الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بذلك جل ثناؤه: ثم أنزل الله أيها المؤمنون من بعد الغمّ الذي أثابكم ربكم بعد غمّ تقدمه قبله أمنة، وهي الأمان على أهل الإخلاص منكم واليقين، دون أهل النفاق والشك. ثم بين جلّ ثناؤه عن الأمنة التي أنزلها عليهم ما هي؟ فقال: نعاسا -بنصب النعاس على الإبدال- من الأمنة. ثم اختلفت القراء في قراءة قوله: {يَغْشَى}؛ فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض الكوفيين بالتذكير بالياء: {يَغْشَى}. وقرأ جماعة من قراء الكوفيين بالتأنيث: {تَغْشَى} بالتاء. وذهب الذين قرأوا ذلك بالتذكير إلى أن النعاس هو الذي يغشى الطائفة من المؤمنين دون الأمنة، فذكره بتذكير النعاس. وذهب الذين قرأوا ذلك بالتأنيث إلى أن الأمنة هي التي تغشاهم، فأنثوه لتأنيث الأمنة. والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراء الأمصار غير مختلفتين في معنى ولا غيره، لأن الأمنة في هذا الموضع هي النعاس، والنعاس: هو الأمنة. وسواء ذلك، وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الحقّ في قراءته...

{وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ باللّهِ غيرَ الحَقّ ظَن الجاهِلِيّة}. يعني بذلك جلّ ثناؤه: وطائفة منكم أيها المؤمنون قد أهمتهم أنفسهم، يقول: هم المنافقون لا همّ لهم غير أنفسهم، فهم من حذر القتل على أنفسهم، وخوف المنية عليها في شغل، قد طار عن أعينهم الكرى، يظنون بالله الظنون الكاذبة، ظنّ الجاهلية من أهل الشرك بالله، شكا في أمر الله، وتكذيبا لنبيه صلى الله عليه وسلم، وَمَحْسَبَةً منهم أن الله خاذل نبيه، ومعل عليه أهل الكفر به، يقولون: هل لنا من الأمر شيء...وأما قوله: {ظَنّ الجاهِلِيّةِ} فإنه يعني أهل الشرك.

{يَقُولُونَ هَلْ لنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيّءٍ قُلْ إنّ الأمْرَ كُلّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ في أنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ، يَقُولُونَ لَوْ كانَ لنَا مِنَ الأمْرِ شَيّءٌ ما قُتِلْنَا هَهُنا}: يعني بذلك: الطائفة المنافقة التي قد أهمتهم أنفسهم، يقولون: ليس لنا من الأمر من شيء، قل إن الأمر كله لله، ولو كان لنا من الأمر شيء ما خرجنا لقتال من قاتلنا فقتلونا...

وهذا أمر مبتدأ من الله عزّ وجلّ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين إن الأمر كله لله، يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف يحبّ، ثم عاد إلى الخبر عن ذكر نفاق المنافقين، فقال: {يُخْفُونَ في أنْفُسِهُمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ} يقول: يخفي يا محمد هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك صفتهم في أنفسهم من الكفر والشكّ في الله ما لا يبدون لك، ثم أظهر نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يخفونه بينهم من نفاقهم، والحسرة التي أصابتهم على حضورهم مع المسلمين مشهدهم بأحد، فقال مخبرا عن قيلهم الكفر، وإعلانهم النفاق بينهم، يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا، يعني بذلك أن هؤلاء المنافقين يقولون: لو كان الخروج إلى حرب من خرجنا لحربه من المشركين إلينا، ما خرجنا إليهم، ولا قتل منا أحد في الموضع الذي قُتلوا فيه بأُحد...

{قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ ما فِي صُدُورِكُمُ وَلِيُمَحّصَ ما فِي قُلُوبِكُمُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}: يعني بذلك جلّ ثناؤه: قل يا محمد للذين وصفت لك صفتهم من المنافقين: لو كنتم في بيوتكم لم تشهدوا مع المؤمنين مشهدهم، ولم تحضروا معهم حرب أعدائهم من المشركين، فيظهر للمؤمنين ما كنتم تخفونه من نفاقكم، وتكتمونه من شرككم في دينكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل، يقول: لظهر للموضع الذي كتب عليه مصرعه فيه من قد كتب عليه القتل منهم، ويخرج من بيته إليه، حتى يصرع في الموضع الذي كتب عليه أن يصرع فيه. وأما قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ}: فإنه يعني به: وليبتلي الله ما في صدوركم أيها المنافقون كنتم تبرزون من بيوتكم إلى مضاجعكم. ويعني بقوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ ما فِي صُدُورِكُم}: وليختبر الله الذي في صدوركم من الشكّ، فيميزكم بما يظهره للمؤمنين من نفاقكم من المؤمنين. وقد دللنا فيما مضى على أن معاني نظائر قوله: {لِيَبْتَلَيَ اللّهُ} {ولِيَعْلَمَ اللّهُ} وما أشبه ذلك، وإن كان في ظاهر الكلام مضافا إلى الله الوصف به، فمراد به أولياؤه وأهل طاعته وأن معنى ذلك: وليختبر أولياء الله، وأهل طاعته، الذي في صدوركم من الشكّ والمرض، فيعرفوكم من أهل الإخلاص واليقين. {ولِيُمَحّصَ ما في قُلُوبِكُمْ} يقول: وليتبينوا ما في قلوبكم من الاعتقاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من العداوة أو الولاية. {وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ} يقول: والله ذو علم بالذي في صدور خلقه من خير وشرّ وإيمان وكفر، لا يخفى عليه شيء من أمورهم، سرائرها وعلانيتها، وهو لجميع ذلك حافظ، حتى يجازي جميعهم جزاءهم على قدر استحقاقهم...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قيل فيه بوجهين: قيل: الطائفة التي أتاها النعاس، هم المؤمنون سمعوا بانصراف العدو عنهم فصدقوا الخبر فناموا، لأن الخوف إذا غلب يمنع النوم، وأما الطائفة التي قد أهمتهم أنفسهم، هم المنافقون، لم يصدقوا الخبر، فلم يذهب عنهم، فلم ينعسوا، وذلك كقوله عز وجل: {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} الآية، (الأحزاب: 20).

وقيل: كانت الطائفتان جميعا من المؤمنين لكن إحداهما قد أتاها النعاس لما آمنوا العدو، والأخرى لا، بعصيانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم أمره منع ذلك النوم عنهم، إن كيف تلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف تعتذرون إليه؟ والله أعلم...

وقوله تعالى: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} قيل: {يظنون بالله} ألا ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ذا في غير المؤمنين، وقيل: {يظنون بالله غير الحق} ظنونا كاذبة إنما هم أهل شرك وريبة في أمر الله {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا}. وقوله تعالى: {يقولون هل لنا من الأمر من شيء} قيل {يقولون} بعضهم لبعض: {هل لنا من الأمر من شيء} يعني بالأمر النصر والغنيمة. وقيل قالوا ذلك للمؤمنين. {قل إن الأمر كله لله} يعني النصر والفتح كله بيد الله. {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك} والذين يخفون قولهم: لو أقمنا في منازلنا {ما قتلنا ههنا} وقيل: {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء} قالوا: ليس {لنا من الأمر من شيء} إنما الأمر إلى محمد، ولو ما كان الأمر ما خرجنا إلى هؤلاء حتى {قتلنا ههنا}، قال الله عز وجل: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} قيل: {لو كنتم في بيوتكم} كما يقولون لبرز} يعني لخرج من البيوت {الذين كتب عليهم القتل} لظهر الذي كتب عليه القتل حيث كان، وقيل: إذا كتب على أحد القتل أتاه، ولو كان في البيت، وهو كقوله {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} (النساء: 78) وقيل متى كتب الله على قوم القتل فلم يموتوا أبدا. وفي هذا بيان الآجال المكتوبة وهي التي تنقضي بها الأعمار وإن كان البيان قتلا فقتل وإن كان موتا فموت...

وقوله تعالى: {وليبتلي الله ما في صدوركم} والابتلاء هو: الاستظهار كقوله: {يوم تبلى السرائر} (الطارق 9) يبدي ويظهر وذلك يكون بوجهين: يظهر بالجزاء مرة ومرة بالكتاب يعلم الخلق من كانت سريرته حسنة بالجزاء. وكذلك إذا كانت سيئة ويعلم بالكتاب. وقوله تعالى: {وليبتلي الله ما في صدوركم} مما مضى، وليجعله لهم {وليمحص ما في قلوبكم} من الذنوب وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: الابتلاء والتحميص هما واحد. وقوله تعالى: {والله عليم بذات الصدور} يقول: هو عالم بما في صدورهم من سرائرهم ولكن يجعلها ظاهرة عندكم، ويحتمل الابتلاء ههنا الأمر بالجهاد ليعلموا المنافق منهم من المؤمن والله أعلم.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

في ذلك أعظم الدلائل وأكبر الحجج في صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، أحدها: وقوع الأمنة مع استعلاء العدو من غير مَدَدٍ أتاهم ولا نكاية في العدو ولا انصرافهم عنهم ولا قلة عددهم، فينزل الله تعالى على قلوبهم الأَمَنَةَ، وذلك في أهل الإيمان واليقين خاصة. والثاني: وقوع النعاس عليهم في مثل تلك الحال التي يطير في مثلها النعاس عمن شاهدها بعد الانصراف والرجوع، فكيف في حال المشاهدة وقصد العدوّ نحوهم لاستئصالهم وقتلهم!. والثالث: تمييز المؤمنين من المنافقين حتى خَصَّ المؤمنين بتلك الأمنة والنعاس دون المنافقين، فكان المؤمنون في غاية الأمن والطمأنينة والمنافقون في غاية الهَلَع والخوف والقلق والاضطراب؛ فسبحان الله العزيز العليم الذي لا يضيع أجر المحسنين...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{يغشى}... {طَائِفَةً مّنكُمْ} هم أهل الصدق واليقين {وَطَائِفَةٌ} هم المنافقون {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ما بهم إلا هم أنفسهم لا هم الدين ولا هم الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان، فهم في التشاكي والتباثّ {غَيْرَ الحق} في حكم المصدر. ومعناه: يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به. و {ظَنَّ الجاهلية} بدل منه. ويجوز أن يكون المعنى: يظنون بالله ظن الجاهلية. وغير الحق: تأكيد ليظنون، كقولك: هذا القول غير ما تقول، وهذا القول لا قولك وظن الجاهلية، كقولك: حاتم الجود، ورجل صدق: يريد الظن المختص بالملة الجاهلية. ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله {يَقُولُونَ} لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه {هَل لَّنَا مِنَ الامر مِن شيء} معناه هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قط، يعنون النصر والإظهار على العدو {قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ} ولأوليائه المؤمنين وهو النصر والغلبة {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173].

{يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَالا يُبْدُونَ لَكَ} معناه: يقولون لك فيما يظهرون: هل لنا من الأمر من شيء سؤال المؤمنين المسترشدين وهم فيما يبطنون على النفاق، يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض منكرين لقولك لهم إن الأمر كله لله {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شيء} أي لو كان الأمر كما قال محمد إن الأمر كله لله ولأوليائه وأنهم الغالبون، لما غلبنا قط. ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} يعني من علم الله منه أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح لم يكن بد من وجوده فلو قعدتم في بيوتكم {لَبَرَزَ} من بينكم {الذين} علم الله أنهم يقتلون {إلى مَضَاجِعِهِمْ} وهي مصارعهم ليكون ما علم الله أنه يكون. والمعنى أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون، لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم وترغيب في الشهادة، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة. وقيل: معناه هل لنا من التدبير من شيء، يعنون لم نملك شيئاً من التدبير حيث خرجنا من المدينة إلى أحد، وكان علينا أن نقيم ولا نبرح كما كان رأي عبد الله بن أبيّ وغيره، ولو ملكنا من التدبير شيئاً لما قتلنا في هذه المعركة، قل إن التدبير كله لله، يريد أن الله عز وجل قد دبر الأمر كما جرى، ولو أقمتم بالمدينة ولم تخرجوا من بيوتكم لما نجا من القتل من قتل منكم. وقرئ: «كتب عليهم القتال». «وكتب عليهم القتل»، على البناء للفاعل. ولبرِّز، بالتشديد وضم الباء {وَلِيَبْتَلِي الله} وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص، ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان. فعل ذلك أو فعل ذلك لمصالح جمة وللابتلاء والتمحيص...

زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :

قوله تعالى: {وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} قال قتادة: أراد ليظهرها من الشك والارتياب، بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة، وإظهار سرائر المنافقين. وهذا التمحيص خاص للمؤمنين. وقال غيره: أراد بالتمحيص: إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله، ولرسوله، وللمؤمنين، فهو خطاب للمنافقين. قوله تعالى {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بما فيها...

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

{يغشى طائفة منكم} يعني المؤمنين {وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم} يعني المنافقين أراد الله يميز المؤمنين من المنافقين فأوقع النعاس على المؤمنين حتى أمنوا ولم يوقع النعاس على المنافقين فبقوا في الخوف...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يقول تعالى مُمْتَنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمَنَة، وهو النعاس الذي غشيهم وهم مسْتَلْئمو السلاح في حال هَمِّهم وغَمِّهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان كما قال تعالى في سورة الأنفال، في قصة بدر: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ]} [الأنفال: 11]...

قال البخاري: قال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، رضي الله عنه، قال: كنت فيمن تَغَشاه النعاس يوم أحُد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان أمانهم بعد انخلاع قلوبهم بعيداً، ولا سيما بكونه بالنعاس الذي هو أبعد شيء عن ذلك المقام الوعر والمحل الضنك عطف بأداة البعد في قوله: {ثم أنزل عليكم} ولما أفاد بأداة الاستعلاء عظمة الأمن، وكان متصلاً بالغم ولم يستغرق زمن ما بعده أثبت الجار فقال: {من بعد الغم} أي المذكور وأنتم في نحر العدو {أمنة} أي أمناً عظيماً، ثم ابدل منها تنبيهاً على ما فيها من الغرابة قوله: {نعاساً} دليلاً قطعياً، فإنه لا يكون إلا من أمن... ولما كان لبعضهم فقط استأنف وصفه بقوله: {يغشى طائفة منكم} وهم المؤمنون، وابتدأ الإخبار عن الباقين بقوله: {وطائفة} أي أخرى من المنافقين {قد أهمتهم أنفسهم} لا المدافعة عن الدين فهم إنما يطلبون خلاصها، ولا يجدون إلى ذلك فيما يظنون سبيلاً لاتصال رعبهم وشدة جزعهم، فعوقبوا على ذلك بأنه لم يحصل لهم الأمن المذكور، ثم فسر همهم فقال: {يظنون بالله} المحيط بصفات الكمال {غير الحق} أي من أن نصره بعد هذا لا يمكن، أو أنهم لو قعدوا في المدينة لم يقتل أحد، ونحو ذلك من سفساف الكلام وفاسد الظنون التي فتحتها لو والأوهام {ظن الجاهلية} أي الذين لا يعلمون -من عظمة الله سبحانه وتعالى بأن ما أراده كان ولا يكون غيره- ما يعلم أتباع الرسل. ثم فسر الظن بقوله: {يقولون} أي منكرين لأنه لم يجعل الرأي رايهم ويعمل بمقتضاه غشباً وتأسفاً على خروجهم في هذا الوجه وعدم رجوعهم مع ابن أبيّ بعد أن خرجوا {هل لنا من الأمر} أي المسموع، ولكون الاستفهام بمعنى النفي ثبتت أداة الاستغراق في قوله: {من شيء} فكأنه قيل: فماذا يقال لهم؟ فقيل: {قل} أي لهم رداً عليهم احتقاراً بهم {إن الأمر} أي الحكم الذي لا يكون سواه {كله لله} أي الذي لا كفوء له، وليس لكم ولا لغيركم منه شيء، شئتم أو أبيتم، غزوتم أو قعدتم، ثبتم أو فررتم. ولما قص سبحانه وتعالى عليهم بعض أمرهم في هذه الحرب، وبين لهم شيئاً من فوائد ما فعل بهم بقوله: {إن يمسسكم قرح} [آل عمران: 140] وكان من جملة ذلك ما أظهر من أسرار المنافقين بهذه الوقعة في اتهامهم الله ورسوله، حتى وصل إلى هنا، وكان قولهم هذا غير صريح في الاتهام لإمكان حمله على مساق الاستفهام أخبر سبحانه وتعالى بتدليسهم بقوله: {يخفون} أي يقولون ذلك مخفين {في أنفسهم ما لا يبدون لك} لكونه لا يرضاه الله ثم بين ذلك بعد إجماله فقال: {يقولون لو كان لنا من الأمر} أي المسموع {شيء ما قتلنا ههنا} لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدو.

ولما أخبر سبحانه وتعالى عنهم بما أخفوه جهلاً منهم ظناً أن الحذر يغني من القدر أمره سبحانه وتعالى بالرد عليهم بقوله: {قل لو كنتم في بيوتكم} أي بعد أن أجمع رأيكم على أن لا يخرج منكم أحد {لبرز الذين كتب عليهم القتل} أي في هذه الغزوة {إلى مضاجعهم} أي التي هي مضاجعهم بالحقيقة وهي التي قتلوا بها، لأن ما قدرناه لا يمكن أحداً دفعه بوجه من الوجوه، ثم عطف على ما علم تقديره ودل عليه السياق قوله: {ليبتلي} أي لبرز المذكورون لينفذ قضاؤه ويصدق قوله لكم في غزوة بدر: إن فاديتم الأسارى ولم تقتلوهم قتل منكم في العام المقبل مثلهم {وليبتلي الله} أي المحيط بصفات الكمال بهذا الأمر التقديري {ما في صدوركم} أي من الإيمان والنفاق بأن يفعل في إظهاره من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فعل المختبر كما فعل بما وجد في هذه الغزوة من الأمور التحقيقية {وليمحص ما في قلوبكم} اي يطهره ويصفيه من جميع الوساوس الصارفة عن المراقبة من محبة الدنيا من الغنائم التي كانت سبب الهزيمة وغيرها.

وختم بقوله: {والله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {عليم بذات الصدور} مرغباً ومرهباً ودافعاً لما قد يتوهم من ذكر الابتلاء من عدم العلم بالخفايا. ولما كانوا في هذه الغزوة قد حصل لهم ضرر عظيم، لكنه كان بما وقع من بعضهم من الخلل الظاهر فأدبهم بذلك، عفا عنهم سبحانه وتعالى بعد ذلك التأديب ورحمهم وطيب قلوبهم بهذه الآية بما فيها من التأمين صريحاً، وبما فيها من الإشارة بجمع جميع حروف المعجم فيها تلويحاً إلى أن أمرهم لا بد أن يتم كما تمت الحروف في هذه الآية. لكنه افتتحها بأداة التراخي إشارة إلى أنه لا يكون إلا بعد مدة مديدة حتى تصقل مرائي الصدور التي ختمها بها بخلاف ما في الآية الأخرى الجامعة للحروف في آخر سورة الفتح التي نزلت في الحديبية التي ساءهم رجوعهم منها دون وصولهم إلى قصدهم -كما يأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

