المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

173- وليس المحرم ما زعمه المشركون وما زعمه اليهود ، وإنما المحرم عليكم - أيها المؤمنون - الميتة التي لم تذبح من الحيوان ، ومن الدم المسفوح ، ومثله في التحريم لحم الخنزير ، وما ذكر على ذبحه اسم غير الله من الوثن ونحوه ، على أن من اضطر{[10]} إلى تناول شيء من هذه المحظورات لجوعٍ لا يجد ما يدفعه غيرها أو لإكراه على أكله فلا بأس عليه ، وليتجنب سبيل الجاهلية من طلب هذه المحرمات والرغبة فيها ولا يتجاوز ما يسد الجوع .


[10]:حال الاضطرار تسوغ ما يحرم لأن الموت المؤكد أشد من الضرر المحتمل، ولأن الجائع تتنبه أجهزة هضمه فيتغلب على المواد الضارة، ولذا لا يصح للمضطر أن يتجاوز حالة الضرورة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

استئناف بياني ، ذلك أن الإذْن بأكْلِ الطيبات يثير سؤال مَن يسأل ما هي الطيبات فجاء هذا الاستئناف مبيِّناً المحرماتِ وهي أضداد الطيبات ، لتُعرف الطيبات بطريق المضادة المستفادة من صيغة الحصر ، وإنما سُلك طريق بيان ضد الطيبات للاختصار ؛ فإن المحرمات قليلة ، ولأن في هذا الحصر تعريضاً بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيراً من الطيبات وأحلوا الميتة والدم ، ولما كان القصر هنا حقيقياً لأن المخاطب به هم المؤمنون وهم لا يعتقدون خلاف ما يُشرع لهم ، لم يكن في هذا القصر قلبُ اعتقادِ أحدٍ وإنما حصل الرد به على المشركين بطريقة التعريض .

و { إنما } بمعنى مَا وإلاّ أي ما حَرَّم عليكم إلاّ الميتة وما عطف عليها ، ومعلوم من المقام أن المقصود ما حَرَّم من المأكولات .

والحرام : الممنوع منعاً شديداً .

والمَيْتَة بالتخفيف هي في أصل اللغة الذَّات التي أصابها الموت فمخففها ومشدَّدها سواء كالميْتِ والميِّت ، ثم خُص المخفف مع التأنيث بالدابة التي تقصد ذكاتها إذا ماتت بدون ذكاة ، فقيل : إن هذا من نقل الشرع وقيل : هو حقيقة عرفية قبل الشرع وهو الظاهر بدليل إطلاقها في القرآن على هذا المعنى .

وقرأ الجمهور ( الميتة ) بتخفيف الياء وقرأه أبو جعفر بتشديد الياء .

وإضافةُ التحريم إلى ذات الميتة وما عطف عليها هو من المسألة الملقبة في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأَعيان ، ومحمله على تحريم ما يُقصد من تلك العَين باعتبار نوعها نحو { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] أو باعتبار المقام نحو { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] فيقدر في جميع ذلك مضاف يدل عليه السياق ، أو يقال : أقيم اسم الذات مُقام الفعل المقصود منها للمبالغة ، فإذا تعين ما تقصد له قُصر التحريم والتحليل على ذلك ، وإلاَّ عُمِّم احتياطاً ، فنحو { حُرمت عليكم أمهاتكم } متعين لحرمة تزوجهن وما هو من توابع ذلك كما اقتضاه السياق ، فلا يخطر بالبال أن يحرم تقبيلهن أو محادثتهن ، ونحو : { فاجتنِبُوه } [ المائدة : 90 ] بالنسبة إلى الميسِر والأزلام متعينٌ لاجتناب اللعب بها دون نجاسة ذواتها .

