الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الفرقان مكية.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

سورة الفرقان مكية كلها قال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة وهي {والذين لا يدعون...} إلى قوله {غفورا رحيما}.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة والرد على مقالاتهم وجهالاتهم...

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

أخرج مالك والشافعي والبخاري ومسلم وابن حبان والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب قال: "سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمتعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله، أقرئنا هشام»، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت، ثم قال: أقرئنا عمر»، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه». تكلم سبحانه في هذه السورة على التوحيد لأنه أقدم وأهمّ، ثم في النبوّة لأنها الواسطة، ثم في المعاد لأنه الخاتمة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة المكية تبدو كلها وكأنها إيناس لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] وتسرية، وتطمين له وتقوية وهو يواجه مشركي قريش، وعنادهم له، وتطاولهم عليه، وتعنتهم معه، وجدالهم بالباطل، ووقوفهم في وجه الهدي وصدهم عنه.

فهي في لمحة منها تصور الإيناس اللطيف الذي يحيط به الله عبده ورسوله؛ وكأنما يمسح على آلامه ومتاعبه مسحا رفيقا؛ ويهدهد قلبه، ويفيض عليه من الثقة والطمأنينة، وينسم عليه من أنسام الرعاية واللطف والمودة.

وهي في اللمحة الأخرى تصور المعركة العنيفة مع البشرية الضالة الجاحدة المشاقة لله ورسوله، وهي تجادل في عنف، وتشرد في جموح، وتتطاول في قحة، وتتعنت في عناد، وتجنح عن الهدى الواضح الناطق المبين.

إنها البشرية التي تقول عن هذا القرآن العظيم: (إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون).. أو تقول: (أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) والتي تقول عن محمد رسول الله الكريم: (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا).. أو تقول في استهزاء: (أهذا الذي بعث الله رسولا؟).. والتي لا تكتفي بهذا الضلال، فإذا هي تتطاول في فجور على ربها الكبير: (وإذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟ وزادهم نفورا). أو تتعنت فتقول: لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا؟.

وهي هي من قديم كما يرسمها سياق السورة من عهد نوح إلى موقفها هذا الأخير مع رسولها الأخير.. لقد اعترض القوم على بشرية الرسول [صلى الله عليه وسلم] فقالوا: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا!).

واعترضوا على حظه من المال، فقالوا: (أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها).

واعترضوا على طريقة تنزيل القرآن فقالوا: (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة!).

وذلك فوق التكذيب والاستهزاء والقحة والافتراء الأثيم.

ووقف الرسول [صلى الله عليه وسلم] يواجه هذا كله، وهو وحيد فريد مجرد من الجاه والمال، ملتزم حده مع ربه لا يقترح عليه شيئا، ولا يزيد على أن يتوجه إليه مبتغيا رضاه، ولا يحفل بشيء سواه:"رب إلا يكن بك علي غضب فلا أبالي. لك العتبى حتى ترضى"..

فهنا في هذه السورة يؤويه ربه إلى كنفه، ويمسح على آلامه ومتاعبه، ويهدهده ويسري عنه، ويهون عليه مشقة ما يلقى من عنت القوم وسوء أدبهم وتطاولهم عليه، بأنهم يتطاولون على خالقهم ورازقهم، وخالق هذا الكون كله ومقدره ومدبره.. فلا عليه أن ينالوه بشيء من ذاك! (ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا).. (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا).. (وإذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن؟)..

ويعزيه عن استهزائهم به بتصوير المستوى الهابط الذي يتمرغون فيه: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا؟ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلا!).

ويعده العون والمساعدة في معركة الجدل والمحاجة: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا).. وفي نهاية المعركة كلها يعرض عليه مصارع المكذبين من قبل: قوم موسى ونوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وما بين ذلك من قرون.

ويعرض عليه نهايتهم التعيسة في سلسلة من مشاهد القيامة: (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا).. (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا. إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا. وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا. لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا ادعوا ثبورا كثيرا) (ويوم يعض الظالم على يديه يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا. يا ويلتا! ليتني لم أتخذ فلانا خليلا)..