الأمنة: الأمن، وهو ضد الخوف، والنعاس معروف، وهو: فتور يتقدم النوم ويظهر أثره في العينين. قرأ حمزة والكسائي:"تغشى" بالفوقية أي الأمنة، والباقون: "يغشى "بالتحتية أي النعاس، يقال غشية النعاس أو النوم كما يقال ران عليه أي: عرض له فاستولى عليه وغطاه كما يلقي الستر على الشيء. وقد تقدم في ملخص القصة ذكر هذا النعاس وأنه كان في أثناء القتال. وإنما كان مانعا من الخوف فهو ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر ولكن روي أن السيوف كانت تسقط من أيديهم. واختار الأستاذ الإمام أنه كان بعد القتال قال ما مثاله: اختلف المفسرون في وقت هذا النعاس فقال بعضهم إن ذلك كان في أثناء الواقعة وأن الرجل كان ينام تحت ترسه كأنه آمن من كل خوف وفزع إلا المنافقين فإنهم أهمتهم أنفسهم فاشتد جزعهم. وحمل بعضهم هذه الآية على آية الأنفال: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) [الأنفال: 11] وإنما هذه غزوة بدر. وقد مضت السنة في الخلق بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هولا كبيرا ومصابا عظيما فإنه يتجافى جنبه عن مضجعه ويبيت بليلة الملسوع فيصبح خاملا ضعيفا وقد كان المؤمنون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاث أضعاف سيحاربهم غدا وهو أشد منهم قوة وأعظم عدة، فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد يضربون أخماسا لأسداس، ويفكرون بما سيلاقون في غدهم من الشدة والبأس، ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس، غشيهم فناموا واثقين بالله تعالى مطمئنين لوعده، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه، فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت الحرب بل قبلها، ومثله المطر الذي أنزل عليهم عند شدة حاجتهم إليه وقد قرن ذكره به في الآية الذي ذكرتهم بعناية الله بهم في ذلك. وأما النعاس يوم أحد فقد قيل إنه كان في أثناء الحرب وقيل إنه كان بعدها وقد اتفق المفسرون وأهل السير على أن المؤمنين قد أصابهم يوم أحد شيء من الضعف والوهن لما أصابهم من الفشل والعصيان وقتل طائفة من كبارهم وشجعانهم فكانوا بعد انتهاء الواقعة قسمين: فقسم منهم ذكروا ما أصابهم فعرفوا انه كان بتقصير من بعضهم وذكروا الله ووعده بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم ووثقوا بوعد ربهم (راجع آية 135) {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله} وعلموا أنهم إن كانوا قد غلبوا في هذه المرة فإن الله سينصرهم في غيرها حيث لا يعودون إلى مثل ما وقع منهم فيها من الفشل والتنازع وعصيان قائدهم ورسولهم، فأنزل الله عليهم النعاس أمنة أو الأمنة نعاسا، حتى يستردوا ما فقدوا من القوة بما أصابهم من القرح وما عرض لهم من الضعف، والنوم للمصاب بمثل تلك المصائب نعمة كبيرة وعناية من الله عظيمة، وقد كان من أثر هذا الاطمئنان في القلوب، والراحة للأجسام والتسليم للقضاء، أن سهل على هؤلاء المؤمنين اقتفاء أثر المشركين بعد انصرافهم وعزموا على قتالهم في حمراء الأسد عندما دعاهم الرسول إلى ذلك فاستجابوا له مذعنين.

قال: واتفق الرواة أيضا على أن كثيرا منهم كانوا مثقلين بالجراح فلم يقدروا على اقتفاء أثر المشركين فذلك قوله تعالى: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} فهذه طائفة من المؤمنين الضعفاء ولا حاجة إلى جعلها في المنافقين كما قيل، فإن هؤلاء سيأتي الكلام فيهم. وما من أمة إلا وفيها الضعفاء والأقوياء في الإيمان وغيره. وقد بين ظنهم بقوله: {يقولون هل لنا من الأمر من شيء} فنلام ان ولينا وغلبنا؟ يعنون أنه ليس لهم من أمر النصر وعدمه شيء، فإنهم فهموا مما وقع يوم بدر أن النصر وحقية الدين متلازمان وعجبوا مما وقع في أحد كأنه مناف لحقية الدين، وهذا خطأ عظيم، أي فإن نصر الله لرسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا والعاقبة للمتقين.

أقول: وسيأتي بيان ما جرى عليه جمهور المفسرين مخالفا لهذا. {قل إن الأمر كله لله} لا أمر النصر وحده، أي إن كل أمر يجري بحسب سنته تعالى في خلقه نظامه الذي ربط فيه الأسباب بالمسببات ومنه نصر من ينصره من المؤمنين {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا} أي لو كان أمر النصر والظفر في أيدينا لما وقع فينا القتل ههنا، يقررون رأيهم، ويستدلون عليه بما وقع لهم، غافلين عن تحديد الآجال ولذلك أمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} أي لو كنتم وادعين في بيوتكم في سلم وأمان لخرج من بينكم من انتهت آجالهم، وثبت في علم الله أنهم يقتلون كما يثبت المكتوب في الألواح والأوراق إلى حيث يقتلون ويسقطون من البراز- الأرض المستوية- فتكون مصارعهم ومضاجع الموت لهم، فقتل من قتل لم يكن لأن الأمر ليس كله بيد الله بل لأن آجالهم قد جاءت كما سبق في علم الله.

{وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم} أي يقع ذلك لأجل أن يكون القتل عاقبة من جاء أجلهم منكم ولأجل أن يمتحن الله نفوسكم فيظهر لكم ما انطوت عليه من ضعف وقوة في الإيمان، ويطهرها حتى تصل إلى الدرجات العلى من الإيقان. وقد تقدم تفسير الابتلاء والتمحيص في هذا السياق {والله عليم بذات الصدور} أي بالسرائر والوجدانات الملازمة للصدور حيث القلوب المنفعلة بها، والمنبسطة أو المنقبضة بتأثيرها، وقد يخفى ذلك على أصحابها فينخدعون للشعور العارض لها الذي لم يرسخ بالتجارب والابتلاء كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه.

هذا وإن جمهور المفسرين قد جروا على خلاف ما اختاره الأستاذ الإمام في هذه الطائفة، فقالوا إن المراد بها المنافقون، فهم الذين كانت تهمهم أنفسهم إذ كان هم المؤمنين محصورا فيما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وما وقع لبعضهم من التقصير، وكان في غشيان النعاس ونزول الأمنة على المؤمنين من دونهم معجزة ظاهرة لأنه جاء على غير العادة، وهم الذين يظنون في الله ظن مشركي الجاهلية كظنهم أن ظهور المشركين دليل على بطلان دعوة النبي والمؤمنين. وهم الذين يخفون ما في أنفسهم ما لا يبدونه للنبي صلى الله عليه وسلم من الكفر به ويحتجون عليه بألسنتهم بما يعتذرون به عن أنفسهم.

ولكن يعارض فهمهم هذا كون الخطاب قبله وبعده للمؤمنين والكلام عن المنافقين سيأتي بعده، وكذا قوله تعالى: {وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم} فإن المصائب إنما تكون بعد الابتلاء والاختبار تمحيصا للمؤمنين كما قال: {ليمحص الله الذين آمنوا} وبأسا وضعفا للكافرين كما قال: {ويمحق الكافرين} وتقدم بيانه، إلا أن يجعلوا الخطاب بقوله: {وليبتلي} لمن خوطبوا بقوله: "ولقد صدقكم الله وعده" ودون من خوطبوا بقوله: {قل لو كنتم في بيوتكم} إن كان هذا هو الأقرب في الذكر، ولكن هذا تفكيك وتشويش لا ترضاه بلاغة القرآن.

ثم إنه قد يقال: إن ظاهر الآية فيما تحكيه عن الذين قد أهمتهم أنفسهم يوهم المحال على الوجه المختار عند الأستاذ الإمام، من أنهم ضعفاء الإيمان من المؤمنين، إذ يكون مغزى قولهم: إنه ليس لهم من الأمر من شيء عين مغزى قوله تعالى في جوابهم "إن الأمر كله لله" اعتذروا عن تقصيرهم بأنه ليس لهم من الأمر شيء، وأنه لو كان لهم منه شيء لما قتلوا هناك، يعني أن الأمر كله بيد الله وتصرف مشيئته وحده، وهذا عين الإيمان الذي يثبته القرآن، فكيف جعله من ظن الجاهلية؟ ونقول: إنه تعالى قد بين لنا ظن الجاهلية في قوله: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم ألا تخرصون} [الأنعام: 8] وقد قال قبل هذه الآية: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 107] وهو يشبه قوله لهذه الطائفة التي ظنت مثل ظنهم "إن الأمر كله لله" فالظاهر أن الذي أثبته في الموضعين هو مثل الذي أنكره عليهم وسماه ظنا لا يوثق به في هذا المقام الذي لا يقبل فيه إلا العلم اليقين. وقال في سورة يس: {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟ إن أنتم إلا في ضلال مبين} [يس: 47] فقد جعل تبرؤ الناس من الكسب والعمل واعتذارهم بمشيئة الله وتفويض الأمر إليه من شأن المشركين والكفار الذين يتخبطون في دياجي الظن ويهيمون في أودية الضلال، مع إثباته لكون الأمر كله لله وحصول كل شيء بمشيئته.

وقد نظر في كل طرف من الطرفين من رآه يوافق مذهبه حتى جعل الفخر الرازي الآية التي نحن بصدد تفسيرها هي عين ما عليه الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في مسألة أفعال العباد وجعل الحجة فيها للأشاعرة. وتحرير الكلام في هذه المسألة أنه تعالى بين لنا في كتابه ثلاث حقائق وبين لنا ضلال الذين ضلوا فيها واحتجوا بواحدة على بطلان أخرى.

الحقيقة الأولى: إنه تعالى هو خالق كل شيء الذي بيده ملكوت كل شيء وبمشيئته يجري كل شيء، فلا قاهر له على شيء وهو القاهر فوق كل شيء.

الحقيقة الثانية: إن خلقه وتدبيره إنما يجري بحسب مشيئته وحكمته على سنن مطردة ومقادير معلومة، كما أشرنا إلى ذلك في تفسير {قد خلت من قبلكم سنن} وفي تفسير كثير من الآيات التي تذكر فيها المشيئة أو السنن الإلهية.