والميتة هنا عام ؛ لأنه معرَّف بلام الجنس ، فتحريم أكل الميتة هو نصُّ الآية وصريحُها لوقوع فعل { حَرَّم } بعد قوله : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } [ البقرة : 172 ] وهذا القدر متفق عليه بين علماء الإسلام ، واختلفوا فيما عدا الأكل من الانتفاع بأجزاء الميتة كالانتفاع بصُوفها وما لا يتصل بلحمها مما كان يُنتزع منها في وقت حياتها فقال مالك : يجوزُ الانتفاع بذلك ، ولا ينتفع بقرنها وأَظلافها وريشها وأنيابها لأن فيها حياة إلاَّ نابَ الفيل المسمى العَاج ، وليس دليله على هذا التحريم منتزعاً من هذه الآية ولكنه أخذَ بدلالة الإشارة ؛ لأن تحريم أكل الميتة أَشارَ إلى خباثة لحمها وما في معناها ، وقال الشافعي : يحرم الانتفاع بكل أجزاء الميتة ، ولا دليل له من فعل { حَرَّم } ؛ لأن الفعل في حيز الإثبات لا عموم له ، ولأن لفظ { الميتة } كُلٌّ وليس كليّاً فليس من صيغ العموم ، فيرجع الاستدلال به إلى مسألة الخلاف في الأَخذ بأوائل الأسماء أو أواخرها وهي مسألة ترجع إلى إعمال دليل الاحتياط وفيه مراتب وعليه قرائن ولا أحسبها متوافرة هنا ، وقال أبو حنيفة لا يجوز الانتفاع بالميتة بوجهٍ ولا يُطَعمُها الكلابُ ولا الجوارح ، لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها وقد حرمها الله تحريماً مطلقاً معلقاً بعينها مؤكداً به حكم الحظر ، فقوله موافق لقول مالك فيما عدا استدلاله .

وأما جلد الميتة فله شبه من جهة ظاهره كشبه الشعر والصوف ، ومن جهة باطنه كشبه اللحم ، ولتعارض هذين الشبهين اختلف الفقهاء في الانتفاع بجلد الميتة إذا دُبغ فقال أحمد ابن حنبل : لا يطهر جلد الميتة بالدبغ ، وقال أبو حنيفة والشافعي : يطهر بالدبغ ما عدا جلد الخنزير لأنه محرم العين ، ونسب هذا إلى الزهري ، وألحق الشافعي جلد الكلب بجلد الخنزير ، وقال مالك يطهر ظاهر الجلد بالدبغ لأنه يصير صلباً لا يداخله ما يجاوره ، وأما باطنه فلا يطهر بالدبغ ولذلك قال : يجوز استعمال جلد الميتة المدبوغ في غير وضع الماء فيه ، ومنع أن يصلي به أو عليه ، وقول أبي حنيفة أرجح للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شاة ميتة كانت لميمونة أم المؤمنين فقال « هلاَّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به » ولما جاء في الحديث الآخر من قوله : « أيُّما إهَابٍ دُبغَ فقد طَهُر »{[173]} ، ويظهر أن هذين الخبرين لم يبلغا مبلغ الصحة عند مالك ولكن صحتهما ثبتت عند غيره ، والقياس يقتضي طهارة الجلد المدبوغ لأن الدبغ يزيل ما في الجلد من توقع العُفونة العارضة للحيوان غير المذكى فهو مزيل لمعنى القذارة والخباثة العارضتين للميتة .

ويستثنى من عموم الميتة ميتة الحوت ونحوه من دواب البحر التي لا تعيش في البر وسيأتي الكلام عليها عند قوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } [ المائدة : 96 ] في سورة العقود .

واعلم أن حكمة تحريم الميتة فيما أرى هي أن الحيوان لا يموت غالباً إلاّ وقد أصيب بعلة والعلل مختلفة وهي تترك في لحم الحيوان أجزاء منها فإذا أكلها الإنسان قد يخالط جزءاً من دمه جراثيم الأمراض ، مع أن الدم الذي في الحيوان إذا وقفت دورته غلبت فيه الأجزاء الضارة على الأجزاء النافعة ، ولذلك شرعت الذكاة لأن المذكى مات من غير علة غالباً ولأن إراقة الدم الذي فيه تجعل لحمه نقياً مما يخشى منه أضرار .