ويسليه بأن مثله مثل الرسل كلهم قبله: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق).. (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين. وكفى بربك هاديا ونصيرا).

ويكلفه أن يصبر ويصابر، ويجاهد الكافرين بما معه من قرآن، واضح الحجة قوي البرهان عميق الأثر في الوجدان: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا)..

ويغريه على مشاق الجهاد بالتوكل على مولاه (وتوكل علي الحي الذي لا يموت وسبح بحمده، وكفى به بذنوب عباده خبيرا..

وهكذا تمضي السورة: في لمحة منها إيناس وتسرية وعطف وإيواء من الله لرسوله. وفي لمحة منها مشاقة وعنت من المشركين لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] وتتبير ونكال من الله الكبير المتعال. حتى تقرب من نهايتها، فإذا ريح رخاء وروح وريحان، وطمأنينة وسلام.. وإذا صورة (عباد الرحمن).. (الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما...) وكأنما تتمخض عنهم معركة الجهاد الشاقة مع البشرية الجاحدة الضالة المعاندة المشاقة؛ وكأنما هم الثمرة الحلوة الجنية الممثلة للخير الكامن في شجرة البشرية ذات الأشواك.

وتختم السورة بتصوير هوان البشرية على الله، لولا تلك القلوب المؤمنة التي تلتجئ إليه وتدعوه: (قل: ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم. فقد كذبتم فسوف يكون لزاما)..

هذه هي ظلال السورة؛ وذلك هو محورها الذي تدور عليه، وموضوعها الذي تعالجه. وهي وحدة متصلة، يصعب فصل بعضها عن بعض. ولكن يمكن تقسيمها إلى أربعة أشواط في علاج هذا الموضوع.

يبدأ الشوط الأول منها بتسبيح الله وحمده على تنزيل هذا القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا. وبتوحيد الله المالك لما في السماوات والأرض، المدبر للكون بحكمة وتقدير، ونفي الولد والشريك. ثم يذكر اتخاذ المشركين مع ذلك آلهة من دونه لا يخلقون شيئا وهم يخلقون.. كل أولئك قبل أن يحكي مقولاتهم المؤذية عن الرسول [صلى الله عليه وسلم] من تكذيبه فيما جاءهم به، وادعائهم أنه إفك افتراه، وأنه أساطير الأولين اكتتبها. وقبل أن يحكي اعتراضاتهم على بشرية الرسول وحاجته للطعام والمشي في الأسواق، واقتراحاتهم أن ينزل عليه ملك أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها. وقحتهم في وصفه [صلى الله عليه وسلم] بأنه رجل مسحور.. وكأنما يسبق بمقولاتهم الجاحده لربهم كي يهون على نفس الرسول [صلى الله عليه وسلم] مقولاتهم عنه وعن رسالته.. ومن ثم يعلن ضلالهم وتكذيبهم بالساعة، ويتوعدهم بما أعده الله لهم من سعير، يلقون فيها مكانا ضيقا مقرنين. ويعرض في الصفحة المقابلة صورة المؤمنين في الجنة. (لهم فيها ما يشاءون خالدين).. ويستمر في عرض مشهدهم يوم الحشر، ومواجهتهم بما كانوا يعبدون من دون الله، وتكذيب هؤلاء لهم فيما كانوا يدعون على الله من شرك.. وينتهي هذا الشوط بتسلية الرسول [صلى الله عليه وسلم] بأن الرسل جميعا كانوا بشرا مثله، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.

ويبدأ الشوط الثاني بتطاول المكذبين بلقاء الله على الله، وقولهم: (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا). ويعاجلهم بمشهد اليوم الذي يرون فيه الملائكة.. (وكان يوما على الكافرين عسيرا).. (ويوم يعض الظالم على يديه يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا).. ليكون في ذلك تأسية للرسول [صلى الله عليه وسلم] وهم يهجرون القرآن، وهو يشكو لربه هذا الهجران. وهم يعترضون على طريقة تنزيله ويقولون (لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة). ويعقب على هذا الاعتراض بمشهدهم يوم القيامة يحشرون على وجوههم، وهم المكذبون بيوم القيامة، وبتصوير عاقبة المكذبين قبلهم من قوم موسى وقوم نوح، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك، ويعجب من أمرهم وهم يمرون على قرية لوط المدمرة ولا يعتبرون. فيهون بذلك كله من وقع تطاولهم على الرسول [صلى الله عليه وسلم] وقولهم: (أهذا الذي بعث الله رسولا؟) ثم يعقب على هذا الاستهزاء بتحقيرهم ووضعهم في صف الأنعام بل دون ذلك: (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا).