الحقيقة الثالثة: إن في جملة سننه في خلقه وقدره في تدبير عباده أن الإنسان خلق ذا علم ومشيئة وإرادة وقدرة فيعمل بقدرته وإرادته ما يرى بحسب ما وصل إليه علمه وشعوره أنه خير له. والآيات الناطقة بأن الإنسان يعمل وبعمله تناط سعادته وشقاوته في الدنيا والآخرة كثيرة جدا. وهو ليس في ذلك معارضا لمشيئة الله ولا مزيلا لها، بل مشيئته تابعة لمشيئته الله ومظهر من مظاهرها كما قال: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} [الإنسان: 3] و [التكوير: 29] وقد جرت سنته بأن يشاء لنا أن نعمل عندما يترجح في علمنا أن العمل خير من تركه وأن نترك عندما يترجح في عملنا أن الترك خير من الفعل كما هو معلوم لكل من يعرف ما هو الإنسان.

وإننا نرى الكتاب العزيز يذكر بعض هذه الحقائق الثلاث في بعض الآيات ويسكت عن الأخرى لأن المقام يقتضي ذلك ولكل مقام مقال، ولكنه ينكر على من يجحد شيئا منها جحوده ويبين للناس خطأه وضلاله، كما بين خطأ الذين قالوا "لو شاء الله ما أشركنا" في موضع وبين خطأ من ينكر مشيئته تعالى في موضع آخر. فهو ينكر على من ينكر ما آتاه الله من المواهب والقوى ويكفر له نعمة العلم والإرادة والقدرة لا سيما في مقام الاعتذار عن تقصيره في شكر هذه القوى باستعمالها في الخير والحق، كما ينكر من يغفل عن كونه تعالى هو المنعم بهذه القوى التي يجلب بها الخير عندما تبطره النعمة فينسبها لنفسه وحده وينسى ذكر ربه وشكره. وقد جمع تعالى بين الأمرين في بعض المواضع كقوله في سورة النساء: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا} [الناس: 28-29].

وقد حرصوا بأن هذه الآيات نزلت في قوم من المسلمين آمنوا، ثم لما علموا بأنه كتب عليهم القتال ضعفوا وأنكروا وقالوا ما قالوا احتجاجا لأنفسهم واعتذارا عنها. فأجابهم تعالى مبينا لهم الحقيقة الأولى، وهي أن كل شيء من الله من حيث إنه الخالق للقوى والواضع للسنن والمقادير، ثم بين لهم الفرع الذي اقتضى المقام بيانه من فروع الحقيقة الثانية، وهو أن الحسنة التي تصيب الإنسان هي من عند الله بمعنى أنه خالقها وواضع السنن الطبيعية الاجتماعية التي يوصل بها إليها والخالق للقوى الكاسبة لأسبابها، فينبغي أن يذكر عندها ليشكر عليها وأن السيئة التي تصيبه من عند نفسه بمعنى أنه الكاسب لها والمنحرف عن سنن الله وشريعته في طريق تحصيلها، فيجب أن يرجع على نفسه باللائمة ويردها إلى التوبة.

كذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها قد جمعت بين الحقيقتين. الأولى قوله تعالى: {إن الأمر كله لله} والثانية قوله: {لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} أي لما حصل القتل الثابت في علم الله تعالى إلا ببروزهم من بيوتهم إلى مواضع القتال التي يصرعون فيها. وبروزهم هذا هي أعمالهم الاختيارية: فليس في الآية محال ولا نصر لمذهب على مذهب، وإنما هي جامعة للحقائق مستعلية على جميع المذاهب، مبطلة لكل من دعوى الجبر المحض والتعطيل المحض ودعوى الذبذبة بينهما. ويؤيد إثباتها لحقيقة عمل الإنسان واختياره الآية الكريمة التالية وهي: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا}...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها، وهرجها ومرجها، سكون عجيب. سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم، وثابوا إلى نبيهم. لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين! والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم، حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم).. وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين؛ فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين، ولو لحظة واحدة، يفعل في كيانهم فعل السحر، ويردهم خلقا جديدا، ويسكب في قلوبهم الطمأنينة، كما يسكب في كيانهم الراحة. بطريقة مجهولة الكنه والكيف! أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة. فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة! روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال:"رفعت رأسي يوم أحد، وجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس". وفي رواية أخرى عن أبي طلحة: "غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه".

أما الطائفة الأخرى؛ فهم ذوو الإيمان المزعزع، الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم، والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية، ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة، ولم يستسلموا بكليتهم لقدره، ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص، وليس تخليا من الله عن أوليائه لأعدائه، ولا قضاء منه -سبحانه- للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية. يقولون: هل لنا من الأمر من شيء؟)..

إن هذه العقيدة تعلم أصحابها -فيما تعلم- أن ليس لهم في أنفسهم شيء، فهم كلهم لله؛ وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له، ويتحركون له، ويقاتلون له، بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد، وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره، فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم، كائنا هذا القدر ما يكون. فأما الذين تهمهم أنفسهم، وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم، ومحور اهتمامهم وانشغالهم.. فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان. ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن في هذا الموضع. طائفة الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم، فهم في قلق وفي أرجحة، يحسون أنهم مضيعون في أمر غير واضح في تصورهم، ويرون أنهم دفعوا إلى المعركة دفعا ولا إرادة لهم فيها؛ وهم مع ذلك يتعرضون للبلاء المرير، ويؤدون الثمن فادحا من القتل والقرح والألم.. وهم لا يعرفون الله على حقيقته، فهم يظنون بالله غير الحق، كما تظن الجاهلية. ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه -سبحانه- مضيعهم في هذه المعركة، التي ليس لهم من أمرها شيء، وإنما دفعوا إليها دفعا ليموتوا ويجرحوا، والله لا ينصرهم ولا ينقذهم؛ إنما يدعهم فريسة لأعدائهم، ويتساءلون: (هل لنا من الأمر من شيء؟). وتتضمن قولتهم هذه الاعتراض على خطة القيادة والمعركة.. ولعلهم ممن كان رأيهم عدم الخروج من المدينة؛ ممن لم يرجعوا مع عبد الله بن أبي.. ولكن قلوبهم لم تكن قد استقرت واطمأنت..

وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم، يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه، ويرد على قولتهم: (هل لنا من الأمر من شيء؟). (قل: إن الأمر كله لله).. فلا أمر لأحد. لا لهم ولا لغيرهم. ومن قبل قال الله لنبيه بأن الإنسان يعمل وبعمله تناط سعادته وشقاوته في الدنيا والآخرة (ليس لك من الأمر شيء). فأمر هذا الدين، والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض، وهداية القلوب له.. كلها من أمر الله، وليس للبشر فيها من شيء، إلا أن يؤدوا واجبهم، ويفوا ببيعتهم، ثم يكون ما يشاءه الله كيف يكون! ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم: (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك).. فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس، حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات؛ وسؤالهم: (هل لنا من الأمر من شيء).. يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه! وأنهم ضحية سوء القيادة، وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير. (يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا).. وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة، حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة، وحينما تعاني آلام الهزيمة! حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن؛ وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع؛ وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحا ولا مستقرا؛ وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي القى بها في هذه المهلكة، وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها! وهي لا يمكن -بهذا الغبش في التصور- أن ترى يد الله وراء الأحداث، ولا حكمته في الابتلاء. إنما المسألة كلها -في اعتبارها- خسارة في خسارة! وضياع في ضياع! هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله. لأمر الحياة والموت. ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء: (قل: لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. وليبتلي الله ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، والله عليم بذات الصدور) قل لو كنتم في بيوتكم؛ ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة، وكان أمركم كله لتقديركم.. لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم.. إن هنالك أجلا مكتوبا لا يستقدم ولا يستأخر. وإن هنالك مضجعا مقسوما لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه! فإذا حم الأجل، سعى صاحبه بقدميه إليه، وجاء إلى مضجعه برجليه، لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم، ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم! ويا للتعبير العجيب.. "إلى مضاجعهم".. فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب، وتسكن فيه الخطى، وينتهي إليه الضاربون في الأرض.. مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه، إنما هو يدركهم ويملكهم؛ ويتصرف في أمرهم كما يشاء. والاستسلام له أروح للقلب، وأهدأ للنفس، وأريح للضمير! إنه قدر الله. ووراءه حكمته: (وليبتلي الله ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم).. فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور، ويصهر ما في القلوب، فينفي عنها الزيف والرياء، ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء.. فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور، ليظهر على حقيقته، وهو التطهير والتصفية للقلوب، فلا يبقى فيها دخل ولا زيف. وهو التصحيح والتجلية للتصور؛ فلا يبقى فيه غبش ولا خلل: (والله عليم بذات الصدور). وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور، المختبئة فيها، المصاحبة لها، التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور! والله عليم بذات الصدور هذه. ولكنه -سبحانه- يريد أن يكشفها للناس، ويكشفها لأصحابها أنفسهم، فقد لا يعلمونها من أنفسهم، حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمعنى ثمّ أغشاكم بالنعاس بعد الهزيمة. وسمّي الإغشاء إنزالاً لأنّه لمّا كان نعاساً مقدّراً من الله لحكمة خاصّة، كان كالنازل من العوالم المشرّفة كما يقال: نزلت السكينة.