ومن أجل هذا قال مالك في الجنين : إن ذكاته ذكاة أمه ؛ لأنه لاتصاله بأجزاء أمه صار استفراغ دم أمه استفراغاً لدمه ولذلك يموت بموتها فسلم من عاهة الميتة وهو مدلول الحديث الصحيح : " ذكاة الجنين ذكاة أمه " وبه أخذ الشافعي ، وقال أبو حنيفة لا يؤكل الجنين إذا خرج ميتاً فاعتبر أنه ميتة لم يذكَّ ، وتناول الحديث بما هو معلوم في الأصول ، ولكن القياس الذي ذكرناه في تأييد مذهب مالك لا يقبل تأويلاً .

وقد ألحق بعض الفقهاء بالحوت الجراد تؤكل ميتته لأنه تتعذر ذكاته وهو قول ابن نافع وابن عبد الحكم من المالكية تمسكاً بما في « صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى " غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه " اهـ .

وسواء كان معه ظرفاً لغواً متعلقاً بنأكل أم كان ظرفاً مستقراً حالاً من ضمير « كنا » فهو يقتضي الإباحة إما بأكله صلى الله عليه وسلم إياه وإما بتقريره ذلك فتخص به الآية لأنه حديث صحيح ، وأما حديث " أحلت لنا ميتتان السمك والجراد " فلا يصلح للتخصيص لأنه ضعيف كما قال ابن العربي في « الأحكام » ، ومنعه مالك وجمهور أصحابه إلاّ أن يذكى ذكاة أمثاله كالطرح في الماء السخن أو قطع ما لا يعيش بقطعه .

ولعل مالك رحمه الله استضعف الحديث الذي في مسلم أو حمله على الاضطرار في السفر أو حمله على أنهم كانوا يصنعون به ما يقوم مقام الذكاة قال ابن وهب : إن ضم الجراد في غرائر فضمه ذلك ذكاة له ، وقد ذكر في « الموطأ » حديث عمر وقول كعب الأحبار في الجراد إنه من الحوت وبينت توهم كعب الأحبار في كتابي المسمى « كشف المغطى على الموطأ » .

وأما الدَّم فإنما نص الله على تحريمه لأن العرب كانت تأكل الدم ، كانوا يأخذون المباعر فيملأونها دماً ثم يشوونها بالنار ويأكلونها ، وحكمة تحريم الدم أن شربه يورث ضراوة في الإنسان فتغلظ طباعه ويصير كالحيوان المفترس ، وهذا مناف لمقصد الشريعة ، لأنها جاءت لإتمام مكارم الأخلاق وإبعاد الإنسان عن التهور والهمجية ، ولذلك قيد في بعض الآيات بالمسفوح أي المُهراق ، لأنه كثير لو تناوله الإنسان اعتاده ولو اعتاده أورثه ضراوة ، ولذا عفت الشريعة عما يبقى في العروق بعد خروج الدم المسفوح بالذبح أو النحر ، وقاس كثير من الفقهاء نجاسة الدم على تحريم أكله وهو مذهب مالك ، ومداركهم في ذلك ضعيفة ، ولعلهم رأوا مع ذلك أن فيه قذارة .

والدم معروف مدلولهُ في اللغة وهو إفراز من المفرزات الناشئة عن الغذاء وبه الحياة وأصل خلقته في الجسد آتٍ من انقلاب دم الحيض في رحم الحامل إلى جسد الجنين بواسطة المصران المتصل بين الرحم وجسد الجنين وهو الذي يقطع حين الولادة ، وتجددُه في جسد الحيوان بعد بروزه من بطن أمه يكون من الأغذية بواسطة هضم الكبد للغذاء المنحدر إليها من المعدة بعد هضمه في المعدة ويخرج من الكبد مع عرق فيها فيصعد إلى القلب الذي يدفعه إلى الشرايين وهي العروق الغليظة وإلى العروق الرقيقة بقُوَّةِ حركة القلب بالفَتْح والإغلاق حركةً ماكينية هوائية ، ثم يدور الدم في العروق منتقلاً من بعضها إلى بعض بواسطة حركات القلب وتنفس الرئة وبذلك الدوران يسلم من التعفن فلذلك إذا تعطلت دورته حصة طويلة مات الحيوان .