والشوط الثالث جولة في مشاهد الكون تبدأ بمشهد الظل، وتستطرد إلى تعاقب الليل والنهار، والرياح المبشرة بالماء المحيي، وخلقة البشر من الماء. ومع هذا فهم يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم، ويتظاهرون على ربهم وخالقهم، ويتطاولون في قحة إذا دعوا إلى عبادة الله الحق.. (وإذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن؟).. وهو الذي (جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرامنيرا. وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا).. ولكنهم هم لا يتذكرون ولا يشكرون..

ثم يجيء الشوط الأخير يصور (عباد الرحمن) الذين يسجدون له ويعبدونه، ويسجل مقوماتهم التي استحقوا بها هذه الصفة الرفيعة. ويفتح باب التوبة لمن يرغب في أن يسلك طريقة عباد الرحمن. ويصور جزاءهم على صبرهم على تكاليف الإيمان والعبادة: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما).

وتختم السورة بتقرير هوان البشرية على الله لولا هذه القلوب الطائعة المستجيبة العارفة بالله في هذا القطيع الشارد الضال من المكذبين والجاحدين..

وفي هذا الهوان تهوين لما يلقاه منهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فهو يتفق مع ظل السورة وجوها، ويتفق مع موضوعها وأهدافها، على طريقة التناسق الفني في القرآن.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

سميت هذه السورة سورة الفرقان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبمسمع منه. ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلبيته بردائه فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها.. الحديث.

ولا يعرف لهذه السورة اسم غير هذا. والمؤدبون من أهل تونس يسمونها {تبارك الفرقان} كما يسمون {سورة الملك} تبارك، وتبارك الملك.

ووجه تسميتها {سورة الفرقان} لوقوع لفظ الفرقان فيها. ثلاث مرات في أولها ووسطها وآخرها.

وهي مكية عند الجمهور. وروي عن ابن عباس أنه استثنى منها ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} إلى قوله {وكان الله غفورا رحيما}. والصحيح عنه أن هذه الآيات الثلاث مكية كما في صحيح البخاري في تفسير الفرقان: {عن القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جيبر: هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ فقرأت عليه {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق}. فقال سعيد: قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي؟ فقال: هذه مكية نسختها آية مدنية التي في سورة النساء. يريد قوله تعالى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} الآية}. وعن الضحاك: أنها مدنية إلا الآيات الثلاث من أولها إلى قوله {ولا نشورا}.

وأسلوب السورة وأغراضها شاهدة بأنها مكية.

أغراض هذه السورة:

واشتملت هذه السورة على الابتداء بتحميد الله تعالى وإنشاء الثناء عليه، ووصفه بصفات الإلهية والوحدانية فيها.

وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن، وجلال منزله، وما فيه من الهدى، وتعريض بالامتنان على الناس بهديه وإرشاده إلى اتقاء المهالك، والتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأقيمت هذه السورة على ثلاث دعائم: الأولى: إثبات القرآن منزل من عند الله، والتنويه بالرسول المنزل عليه صلى الله عليه وسلم، ودلائل صدقه، ورفعة شأنه عن أن تكون له حظوظ الدنيا، وأنه على طريقة غيره من الرسل، ومن ذلك تلقى قومه دعوته بالتكذيب.

الدعامة الثانية: إثبات البعث والجزاء، والإنذار بالجزاء في الآخرة، والتبشير بالثواب فيها للصالحين، وإنذار المشركين بسوء حظهم يومئذ، وتكون لهم الندامة على تكذيبهم الرسول وعلى إشراكهم واتباع أئمة كفرهم.

الدعامة الثالثة: الاستدلال على وحدانية الله، وتفرده بالخلق، وتنزيهه عن أن يكون له ولد أو شريك، وإبطال إلهية الأصنام، وإبطال ما زعموه من بنوة الملائكة لله تعالى.