والأمَنةُ بفتح الميم الأمن، والنعاس: النوم الخفيف أو أوّل النَّوم، وهو يزيل التعب ولا يغيّب صاحبه، فلذلك كان أمنة إذ لو ناموا نوماً ثقيلاً لأخذوا... وقد استجدّوا بذلك نشاطهم، ونسوا حزنهم، لأنّ الحزن تبتدئ خفّته بعد أوّل نومة تعفيه، كما هو مشاهد في أحزان الموت وغيرها. و (نعاساً) بَدل على (أمنة) بدل مطابق. وكان مقتضى الظاهر أن يقدّم النعاس ويؤخّر أمنة: لأنّ أمنة بمنزلة الصفة أو المفعول لأجله فحقّه التقديم على المفعول كما جاء في آية [الأنفال: 11]: {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} ولكنّه قدّم الأمنة هنا تشريفاً لشأنها لأنَّها جعلت كالمنزل من الله لنصرهم، فهو كالسكينة، فناسب أن يجعل هو مفعول أنزل، ويجعل النعاس بدلاً منه...

لمّا ذكر حال طائفة المؤمنين، تخلّص منه لذكر حال طائفة المنافقين... ومعنى {أهمتهم أنفسهم} أي حَدّثتهم أنفسهم بما يدخل عليهم الهَمّ وذلك بعدم رضاهم بقدر الله، وبشدّة تلّهفهم على ما أصابهم وتحسّرهم على ما فاتهم مِمّا يظّنونه منجياً لهم لو عملوه: أي من الندم على ما فات، وإذ كانوا كذلك كانت نفوسهم في اضطراب وتحرّق يمنعهم من الاطمئنان ومن المنام، وهذا كقوله الآتي: {ليجعل اللَّه ذلك حسرة في قلوبهم} [آل عمران: 156]. وقيل معنى {أهمّتهم} أدخلت عليهم الهَمّ بالكفر والارتداد...

ومعنى {يظنون بالله غير الحق} أنَّهم ذهبت بهم هواجسهم إلى أن ظنوا بالله ظنوناً باطلة من أوهام الجاهلية. وفي هذا تعريض بأنَّهم لم يزالوا على جاهليتهم لم يخلصوا الدين لله، وقد بيّن بعض ما لهم الظنّ بقوله: {يقولون هل لنا من الأمر من شيء} وهل للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، بقرينة زيادة (من) قبل النكرة، وهي من خصائص النفي، وهو تبرئة لأنفسهم من أن يكونوا سبباً في مقابلة العدوّ. حتَّى نشأ عنه ما نشأ، وتعريض بأنّ الخروج للقتال يوم أحُدُ خطأ وغرور، ويظنّون أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول إذ لو كان لكان مؤيّداً بالنصر... والمراد بالأمر هنا شأن الخروج إلى القتال، والأمر بمعنى السيادة الذي منه الإمارة، ومنه أولو الأمر...

ومعنى {لو كان لنا من الأمر شيء} أي من شأن الخروج إلى القتال، أو من أمر تدبير النَّاس شيء، أي رأي ما قتلنا ههنا، أي ما قتل قومنا. وليس المراد انتفاء القتل مع الخروج إلى القتال في أحُدُ، بل المراد انتفاء الخروج إلى أحُدُ الَّذي كان سبباً في قتل من قُتل، كما تدلّ عليه قرينة الإشارة بقوله: (ههنا)، فالكلام كناية... وإنَّما كان هذا الظنّ غيرَ الحقّ لأنَّه تخليط في معرفة صفات الله وصفات رسوله وما يجوز وما يستحيل، فإنّ لله أمراً وهدياً وله قدَر وتيسير، وكذلك لرسوله الدعوة والتشريع وبذل الجهد في تأييد الدّين وهو في ذلك معصوم، وليس معصوماً من جريان الأسباب الدنيوية عليه، ومن أن يكون الحرب بينه وبين عدوّه سجالاً، قال أبو سفيان لهرقل وقد سأله: كيف كان قتالكم له؟ فقال أبو سفيان: ينال منّا وننال منه، فقال هرقل: وكذلك الإيمان حتَّى يتمّ. فظنّهم ذلك ليس بحقّ. وقد بيّن الله تعالى أنَّه ظنّ الجاهلية الَّذين لم يعرفوا الإيمان أصلاً فهؤلاء المتظاهرون بالإيمان لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقيت معارفهم كما هي من عهد الجاهلية، والجاهلية صفة جرت على موصوف محذوف يقدّر بالفئة أو الجماعة، وربما أريد به حالة الجاهلية في قولهم أهل الجاهلية، وقوله تعالى: {تبرّج الجاهلية الأولى}، والظاهر أنَّه نسبة إلى الجاهل أي الَّذي لا يعلم الدين والتَّوحيد، فإنّ العرب أطلقت الجهل على ما قابل الحلم...

وأحسب أن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن، وصف به أهل الشرك تنفيراً من الجهل، وترغيباً في العلم، ولذلك يذكره القرآن في مقامات الذمّ في نحو قوله: {أفحكم الجاهلية يبغون} [المائدة: 50] {ولاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الجاهليّة الأولى} [الأحزاب: 33] {إذ جعل الَّذين كفروا في قلوبهم الحَمِيَّة حَمِيَّة الجَاهلية} [الفتح: 26]. وقال ابن عبَّاس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأساً دِهاقاً، وفي حديث حكيم بن حِزام: أنَّه سأل النَّبيء صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يتحنّث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم. وقالوا: شعر الجاهلية، وأيَّامُ الجاهلية. ولم يسمع ذلك كُلّه إلاّ بعد نزول القرآن وفي كلام المسلمين.

وقوله: {غير الحق} منتصب على أنَّه مفعول {يظنّون} كأنَّه قيل الباطلَ. وانتصب قوله: {ظن الجاهلية} على المصدر المبيّن للنوع إذ كلّ أحد يعرف عقائد الجاهلية إن كان متلبِّساً بها أو تاركاً بها. وجملة {يخفون} حال من الضّمير في {يقولون} أي يقولون ذلك في حال نيّتهم غيرَ ظَاهِرِه، ف {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك} إعلان بنفاقهم، وأنّ قولهم: {هل لنا من الأمر من شيء} وقولهم: {لو كان من الأمر شيء ما قتلنا ههنا} هو وإن كان ظاهره صورة العتاب عن ترك مشورتهم فنِيَّتهم منه تخطئة النَّبيء في خروجه بالمسلمين إلى أُحُد، وأنَّهم أسدّ رأياً منه.

وجملة {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء} بدل اشتمال من جملة {يخفون في أنفسهم} إذ كانوا قد قالوا ذلك فيما بينهم ولم يظهروه، أو هي بيان لجملة {يقولون هل لنا من الأمر من شيء} إذا أظهروا قولهم للمسلمين، فترجع الجملة إلى معنى بدل الاشتمال من جملة {يظنّون} لأنها لما بينت جملة هي بدل فهي أيضا كالتي بينتها، وهذا أظهر لأجل قوله بعدَه: {قل لو كنتم في بيوتكم} فإنَّه يقتضي أنّ تلك القالة فشت وبلغت الرسولَ، ولا يحسن كون جملة {يقولون لو كان} إلى آخره مستأنفة خلافا لما في « الكشاف». وهذه المقالة صدرت من مُعَتِّب بن قُشير قال الزبير بن العوّام: غشيني النُّعاس فسمعت معتّب بن قشير يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا. فحكى القرآن مقالته كما قالها، وأسندت إلى جميعهم لأنَّهم سمعوها ورضوا بها. وجملة {قل إن الأمر كله لله} ردّ عليهم هذا العذر الباطل أي أنّ الله ورسوله غير محتاجين إلى أمركم. والجملة معترضة...

{قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ}. لقن الله رسوله الجواب عن قولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا. والجواب إبطال لقولهم، وتعليم للمؤمنين لدفع ما عسى أن يقع في نفوسهم من الريب، إذا سمعوا كلام المنافقين، أو هو جواب للمنافقين ويحصل به علم للمؤمنين. وفُصلت الجملة جرياً على حكاية المقاولة كما قرّرنا غير مرّة. وهذا الجواب جار على الحقيقة وهي جريان الأشياء على قَدر من الله والتسليمِ لذلك بعد استفراغ الجهد في مصادفة المأمول، فليس هذا الجواب ونظائره بمقتض ترك الأسباب، لأنّ قدر الله تعالى وقضاءه غير معلومَين لنا إلاّ بعد الوقوع، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفاً عن مصادفة قدر الله لمأمولنا، فإن استفرغنا جهودنا وحُرمنا المأمول، علمنا أنّ قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا. فأمَّا ترك الأسباب فليس من شأننا، وهو مخالف لما أراد الله منّا، وإعراض عمّا أقامنا الله فيه في هذا العالم وهو تحريف لمعنى القدَر. والمعنى: لو لم تكونوا ههنا وكنتم في بيوتكم لخرج الَّذين كتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقتلوا في مضاجعهم الَّتي اضطجعوا فيها يوم أُحُد أي مصارعهم فالمراد بقوله: {كتب} قدّر، ومعنى {برز} خرج إلى البراز وهو الأرض...

والمضاجع جمع مضجع بفتح الميم وفتح الجيم وهو محلّ الضجوع، والضجوع: وضع الجنب بالأرض للراحة والنَّوم، وفعله من باب منع ومصدره القياسي الضجْع، وأمَّا الضجوع فغير قياسي، ثمّ غلب إطلاق المضجع على مكان النَّوم قال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [السجدة: 16] وفي حديث أمّ زرع: « مَضْجَعه كمَسلّ شَطْبَة» فحقيقة الضجوع هو وضع الجنب للنَّوم والراحة وأطلق هنا على مصارع القتلى على سبيل الاستعارة، وحسّنها أنّ الشهداء أحياء، فهو استعارة أو مشاكلة تقديرية لأنّ قولهم، ما قُتلنا ههنا يتضمَّن معنى أنّ الشهداء كانوا يَبْقون في بيوتهم متمتَّعين بفروشهم...