ولحم الخنزير هو لحم الحيوان المعروف بهذا الاسم . وقد قال بعض المفسرين : إن العرب كانوا يأكلون الخنزير الوحشي دون الإنسي ، أي لأنهم لم يعتادوا تربية الخنازير وإذا كان التحريم وارداً على الخنزير الوحشي فالخنزير الإنسي أوْلى بالتحريم أو مساوٍ للوحشي .

وذِكر اللحم هنا لأنه المقصود للأكل فلا دلالة في ذكره على إباحة شيء آخر منه ولا على عدمها ، فإنه قد يعبر ببعض الجسم على جميعه كقوله تعالى عن زكرياء { رب إني وهن العظْم مني } [ مريم : 4 ] ، وأما نجاسته ونجاسة شعره أو إباحتها فذلك غرض آخر ليس هو المراد من الآية .

وقد قيل في وجه ذكر اللحم هنا وتركه في قوله : { إنما حرم عليكم الميتة } وجوه قال ابن عطية : إن المقصد الدلالة على تحريم عينه ذُكِّيَ أم لم يُذَكَّ اهـ . ومراده بهذا ألا يتوهم متوهم أنه إنما يحرم إذا كان ميتة وفيه بعد ، وقال الألوسي خصه لإظهار حرمته ، لأنهم فضلوه على سائر اللحوم فربما استعظموا وقوع تحريمه اهـ . يريد أن ذكره لزيادة التغليظ أي ذلك اللحم الذي تذكرونه بشراهة ، ولا أحسب ذلك ، لأن الذين استجادوا لحم الخنزير هم الروم دون العرب ، وعندي أن إقحام لفظ اللحم هنا إما مجرد تفنن في الفصاحة وإما للإيماء إلى طهارة ذاته كسائر الحيوان ، وإنما المحرم أكله لئلا يفضي تحريمه بالناس إلى قتله أو تعذيبه ، فيكون فيه حجة لمذهب مالك بطهارة عين الخنزير كسائر الحيوان الحي ، وإما للترخيص في الانتفاع بشعره لأنهم كانوا يغرزون به الجلد .

وحكمة تحريم لحم الخنزير أنه يتناول القاذورات بإفراط فتنشأ في لحمه دودة مما يقتاته لا تهضمها معدته فإذا أصيب بها آكله قتلته .

ومن عجيب ما يتعرض له المفسرون والفقهاء البحث في حرمة خنزير الماء وهي مسألة فارغة إذ أسماء أنواع الحوت روعيت فيها المشابهة كما سموا بعض الحوت فرس البحر وبعضه حمام البحر وكلب البحر ، فكيف يقول أحد بتأثير الأسماء والألقاب في الأحكام الشرعية وفي « المدونة » توقَّف مالك أن يجيب في خنزير الماء وقال : أنتم تقولون خنزير . قال ابن شَأْس : رأى غير واحد أن توقُّف مالك حقيقة لعموم { أحل لكم صيد البحر } [ المائدة : 96 ] وعموم قوله تعالى : { ولحم الخنزير } ورأى بعضهم أنه غير متوقِّف فيه حقيقة ، وإنما امتنع من الجواب إنكاراً عليهم تسميتهم إياه خنزيراً ولذلك قال أنتم تسمونه خنزيراً يعني أن العرب لم يكونوا يسمونه خنزيراً وأنه لا ينبغي تسميته خنزيراً ثم السؤال عن أكله حتى يقول قائلون أكلوا لحم الخنزير ، أي فيرجع كلام مالك إلى صون ألفاظ الشريعة ألا يُتَلاعَب بها ، وعن أبي حنيفة أنه منع أكل خنزير البحر غير متردد أخذاً بأنه سمي خنزيراً ، وهذا عجيب منه وهو المعروف بصاحب الرأي ، ومن أين لنا ألا يكون لذلك الحوت اسم آخر في لغة بعض العرب فيكون أكله محرماً على فريق ومباحاً لفريق .

