لما يأمل من اللذات الآجلة أنك ترى المرء قد يهون عليه الضرب في الأرض وقطع الأسفار وتحمل المؤن وركوب الأهوال والفظائع والانقطاع عن اللذات ، كالذي يخرج للتجارة من بلده إلى بلاد نائية لما يرجو من النفع والربح في ذلك ، فيتحمل ما يمسه من المكاره والمؤن لما يطمع من نيل اللذات التي تركها .

فعلى ذلك إذا تفكر في نعيم الآخرة ، وتفكر في عقابها سهل عليه ترك اللذات الحاضرة وخف عليه تحمل المكاره في الدنيا .

ووجه آخر أنه لما جبل على حب اللذات وبغض المكاره ، أمر أن يجعل ما يحبه من العاجل آجلا ، فيكون شغله أبدا في ما يوصله على نعيم الآجل ، وأمر أن يجعل هربه عن الآلام الآجلة [ عاجلا ]{[22064]} فيجتهد في ما فيه التخلص والنجاة من تلك الآلام ، والله أعلم .


[22055]:أدرج قبلها في الأصل وم: ذلك.
[22056]:في الأصل وم: على المنع.
[22057]:في الأصل وم: أنها.
[22058]:في الأصل وم: تذكر.
[22059]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[22060]:من نسخة الحرم المكي ساقطة من الأصل.
[22061]:في الأصل وم: نفسها.
[22062]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: أنه.
[22063]:الواو ساقطة من الأصل.
[22064]:ساقطة من الأصل وم.