والصّدُور هنا بمعنى الضّمائر، والابتلاءُ: الاختبار، وهو هنا كناية عن أثره، وهو إظهاره للنَّاس والحجّة على أصحاب تلك الضّمائر بقرينة قوله: {والله عليم بذات الصدور} كما تقدّم في قوله تعالى: {وليعلم اللَّه الذين ءامنوا} [آل عمران: 140]. والتمحيص تخليص الشيء ممَّا يخالطه ممَّا فيه عيب له فهو كالتزكية. والقلوب هنا بمعنى العقائد، ومعنى تمحيص ما فيه قلوبهم تطهيرها ممَّا يخامرها من الريب حين سماع شُبه المنافقين الّتي يبثُّونها بينهم. وأطلق الصدور على الضّمائر لأنّ الصدر في كلام العرب يطلق على الإحساس الباطني، وفي الحديث: « الإثم ما حاك في الصّدر» وأطلق القلب على الاعتقاد لأنّ القلب في لسان العرب هو ما به يحصّل التفكّر والاعتقاد. وعُدّي إلى الصّدور فعل الابتلاء لأنَّه اختبار الأخلاق والضّمائر: ما فيها من خير وشَرّ، وليتميّز ما في النفس. وَعُدِّيَ إلى القلوب فعل التمحيص لأنّ الظنون والعقائد محتاجة إلى التمحيص لتكون مصدر كلّ خير.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

الآية الكريمة موصولة بما قبلها، فهي تبين ما أصاب القلوب التي توهمت أنها انهزمت بعد موقعة أحد، وقد بين في الآيات السابقة أنها أصابها غم كان كثيفا على النفوس، وفي هذه الآية يبين ما حدث بعد الغم، فذكر سبحانه أن قلوب المؤمنين بعد هذا الغم اعتراها الاطمئنان إلى قدر الله تعالى المقدور، وثقتهم في المستقبل تحقيقا لوعده بنصر عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم والاطمئنان هو سبيل التدبير المحكم، والقلق لما كان في الماضي يجعل العقل مأخوذا بحوادثه فلا يفكر ولا يدبر، ولا يتحفز ويتوثب للمقاتلة مرة أخرى، ولقد قال تعالى في وصف حال المؤمنين التي أفاضها عليهم بعد الغم المتولي: {ثم انزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم} أمنة:مصدر بمعنى المن، وقرئ (أمْنة) -بتسكين الميم- وهي مصدر بمعنى المرة من الأمن، وقد بين سبحانه نوع الأمن أو مظهره، بقوله: {نعاسا يغشى طائفة منكم} والنعاس: فتور مع استراحة من غير فزع ولا قلق، وهو النوم الهادئ، ومعنى يغشى: يغطى، أي أنه يغطي الحس، ويستر الإدراك والتنبه، والمعنى أنه سبحانه وتعالى أفاض وأنزل بعد الغم الذي غمر النفوس بالألم أمنا كان مظهره نعاسا اطمأنت فيه النفوس واسترخت الأعضاء واستسلمت لمقادير الله تعالى وإرادته في خلقه ونصره دينه، مطرحين الماضي مكتفين منه بالعبرة ومتخذين منه نورا يضيئ للمستقبل بخطئه وبصوابه...

وتلك الطائفة التي غشيها النعاس واطمأنت بعد الاضطراب، وآمنت بأن ما كان بخطأ من بعضهم، وأنه عبرة لأولي الأبصار- هم المؤمنون الصادقو الإيمان، الذين يريدون ما عند الله تعالى، ولا يبتغون غير رضاه، ولقد اعتبرهم القرآن وحدهم الأهل للخطاب، لأنهم هم الذين يعدون ذخيرة المستقبل، وجند الله الغالب، ولذلك قال: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة}. وإن أمنهم ونومهم مع أن الجراح قد أثقلتهم، والاضطراب كان قد أذهلهم، دليل على عمران قلوبهم بذكر الله وصدق وعده: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب28} [الرعد].

والطائفة التي لم تكن على هذه القوة والإيمان ذكرها سبحانه على أنها خارجة على الخطاب، وكأنها ليست من المؤمنين فقال تعالى: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية}. لأن نسق الآية يومئ إلى أنها بعيدة عن الخطاب...

ولقد وصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء بأنهم أهمتهم أنفسهم، وبأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وكلمة "أهم "مأخوذ من الهم. والهم: ما يهم به الإنسان، وما يحزنه، يقال: همني الأمر بمعنى: أذابني من الحزن، ومعنى أهمتهم أنفسهم، وجعلتهم لا يجعلون لهم أمرا يهتمون به سواها، فلا يهمهم شأن الإسلام، انتصر أو انهزم، ولا شأن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، بل الذي يهمهم وحده هو أنفسهم، أو يكون المعنى: أوقعوا انفسهم في الهم والحزن بعدم اطمئنانهم وعدم صبرهم وجزعهم المستمر. وإن المرء إذا لم يكن له تفكير إلا في نفسه، ولا يهمه شيء سواها، أضفى عليها المعاذير إذا قصرت، وجعل السبب من غيرها لا منها، ومن هنا يجيئ الوصف الثاني، وهو {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} والظن هنا ليس هو الاعتقاد الجازم، بل هو الوهم الملازم للضعف، المسيطر على النفس، وقوله: {غير الحق} مفعول مطلق وصف لمصدر محذوف، والمعنى يظنون ويتوهمون بالله ظنا ليس هو الحق، ولا الذي يجب أن يظن بالله تعالى، وهو العدل والمعاونة الصادقة، والتأييد عند الثبات، وقد بين سبحانه وتعالى ذلك الظن غير الحق والذي لا ينبغي أن يظن بالله تعالى، بينه بطريق عطف البيان، أو البدل المبين فقال: {ظن الجاهلية} وشأن أهل الجاهلية أن يطرحوا عن أنفسهم التبعات، ويدعوا ألاَّ مسئولية عليهم، وأن الأمر للمقادير وحدها إذ كانت النتيجة على غير ما يبغون.

ولذا قال سبحانه في تفسير ظن الجاهلية: {يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله}. هذا القول هو مظهر الظن الباطل الذي ظنوه بالله سبحانه وتعالى: والاستفهام هنا استفهام إنكاري، بمعنى النفي المطلق الشامل، والمعنى: ليس لنا من الأمر شيء، أي شيء، فلسنا مسئولين عن الهزيمة عن انهزمنا، إنما الأمر كله لله تعالى، فأمر النصر والهزيمة بيده، وقد وعدنا بالنصر ولم ننتصر، فهم يلقون عن أنفسهم كل تبعة وكل مسئولية. وإن هذا إنكار للأسباب، وظن جاهلي؛ لأن الجاهلي إذا انتصر فرح وأشر وبطر، وأصابته عزة النصر غير ملتفت إلى إرادة غير إرادته، وإن أصابته كارثة حسبها من المقادير ملقيا عن نفسه كل تبعة،

وقد رد سبحانه وتعالى وهمهم بأن أمر النبي بقوله: {قل إن الأمر كله لله} أي إن تقدير الأمور كلها لله سبحانه وتعالى، لا أمرا النصر والهزيمة، فكل شيء عنده بمقدار، ولكنه سبحانه وتعالى خلق كل شيء بحكمته ومشيئته وإرادته وحده، وهو الذي قدر الأسباب ومسبباتها، وربط بين الأفعال ونتائجها، فمن اختلفوا ولم يطيعوا قائدهم، وأقدموا على الغنائم في غير الوقت المعلوم فلا بد أن يحدث عن فعلهم الهزيمة والاضطراب، لأن هذا هو النظام الذي سنه رب البرية في الارتباط بين الأسباب ومسبباتها، فكون الأمر كله لله لا ينفي عنكم التبعة، بل يؤكدها وقوله تعالى: {قل إن الأمر كله لله} جملة سامية معترضة بين متلازمين، وهو قولهم: {هل لنا من الأمر من شيء} وقوله تعالى من بعد ذلك: {يخفون في انفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا}. ظاهر الجملة السابقة أنهم يلقون عن أنفسهم التبعة بتقرير أن أمر النصر بيد الله تعالى، وأنه قد حرمهم منه، وفي هذه الجملة يبين الله سبحانه وتعالى أن لهم غاية يقصدون إليها من وراء هذه الجملة، وهو إثبات أن الذي كان سبب قتلهم ووقوع الهزيمة عليهم هو خروجهم على هذا المكان، ولو بقوا في أماكنهم بالمدينة ما قتلوا...

{قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل على مضاجعهم} أي ان الله سبحانه قدر الأمور تقديرا، ولكل أجل كتاب، فأولئك الذين كتب عليهم أن يقتلوا في الميدان، لا بد أن يقتلوا، فلو كنتم في بيوتكم، لخرجوا إلى الأماكن التي قتلوا فيها وقتلوا، ومعنى "برز" أي: خرج من مكمنه المستور الذي لا يظن الخروج منه، والمضاجع جمع مضجع، وهو مكان النوم، والمراد هنا مكان قتلهم الذي قتلوا فيه وصرعوا وناموا إلى يوم البعث والنشور؛ وهو المكان الذي خرجوا إليه في أحد وماتوا فيه، وفي هذا يدعوهم رب البرية أن يستسلموا لحكمه، ويخضعوا لقدره، ويرضوا به، ويطمئنوا إليه؛ لأن الاطمئنان إلى القدر بعد أخذ الأسباب رضا بحكم الله وقبول لإرادته في خلقه، وعدم الرضا بالقدر تمرد على الخالق، وانزعاج نفسي لا علاج له؛ وإذا كان من الناس من يعيب الرضا بالقدر فهي نزعة إلحاد في النفس، والذين يشكون من المقادير، ويتمردون عليها لا يرضون برب المقادير حكما عدلا وهو اللطيف الخبير، السميع البصير، والرضا بالقدر يلقي في النفس بالاطمئنان والصبر والرضا والقدرة على الاحتمال، والاستعداد للقابل وعدم الالتفات إلى الوراء، فمن لا يؤمن بالقضاء قصير النظر، ومن يؤمن به متجدد الفكر؛ نظره إلى الأمام دائما.