وافتتحت في آيات كل دعامة من هذه الثلاث بجملة {تبارك الذي} الخ.

قال الطيبي: مدار هذه السورة على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} وذكر بدائع من صنعه تعالى جميعا بين الاستدلال والتذكير.

وأعقب ذلك بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوته ومقاومته الكافرين.

وضرب الأمثال للحالين ببعثة الرسل السابقين وما لقوا من أقوامهم مثل قوم موسى وقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط.

والتوكل على الله، والثناء على المؤمنين به، ومدح خصالهم ومزايا أخلاقهم، والإشارة إلى عذاب قريب يحل بالمكذبين.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

هذه السورة بحكم كونها من السور المكية، فإن أكثر ارتكازها على المسائل المتعلقة بالمبدأ والمعاد، وبيان نبوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمواجهة مع الشرك والمشركين، والإنذار من العواقب الوخيمة للكفر وعبادة الأصنام والذنوب. و تتألف هذه السورة في مجملها من ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: الذي يشكل مطلع هذه السورة، يدحض منطق المشركين بشدّة، و يستعرض ذرائعهم، ويردُّ عليها، ويخوفهم من عذاب الله، وحساب يوم القيامة، و عقوبات جهنم الأليمة، ويذكرّهم بمقاطع من قصص الأقوام الماضية الذين افترستهم على أثر مخالفتهم لدعوة الأنبياء الشدائد والبلايا والعقوبات، وذلك على سبيل الدرس والعبرة لهؤلاء المشركين المعاندين.

في القسم الثاني: لأجل إكمال هذا البحث، تبحث الآيات بعض دلائل التوحيد ومظاهر عظمة الله في الأكوان، بدءاً من ضياء الشمس إلى ظلمة وعتمة الليل، وهبوب الرياح، ونزول الأمطار، وإحياء الأراضي الموات، وخلق السماوات والأرضين في ستة أيّام، وخلق الشمس والقمر، وسيرهما المنظم في الأفلاك السماوية، وما شابه ذلك. فالقسم الأوّل في الحقيقة يحدد مفهوم (لا إله)، والقسم الثّاني يحدد مفهوم (إلاّ الله).

القسم الثالث: مختصر جذاب جدّاً، وجامع لصفات المؤمنين الحقيقيين (عباد الرحمن) وعباد الله المخلصين، في مقايسة مع الكفار المتعصبين الذين ذكروا في القسم الأوّل، فتتحدد منزلة كل من الفريقين تماماً. كما أنّنا سنرى أنّ هذه الصفات مجموعة من الاعتقاديات والأعمال الصالحة ومكافحة الشهوات، وامتلاك الوعي الكافي، والإحساس والالتزام بالمسؤولية الاجتماعية. و اسم هذه السورة قد اُخذ من آيتها الأُولى، التي تعبر عن القرآن ب «الفرقان» الفاصل بين الحق والباطل...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

تبارك: تَفاعَلَ من البركة... وهو كقول القائل: تقدّس ربنا، فقوله:"تَبارَكَ الّذِي نَزّلَ الفُرْقانَ" يقول: تبارك الذي نزّل الفصل بين الحقّ والباطل، فصلاً بعد فصل، وسورة بعد سُورة، على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون محمد لجميع الجنّ والإنس الذين بعثه الله إليهم داعيا إليه، "نذيرا": يعني منذِرا يُنذرهم عِقابه ويخوّفهم عذابه، إن لم يوحدوه ولم يخلصوا له العبادة ويخلعوا كلّ ما دونه من الآلهة والأوثان...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

سمى القرآن فرقانا، لأنه أنزله بالتفاريق مفرقا، وسائر الكتب أنزل مجموعة..."ليكون للعالمين نذيرا" أي ليكون محمد بالقرآن الذي أنزل عليه نذيرا...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{تَبَارَكَ}...كأنّ معناه: جاء بكل بركة...وقال المحققون: معنى هذه الصفة ثبتَ ودام بما لم يزل ولا يزال، وأصل البركة الثبوت.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{تَبَارَكَ} أي تعظَّمَ وتَكبَّر. وعند قوم أنه من البركة وهي الزيادة والنفع، فدوامه وجودُه، وتكبره استحقاق ذاته لصفاته العلية، والبركة أو الزيادة تشير إلى فَضْلِه وإحسانه ولُطْفِه. فوجوهُ الثناء عليه تنحصر بهذه الأوجه الثلاثة: ثناء عليه بذكر ذاته وحقِّه، وثناء بذكر وصفه وعِزِّه، وثناء بذكر إحسانه وفضله...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