وقوله تعالى : { وما أهل به لغير الله } أي ما أعلن به أو نودي عليه بغير اسم الله تعالى ، وهو مأخوذ من أهل إذا رفع صوته بالكلام ومثله استهل ويقولون : استهل الصبي صارخاً إذا رفع صوته بالبكاء ، وأهلَّ بالحج أو العمرة إذا رفع صوته بالتلبية عند الشروع فيهما ، والأقرب أنه مشتق من قول الرجل : هلا لقصد التنبيه المستلزم لرفع الصوت وهلا أيضاً اسم صوت لزجر الخيل ، وقيل مشتق من الهلال ، لأنهم كانوا إذا رأوا الهلال نادى بعضهم بعضاً وهو عندي من تلفيقات اللغويين وأهل الاشتقاق ، ولعل اسم الهلال إن كان مشتقاً وكانوا يصيحون عند رؤيته وهو الذي اشتق من هلَّ وأهلَّ بمعنى رفع صوته ، لأن تصاريف أهلَّ أكثر ، ولأنهم سموا الهلال شهراً من الشهرة كما سيأتي .

وكانت العرب في الجاهلية إذا ذبحت أو نحرت للصنم صاحوا باسم الصنم عند الذبح فقالوا باسم اللات أو باسم العزَّى أو نحوهما ، وكذلك كان عند الأمم التي تعبد آلهة إذا قربت لها القرابين ، وكان نداء المعبود ودعاؤه عند الذبح إليه عادة عند اليونان كما جاء في « الإلياذة » لهوميروس .

فأُهِلَّ في الآية مبني للمجهول أي ما أهل عليه المهل غير اسم الله ، وضمن ( أهل ) معنى تقرب فعدي لمتعلقه بالباء وباللام مثل تقرب ، فالضمير المجرور بالباء عائد إلى { ما أهل } ، وفائدة هذا التضمين تحريم ما تقرب به لغير الله تعالى سواء نودي عليه باسم المتقرب إليه أم لا ، والمراد بغير الله الأصنام ونحوها .

وأما ما يذبحه سودان بلدنا بنية أن الجن تشرب دمه ولا يذكرون اسم الله عليه زعماً بأن الجن تفر من نورانية اسم الله فالظاهر أنه لا يجوز أكله وإن كان الذين يفعلونه مسلمين ولا يخرجهم ذلك عن الإسلام . وقال ابن عرفة في « تفسيره » : الأظهر جواز أكله لأنه لم يهل به لغير الله .

وقوله : « فمن اضطر » الخ الفاء فيه لتفريع الإخبار لا لتفريع المعنى ، فإن معنى رفع الحرج عن المضطر لا ينشأ عن التحريم ، والمضطر هو الذي ألجأته الضرورة أي الحاجة أي اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات فلا إثم عليه ، وقوله : { غير باغ ولا عاد } حال ، والبغي الظلم ، والعدوان المحاربة والقتال ، ومجيء هذه الحال هنا للتنويه بشأن المضطر في حال إباحة هاته المحرمات له بأنه بأكلها يكون غير باغ ولا عاد ، لأن الضرورة تلجىء إلى البغي والاعتداء فالآية إيماء إلى علة الرخصة وهي رفع البغي والعدوان بين الأمة ، وهي أيضاً إيماء إلى حد الضرورة وهي الحاجة التي يشعر عندها من لم يكن دأبه البغي والعدوان بأنه سيبغي ويعتدي وهذا تحديد منضبط ، فإن الناس متفاوتون في تحمل الجوع ولتفاوت الأمزجة في مقاومته ، ومن الفقهاء من يحدد الضرورة بخشية الهلاك ومرادهم الإفضاء إلى الموت والمرض وإلاّ فإن حالة الإشراف على الموت لا ينفع عندها الأكل ، فعلم أن نفي الإثم عن المضطر فيما يتناوله من هذه المحرمات منوط بحالة الاضطرار ، فإذا تناول ما أزال به الضرورة فقد عاد التحريم كما كان ، فالجائع يأكل من هاته المحرمات إن لم يجد غيرها أكلاً يغنيه عن الجوع وإذا خاف أن تستمر به الحاجة كمن توسط فلاة في سفر أن يتزود من بعض هاته الأشياء حتى إن استغنى عنها طرحها ، لأنه لا يدري هل يتفق له وجدانها مرة أخرى .