ثم قال سبحانه: {وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم}. الواو هنا عاطفة؛ والمعطوف عليه فعل دل عليه ما طوي في الكلام السابق، من معنى الدعوة إلى الصبر والاطمئنان والاستجابة للدعوة، لتتعودوا الصبر والاطمئنان والاستجابة للدعوة، ولتتعودوا أن الحياة قد اختلط حلوها بمرها، وليبتليكم. ومعنى قوله سبحانه: {وليبتلي الله ما في صدوركم} يعاملكم كعاملة المختبر لنفوسكم، فيظهر ما تنطوي عليه، فيعالج هذه الأوزار التي تظهر بما يذهب بوضرها ويوجهها نحو الخير، ومعنى يمحص قلوبكم: يزيل ما عساه يعلق بها من أدران، ويطهرها مما يخالطها من ريب يحدث من الشدائد؛ وذلك لأن محص ومحض في أصل معناهما: تخليص الذهب مما يختلط به من مواد غريبة عنه. وخلاصة معنى النص الكريم: نزل بكم ما نزل لتتعودوا تحمل الشدائد والمحن، وليظهر الله ما في صدوركم فيصلحها، ويخرج من قلوبكم ما يخالط الإيمان من بعض الأوهام.

{والله عليم بذات الصدور} وهو إذ يفعل ذلك يعلم بما في صدوركم، يعلم ما يخالطها وما توسوس به ويعلم مواضع أدوائها، وما تنطوي عليه نفوس الأبرار الأقوياء، ونفوس الضعفاء ونفوس الأشرار، وقد أكد سبحانه وتعالى علمه بخفايا النفوس، بثلاثة تأكيدات: التأكيد الأول-التعبير بالجملة الاسمية، والثاني- التعبير بوصف عليم، فهو يعلم صغائر الأمور وجليلها، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، والثالث- التعبير بذات الصدور، فهذا من قبيل ما يشبه التأكيد المعنوي، فمعناه يعلم الصدور ذاتها، فلا يقتصر علمه على ما في الوعاء، بل يعلم الوعاء ذاته.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}. فكأنك أيها الميت قد تكون أَحْرَص على لقاء الموت من حِرْص الموت عليك... {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} والذي يبرز إلى المضجع هو من يخرج من مكان الاستقرار، وإلاّ فكيف يكون الابتلاء لمن يقدر الله سبحانه أن يحملوا معركة الإسلام إلى أن تقوم الساعة إذا لم تكن هذه المسائل؟ لا بد أن يكونوا قوماً قد عركتهم التجربة، مُمحصين بالأحدث حتى لا يكون مأموناً على حمل السلاح في الإسلام إلا هؤلاء الصفوة المختارة. فساعة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج، وينتهي إلى أن يخرج إلى أحُد، نجد جماعة يتخاذلون بوساطة ابن أبي، هذه أول تصفية، وبعد ذلك ينقسم الرُماة، وهذه تصفية أخرى، فريق يظل وفريق ينزل للغنائم، وبعد ذلك يُشَاع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قُتل، هذه تصفية ثالثة. {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وكلمة "ذات الصدور "معناها صاحبة الصدور. وفي الصدر يحرص الإنسان على إخفاء الأمر الذي يحب أن يحتفظ به لنفسه بِحرْص كحرص الصاحب على صاحبه، كأن الصدر حريص على ألا يسلم ما فيه، ولكن الله سبحانه وتعالى يفضحهم أمام الناس، ويفضحهم أمام نفوسهم؛ فقد يجوز أن يكونوا مغشوشين في نفوسهم.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

الفئة المؤمنة تأخذ دروساً: [ثُمَّ أنزل عليكم من بعد الغمِّ أمنةً نعاساً يغشى طائفةً منكم] وعاد البعض إلى رسول اللّه، وهم يعيشون هذه الصدمة الكبيرة، ويقارنون بين أسباب الهزيمة ونتائجها، وشعروا بالتقصير والندم، وبدأوا في التخطيط لحسابات المستقبل. وكان لا بُدَّ من حالة استرخاء يستريحون فيها من متاعب المعركة وانفعالات الندم، ليملكوا زمام تفكيرهم، فألقى عليهم النعاس ليعيشوا الإحساس بالأمن والطمأنينة، فتتجدّد لهم طاقاتهم التي أتعبها الجهد، وتصفو أفكارهم التي كدرها الألم، وترتاح أعصابهم التي أرهقها الانفعال، فغابوا في سباتٍ عميق يفصلهم عن كلّ هذه الأجواء الخانقة من التوتر والرُّعب والانفعال... وتلك هي الفئة المؤمنة التي لا تفقد صوابها، ولا ترتاب في إيمانها، ولا تتزلزل في مواقفها أمام الصدمات والتحدِّيات والهزائم، بل تقف من جديد، لتفكّر في المستقبل من خلال دروس الحاضر، ولتواصل المسيرة وتعتبر أنَّ كلّ ما حدث ما هو إلاَّ تجربة وامتحان واختبار قد يفشل الإنسان فيه وقد ينجح. ولكن القضية في كلا الحالين تمثِّل العبرة التي يستفيد منها الفاشل كيف يتفادى الفشل في المستقبل، ويتعلّم منها الناجح كيف يمكن أن يستزيد من فرص النجاح في الحياة. النموذج الفاشل والهموم الذاتية.

[وطائفةٌ قد أهمَّتهُم أنفُسُهُم] وهناك طائفة أخرى قد أهمَّتهُم أنفسهم، فهي المحور الذي يدورون حوله في حركة الحياة، فهم يفكّرون في سلامتها وراحتها بعيداً عن أي هدف كبير يدفع الإنسان إلى الجهد والتعب والتضحية؛ فإذا فكروا بالنصر في معركة ما، فإنَّهم يفكّرون فيه من حيث هو وسيلة للحصول على الغنائم والأسلاب، وإذا فكروا بالهزيمة، فإنَّهم يتفادونها لأنَّها تمثِّل خطّاً أسود في تاريخ حياتهم الذاتي، وموقفاً يسيء إلى بعض الأنانية الذاتية في مواقعهم العامّة. وهكذا يختنقون في سجن الذات، فلا يتنفسون هواء الإنسانية الممتد في رحاب اللّه، وعلى أساس هذا المحور الذي تدور حياتهم حوله، فإنَّهم [يظنُّون باللّه غير الحقِّ ظنَّ الجاهلية] فلا يستسلمون له استسلام العبد الواثق بربِّه المطيع له، العالم بأنَّ اللّه لا يريد به إلاَّ الخير، وأنَّ الشرّ عندما يطوف بحياة الإنسان، فإنَّما هو امتحان واختبارٌ منه سبحانه له؛ بل كلّ ما عندهم هو أن يمنحهم اللّه الخير والرزق والبركة، فإذا منع ذلك عنهم تمرّدوا وانحرفوا، فهم لا يتصوّرون اللّه إلاَّ من خلال منافعهم، كما أنَّهم يعملون على إثارة الشك والريب بالنبيّ وبالإسلام إذا عرضت بعض الانتكاسات في ساحة السلم أو الحرب، انطلاقاً من الفكرة الخاطئة التي يعتنقونها في مرادفة النصر للحقّ، والهزيمة للشك والريب والتزلزل...

وهكذا كانت ظنونهم منطلقةً في الاتجاه المادي للحياة، وهذا من ظنون الجاهلية التي تبتعد عن الحقّ في خطّها الفكري وتصوّرها عن اللّه والكون والإنسان، لأنَّ التصوّر الحقّ، هو أنَّ اللّه يجري الأمور على أساس سننه الحتمية التي ترتكز على قاعدة أساسية، وهي ملاحظة المصلحة العميقة للإنسان على مستوى الامتداد الشامل لجوانب حياته، فقد تكون هناك مصلحة في إثارة العقبات أمام شخص أو جماعة، من أجل أن يكون ذلك وسيلة من وسائل تقوية المواقف وتركيز الشخصية ونضوج التجارب، وقد تكون المتاعب في البداية سبيلاً للحصول على الراحة في النهاية مما لا يحيط بعلمه إلاَّ اللّه الذي عنده [مفاتح الغيب لا يعلمها إلاَّ هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقةٍ إلاَّ يعلمها ولا حبةٍ في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابس إلاَّ في كتاب مبين] (الأنعام: 59). [يقولون هل لنا من الأمر من شيء] إنَّهم يثيرون هذا التساؤل أمام نتائج المعركة، ليسجلوا نقطةً على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما انطلقوا في خطّ المعركة ولم يستمعوا إلى النصائح التي كان يقدّمها رأس النفاق في المدينة في عدم الخروج إلى القتال، فكأنَّهم يقولون إنَّه لا رأي لمن لا يُطاع، من أجل التخلص من تحمّل نتائج العمل في طبيعة المسؤولية، لأنَّهم لم يشاركوا في اتخاذ القرار، ولولا الإحراج الذي واجهوه من قومهم ومن النبيّ لما شاركوا في الحرب.

ويأتي الجواب حاسماً: [قل إنَّ الأمر كلّه للّه] فماذا يمثِّل هؤلاء ليكون لهم الأمر كلّه؟! إنَّهم لا يمثِّلون شيئاً في حجم القوّة والعلم والحركة، بل إنَّ الأمر للّه، فهو الذي يخطّط ويدبّر ويأمر وينهى ويوجه رسوله والمؤمنين نحو الوقوف في وجه الكفر والطغيان، وهو الذي يعرف ما يصلحهم وما يفسدهم، وما يضرهم وما ينفعهم، لأنَّ ذلك كلّه بيده، فهو الذي يملك الأمر كلّه، وإذا أراد شيئاً فلا بُدَّ من الخضوع والطاعة والانقياد أمام إرادته.

[يُخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك] فقد دخلوا المعركة بقلب مغلق ينطوي على الشك والريب والنفاق، ولم يدخلوها بقلبٍ مفتوح ينفتح على اللّه في صراحةٍ صافيةٍ تعرف ماذا تريد، وتصارح الأخرى بكلّ شيء، حتّى لا تعيش الزيف باسم الإخلاص، ولا تتحرّك في الشك باسم اليقين؛ ولذلك فإنَّهم يضمرون لك يا محمَّد الكيد والمكر والمعصية، ويظهرون لك الطاعة والخير والإخلاص.