"ليكون للعالمين نذيرا" أي: الجن والأنس، قال أهل العلم: ولم يبعث نبي إلى جميع العالمين غير نوح ومحمد عليهما الصلاة والسلام.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

البركة: كثرة الخير وزيادته. ومنها: {تَبَارَكَ الله} [الأعراف: 54]، وفيه معنيان: تزايد خيره، وتكاثر. أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله. والفرقان: مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما، وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل. أو لأنه لم ينزل جملة واحدة، ولكن مفروقاً، مفصولاً بين بعضه وبعض في الإنزال. ألا ترى إلى قوله: {وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ ونزلناه تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106] وقد جاء الفرق بمعناه.

وعن ابن الزبير رضي الله عنه: (على عباده)، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّته، كما قال: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ} [الأنبياء: 10]، {قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]. والضمير في {لِيَكُونَ} لعبده أو للفرقان. ويعضد رجوعه إلى الفرقان قراءة ابن الزبير {للعالمين} للجنّ والإنس {نَذِيراً} منذراً أي مخوّفاً أو إنذاراً، كالنكير بمعنى الإنكار.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{تبارك} فعل مختص بالله تعالى لم يستعمل في غيره، ولذلك لم يصرف منه مستقبل ولا اسم فاعل، وهو صفة فعل أي: كثرت بركاته، ومن جملتها إنزال كتابه الذي هو {الفرقان} بين الحق والباطل، وصدر هذه السورة إنما هو رد على مقالات كانت لقريش، فمن جملتها قولهم: إن القرآن افتراه محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه ليس من عند الله، فهو ردّ على هذه المقالة...

و «النذير»: المحذر من الشر، والرسول من عند الله نذير...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن الله سبحانه وتعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة، ثم ختمها بذكر صفات العباد المخلصين الموقنين، ولما كان إثبات الصانع وإثبات صفات جلاله يجب أن يكون مقدما على الكل لا جرم افتتح الله هذه السورة بذلك فقال: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده}...والمعنى أنه سبحانه وتعالى باق في ذاته أزلا وأبدا ممتنع التغير وباق في صفاته ممتنع التبدل، ولما كان سبحانه وتعالى هو الخالق لوجوه المنافع والمصالح والمبقي لها وجب وصفه سبحانه بأنه تبارك وتعالى.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{عَلَى عَبْدِهِ}: هذه صفة مدح وثناء؛ لأنه أضافه إلى عبوديته، كما وصفه بها في أشرف أحواله، وهي ليلة الإسراء، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا} [الإسراء: 1]...

وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه، فقال {تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}...إنما خصَّه بهذا الكتاب العظيم المبين المفصل المحكم...ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء، ويستقل على الغبراء...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{نزل الفرقان} أي الكتاب الذي نزل إلى سماء الدنيا فكان كتاباً، ثم نزل مفرقاً بحسب المصالح، فسمي لذلك فرقاناً، ولأنه الفارق بين ملتبس، فلا يدع خفاء إلا بينه، ولاحقاً إلا أثبته، ولا باطلاً إلا نفاه ومحقه... {على عبده} أي الذي لا أحق منه بإضافته إلى ضميره الشريف، لأنه خالص له، لا شائبة لغيره فيه أصلاً...