[يقولون لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قُتلنا ها هنا] فهم يعتبرون أنفسهم قادرين على تغيير مسير المعركة في جميع نتائجها، أو بالأحرى قادرين على التحكم في مصير حياة أنفسهم وموتها، فلو ترك لهم الأمر، ولم تفرض عليهم الضغوط، لكانوا في بيوتهم التي خرجوا منها في المدينة، ولما تعرّضوا للخطر الذي تعرّضوا له الآن. وربَّما كان مرادهم أنَّهم لو كانوا كمسلمين على الحقّ لانتصروا وكسبوا المعركة ولم يخسروا ما خسروه من أرواح وأموال، كأنَّهم يريدون أن يبثّوا الريب والشك في الإسلام نفسه، وفي نبوّة النبيّ محمَّد صلى الله عليه وسلم. ولكن اللّه سبحانه يواجههم بالحقيقة الكونية التي لا تجعل قضية الحياة والموت خاضعة لاختيار الإنسان بجميع أبعادها، بل هناك أوضاع وظروف قد تقود الإنسان إلى نهايته بعيداً عن جانب الرغبات الذاتية، لأنَّ اللّه سبحانه لم يجعل الآجال تابعة دائماً لعنصر الاختيار، فربَّما تتدخل فيها بعض العوامل غير الاختيارية.

[قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم] انطلاقاً من الأجواء الداخلية أو الخارجية التي تبعث في داخلهم الرغبة في الخروج تحت تأثيرات غامضةٍ، كما لو كانت هناك قوّة خفية تسيطر عليهم وتدفعهم إلى مصيرهم المحتوم، فلا مجال بعد ذلك للتعلّل ببعض الجوانب الذاتية الخاصّة. مفهوم الابتلاء في الإسلام: [وليبتلي اللّه ما في صدوركم] ويختبركم بإظهار ما تخفونه من نوايا سيئة، حتّى لا ينخدع النَّاس بالجانب الظاهري من حياة الآخرين، فيستسلموا للخديعة في علاقتهم ببعضهم البعض. [وليُمحِّص ما في قلوبكم] وتلك هي فائدة المحن والنكبات التي تحدث للإنسان، فإنَّها تمحِّص ما في قلبه، فتعزل الخبيث عن الطيب، وتكشف الإيمان الثابت من الإيمان الطارئ المستودع.

[واللّه عليمٌ بذات الصُّدور] فلا يحتاج في معرفته بدخائل النَّاس إلى دليل، لأنَّه المحيط بالأشياء الخفيّة من نوايا الإنسان، كما هو محيط بالأشياء الظاهرة منها... وهذا هو المفهوم الإسلامي للابتلاء الذي يبتلي به اللّه عباده، فليس هو في جميع مظاهره نقمةً وعذاباً، بل قد يكون رحمةً يبني بها اللّه للإنسان شخصيته الصلبة من خلال المعاناة التي يُعانيها أمام البلاء، كما يكشف له طبيعة المشاعر والأحاسيس والأفكار التي تعيش في داخله، فيكتشف الزيف من الإخلاص، ويعرف الأشياء العميقة في داخل كيانه من الأشياء الطافية على السطح. وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل الدعوة إلى اللّه وفي حقل التربية الإسلامية أن يواجهوه في ما يخوضونه من تحدِّيات، وما يواجهونه من عقبات وصراعات، وما يدفعون إليه العاملين الآخرين من مهمّات ومسؤوليّات، فقد يكون من الأفضل أن لا ينهزموا أمام المصاعب، وأن لا يتعقدوا منها. كما قد يكون من الخير لهم أن يوكلوا إلى العاملين معهم بعض القضايا التي تثير المتاعب والمشاكل في بعض مراحل الطريق من أجل بناء شخصيتهم الإسلامية بالصدمات القوية التي توقظ في داخلهم حسّ المواجهة للأخطاء والانحرافات، وتدفعهم إلى الوقوف بقوّة أمام الأعاصير القادمة من بعيد...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وساوس الجاهلية:

اتسمت الليلة التي تلت معركة «أُحد» بالقلق والاضطراب الشديدين، فقد كان المسلمون يتوقعون أن يعود جنود قريش الفاتحون المنتصرون إلى المدينة مرة أخرى لاجتياح البقية الباقية من القوّة الإسلامية، والقضاء على من تبقى من المقاتلين المسلمين، ولعلّ بعض الأخبار كان قد نمّ إلى المسلمين عن اعتزام المشركين ونيتهم في العودة إلى ساحة القتال.

ولاشكّ أنهم لو عادوا لكان المسلمون يواجهون أحلك الظروف في تلك الموقعة.

بيد أنه كان هناك بين المسلمين ثلة من المجاهدين الصادقين الذين ندموا على الفرار من الميدان في «أُحد» فتابوا إلى الله، واطمأنوا إلى وعود النبي الكريم حول المستقبل، قد أخذهم نوم مريح، وغلبهم نعاس هانئ ولذيذ وهم في عدة الحرب، في الوقت الذي كان فيه المنافقون وضعاف الإيمان، والجبناء يعانون من كابوس الأوهام والوساوس طوال الليل، ولم يذوقوا لذة النوم، فكانوا من حيث لا يشعرون ولا يقصدون يحرسون المؤمنين الحقيقيين الذين كانوا يستريحون في تلك النومة الطارئة اللذيذة. وإلى هذا كلّه يشير الكتاب العزيز في الآية الحاضرة إذ يقول: (ثمّ أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم).

أجل، إن المنافقين والجبناء وضعاف النفوس والإيمان لم يزرهم النوم ولا حتى النعاس في تلك الليلة خوفاً على نفوسهم، وعلى أرواحهم، وجرياً وراء الوساوس الشيطانية، والمخاوف التي هي من طبيعة ولوازم النفاق وضعف اليقين ووهن الإيمان، فيما أن المؤمنون الصادقون يستريحون في ذلك النعاس اللذيذ، وتلك النومة الطارئة الهانئة، وهذا هو أحد آثار الإيمان وثماره المهمة البارزة، فإن المؤمن يحظى بالراحة والطمأنينة حتّى في هذه الدنيا، على العكس من غير المؤمنين من الكفار أو المنافقين أو ضعاف الإيمان، فإنهم محرومون من الطمأنينة والراحة اللذيذة تلك.

ثمّ إن القرآن الكريم يعمد إلى بيان واستعراض طبيعة ما كان يدور بين أُولئك المنافقين وضعاف الإيمان من أحاديث وحوار، وما كان يدور في خلدهم من ظنون وأفكار، إذ يقول: (يظنون بالله غير الحقّ ظن الجاهلية).

إنّهم كانوا يظنون بالله ما كانوا يظنونه به أيام كانوا يعيشون في الجاهلية، وقبل

أن تبزغ عليهم شمس الإسلام، فقد كانوا يتصورون أن الله سيكذبهم وعده، ويظنون أن وعود النبي غير محققة ولا صادقة، وكان يقول بعضهم للآخر: (هل لنا من الأمر من شيء) أي هل سيصيبنا النصر ونحن في هذه الحالة من السقوط والهزيمة، والمحنة والبلية؟ إنهم كانوا يستبعدون أن ينزل عليهم نصر من الله بعد ما لقوا، أو كانوا يرون ذلك محالاً.

ولكن القرآن يجيبهم قائلاً (قل إن الأمر كلّه لله) أي كيف تستبعدون ذلك أو ترونه محالاً والأمر كلّه بيد الله، وهو قادر أن ينزل عليكم النصر متى وجدكم أهلاً لذلك.

على أنهم لم يظهروا كلّ ما كان يدور في خلدهم من ظنون وأوهام وهواجس خوفاً من أن يعدوا في صفوف الكفار: (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك).

وكأنهم كانوا يتصورون أن الهزيمة في «أُحد» من العلائم الدالة على بطلان الإسلام، ولذا كانوا يقولون: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا) أي لو كنا على حق لكسبنا المعركة، ولم نخسر كلّ هذه الأرواح والنفوس.

ولكن الله تعالى أجابهم وهو يشير في هذه الإجابة إلى مطلبين.

الأول: إن عليكم أن لا تتوهموا بأن الفرار من ساحة المعركة، وتجنب الصعاب يمكنه أن ينقذكم من الموت الذي هو قدر لكلّ إنسان ولهذا يقول سبحانه: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتال إلى مضاجعهم) فإن الذين جاء أجلهم، وحان حين موتهم لابدّ أن يموتوا ولا محالة هم مقتولون حتّى لو كانوا في مضاجعهم.

وفي الأساس فإن كلّ أُمة استحقت الهزيمة لوهن أكثريتها، لابدّ أن تذوق الموت، ولا محالة يصيبها القتل، فالأجدر بها أن تموت في ساحات المعارك، وتحت ضربات السيوف، وهي تسطر ملاحم البطولة، وتخط أسطر البسالة، لا أن تموت خانعة، أو تقتل ذليلة على فراشها...

... والثاني: إن هذه الحوادث لابدّ أن تقع حتّى يبدي كلّ واحد مكنون صدره، ومكتوم قلبه، فتتشخص الصفوف، وتتميز جواهر الرجال، هذا مضافاً إلى أن هذه الحوادث سبب لتربية الأشخاص شيئاً فشيئاً، ولتخليص نياتهم، وتقوية إيمانهم، وتطهير قلوبهم (وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم).

ثمّ يقول سبحانه: في ختام هذه الآية (والله عليم بذات الصدور) ولذلك فهو لا ينظر إلى أعمال الناس بل يمتحن قلوبهم، ليطهرها من كلّ ما تعلق بالنفوس والأفئدة من شوائب الشرك والنفاق، والشك والتردد.