{ليكون} أي العبد أو الفرقان... {نذيراً} أي وبشيراً، وإنما اقتصر على النذارة للإشارة إلى البشارة بلفظ {تبارك} ولأن المقام لها، لما ختم به تلك من إعراض المتولين عن الأحكام، ونفى الإيمان عنهم بانتفاء الإسلام، وفيه إشارة إلى كثرة المستحقين للنذارة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويرسم الغاية من تنزيل الفرقان على عبده.. (ليكون للعالمين نذيرا).. وهذا النص مكي، وله دلالته على إثبات عالمية هذه الرسالة منذ أيامها الأولى. لا كما يدعي بعض؛ المؤرخين غير المسلمين، أن الدعوة الإسلامية نشأت محلية، ثم طمحت بعد اتساع رقعة الفتوح أن تكون عالمية. فهي منذ نشأتها رسالة للعالمين. طبيعتها طبيعة عالمية شاملة، ووسائلها وسائل إنسانية كاملة؛ وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد، ومن نهج إلى نهج. عن طريق هذا الفرقان الذي نزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيرا، فهي عالمية للعالمين والرسول يواجه في مكة بالتكذيب والمقاومة والجحود...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

افتتاح بديع لندرة أمثاله في كلام بلغاء العرب لأن غالب فواتحهم أن تكون بالأسماء مجردة أو مقترنة بحرف غير منفصل...وبهذه الندرة يكون في طالع هذه السورة براعة المطلع لأن الندرة من العزة، والعزّةُ من محاسن الألفاظ وضدها الابتذال...وظاهر قوله: {تبارك الذي نزل الفرقان} أنه إخبار عن عظمة الله وتوفر كمالاته فيكون المقصود به التعليم والإيقاظ، ويجوز مع ذلك أن يكون كناية عن إنشاء ثناء على الله تعالى أنشأ الله به ثناء على نفسه كقوله: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1] على طريقة الكلام العربي في إنشاء التعجب من صفات المتكلم في مقام الفخر والعظمة...والذي نزل الفرقان هو الله تعالى. وإذ قد كانت الصلة من خصائص الله تعالى كان الفعل كالمسند إلى ضمير المتكلم فكأنه قيل: تباركتُ. والموصول يومىء إلى علة ما قَبله فهو كناية عن تعظيم شأن الفرقان وبركته على الناس من قوله: {ليكون للعالمين نذيراً}. فتلك منة عظيمة توجب الثناء على الله. وهو أيضاً كناية عن تعظيم شأن الرسول عليه الصلاة السلام...وإيثار اسم الفرقان بالذكر هنا للإيماء إلى أن ما سيذكر من الدلائل على الوحدانيَّة وإنزال القرآن دلائل قيمة تفرّق بين الحق والباطل...والمراد ب {للعالمين} جميع الأمم من البشر لأن العالم يطلق على الجنس وعلى النوع وعلى الصنف بحسب ما يسمح به المقام، والنذارة لا تكون إلا للعقلاء ممن قُصدوا بالتكليف...والنذير: المخبِر بسوء يقع، وهو فَعيل بمعنى مُفْعِل بصيغة اسم الفاعل مثل الحَكيم. والاقتصار في وصف الرسول هنا على النذير دون البشير...لأن المقام هنا لتهديد المشركين إذ كذبوا بالقرآن وبالرسول عليه الصلاة والسلام. فكان مقتضياً لذكر النذارة دون البشارة، وفي ذلك اكتفاء لأن البشارة تخطر ببال السامع عند ذكر النذارة.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الملفت للانتباه أنّ ثبوت البركة لذات الخالق عز وجل بواسطة نزول الفرقان، يعني أنّه أنزل قرآناً فاصلا بين الحق والباطل، وهذا يدل على أن أعظم الخير والبركة هي أن يمتلك الإنسان بيده وسيلة المعرفة، معرفة الحق من الباطل. والنكتة الأخيرة التي طرحت في هذه الآية، تبيّن أنّ هدف الفرقان النهائي هو إنذار العالمين، الإنذار الذي نتيجته الإحساس بالمسؤولية تجاه التكاليف الملقاة على عاتق الإنسان. وعبارة «للعالمين» كاشفة عن أنّ شريعة الإسلام عالمية لا تختص بمنطقة معينة، ولا بقوم أو عنصر معينين. بل إن بعضهم قد استدل منها على خاتمية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك أن «العالمين» كما أنّها غير محدودة من حيث المكان، فكذلك مطلقة من حيث الزمان أيضاً، ف «العالمين» تشمل جميع الأجيال القادمة أيضاً.