ومن عجب الخلاف بين الفقهاء أن ينسب إلى أبي حنيفة والشافعي أنّ المضطرّ لا يشبع ولا يتزود خلافاً لمالك في ذلك والظاهر أنه خلاف لفظي والله تعالى يقول : { إن الله غفور رحيم } في معرض الامتنان فكيف يأمر الجائع بالبقاء على بعض جوعه ويأمر السائر بالإلقاء بنفسه إلى التهلكة إن لم يتزود ، وقد فسر قوله { غير باغ ولا عاد } بتفاسير أخرى فعن الشافعي أنه غير الباغي والعادي على الإمام لا عاص بسفره فلا رخصة له فلا يجوز له أكل ذلك عند الاضطرار فأجاب المالكية : بأن عصيانه بالسفر لا يقتضي أن يؤمر بمعصية أكبر وهي إتلاف نفسه بترك أكل ما ذكر وهو إلجاء مكين .

ومما اختلفوا في قياسه على ضرورة الجوع ضرورة التداوي ، فقيل لا يتداوى بهاته المحرمات ولا بشيء مما حرم الله كالخمر وهذا قول مالك والجمهور ، ولم يزل الناس يستشكلونه لاتحاد العلة وهي حفظ الحياة ، وعندي أن وجهه أن تحقق العلة فيه منتف إذ لم يبلغ العلم بخصائص الأدوية ظن نفعها كلها إلاّ ما جرب منها ، وكم من أغلاط كانت للمتطببين في خصائص الدواء ، ونقل الفخر عن بعضهم إباحة تناول المحرمات في الأدوية ، وعندي أنه إذا وقع قوة ظن الأطباء الثقات بنفع الدواء المحرم من مرض عظيم وتعينه أو غلب ذلك في التجربة فالجواز قياساً على أكل المضطر وإلاّ فلا .

وقرأ بو جعفر : { فمن اضطر } بكسر الطاء ، لأن أصله اضطرر براءين أولاهما مكسورة فلما أريد إدغام الراء الأولى في الثانية نقلت حركتها إلى الطاء بعد طرح حركة الطاء .

وقوله : { إن الله غفور رحيم } تذييل قصد به الامتنان ، أي إن الله موصوف بهذين الوصفين فلا جرم أن يغفر للمضطر أكل الميتة لأنه رحيم بالناس ، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما تمكن المؤاخذة عليه لا بمعنى تجاوز الذنب ، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم في رؤيا القليب « وفي نزعه ضعف والله يغفر له » . ومعنى الآية : أن رفع الإثم عن المضطر حكم يناسب من اتصف بالمغفرة والرحمة .


[173]:- يرويه الترمذي والنسائي وأحمد وابن ماجة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه والسلام.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم بين ما حرم، فقال: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله}، يقول: وما ذبح للأوثان.

{فمن اضطر}: إلى شيء مما حرم الله.

{غير باغ}: استحلاله.

{ولا عاد}: ولا معتديا لم يضطر إليه.

{فلا إثم عليه}: في أكله.

{إن الله غفور}: لما أكل من الحرام في الاضطرار.

{رحيم}: إذ رخص لهم في الاضطرار، مثلها في الأنعام، والمضطر يأكل على قدر قوته...

تفسير الشافعي 204 هـ :

18- قال الشافعي في قوله تعالى: {فَمَنُ اَضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} معناه: من كان مضطرا، ولا يكون موصوفا بصفة البغي، ولا بصفة العدوان البتة، فأكل (فلا إثم عليه). (مناقب الإمام الشافعي ص: 175-176.)...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بذلك: لا تحرّموا على أنفسكم ما لم أحرّمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله من البحائر والسوائب ونحو ذلك، بل كلوا ذلك فإني لم أحرّم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغيري.

"إنمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الَميْتَةَ": ما حرم عليكم إلا الميتة...

"وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ": وما ذبح للآلهة والأوثان يسمى عليه بغير اسمه أو قصد به غيره من الأصنام. وإنما قيل: "وَما أُهِلّ بِهِ "لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرّبوه لآلهتهم سمّوُا اسم آلهتهم التي قرّبوا ذلك لها وجهروا بذلك أصواتهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك حتى قيل لكل ذابح يسمي أو لم يسم جهر بالتسمية أو لم يجهر: «مُهِلٌ»، فرفعهم أصواتهم بذلك هو الإهلال الذي ذكره الله تعالى فقال: "وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ". ومن ذلك قيل للملبي في حجة أو عمرة مُهلّ، لرفعه صوته بالتلبية...

واختلف أهل التأويل في ذلك؛

فقال بعضهم: يعني بقوله: "وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ "ما ذبح لغير الله... ما أهل به للطواغيت.

وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر عليه غير اسم الله... ما يذبح لآلهتهم الأنصاب التي يعبدونها، أو يسمون أسماءها عليها؛ يقولون: باسم فلان.

"فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إْثمَ عَلَيْهِ": "فَمَنِ اضْطُرّ": فمن حلت به ضرورة مجاعة إلى ما حرّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، وهو بالصفة التي وصفنا، فلا إثم عليه في أكله إن أكله. وقوله: "فَمَنِ اضْطرّ" افتعل من الضرورة، فكأنه قيل: فمن اضطرّ لا باغيا ولا عاديا فأكله، فهو له حلال.

وقد قيل: إن معنى قوله: "فَمَنِ اضْطُرّ": فمن أكره على أكله فأكله، فلا إثم عليه.

"غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ": فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون؛

فقال بعضهم: يعني بقوله: "غَيْرَ باغٍ": غير خارج على الأئمة بسيفه باغيا عليهم بغير جور، ولا عاديا عليهم بحرب وعدوان فمفسد عليهم السبيل... غير قاطع سبيل، ولا مفارق جماعة، ولا خارج في معصية الله، فله الرخصة... ومن خرج باغيا أو عاديا في معصية الله، فلا رخصة له وإن اضطرّ إليه.

وقال آخرون في تأويل قوله "غَيْرَ باغٍ وَلا عاد": غير باغ الحرام في أكله، ولا معتد الذي أبيح له منه... غير باغ في أكله، ولا عاد أن يتعدى حلالاً إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة.

وقال آخرون: تأويل ذلك فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ في أكله شهوة وَلا عادٍ فوق ما لا بد له منه...أما باغ: فيبتغي فيه شهوته. وأما العادي: فيتعدى في أكله، يأكل حتى يشبع، ولكن يأكل منه قدر ما يمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته.

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فَمَنِ اضْطّرّ غَيّرَ باغٍ بأكله ما حرم عليه من أكله وَلا عاد في أكله، وله عن ترك أكله بوجود غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى، وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال، وإذ كان ذلك كذلك فلا شك أن الخارج على الإمام والقاطع الطريق وإن كانا قد أتيا ما حرّم الله عليهما من خروج هذا على من خرج عليه وسعي هذا بالإفساد في الأرض، فغير مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك من قتل أنفسهما، بل ذلك من فعلهما وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريما فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما، فإن كان ذلك كذلك، فالواجب على قطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة، الأوبةُ إلى طاعة الله، والرجوع إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه، والتوبة من معاصي الله لا قتل أنفسهما بالمجاعة، فيزدادان إلى إثمهما إثما، وإلى خلافهما أمر الله خلافا.

وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه غير باغ في أكله شهوة، فأكل ذلك شهوة لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك مما قد دخل فيما حرّمه الله عليه، فهو بمعنى ما قلنا في تأويله، وإن كان للفظه مخالفا.

فأما توجيه تأويل قوله: وَلا عادٍ ولا آكل منه شبعه ولكن ما يمسك به نفسه فإن ذلك بعض معاني الاعتداء في أكله، ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى فيقال عنى به بعض معانيه. فإذا كان ذلك كذلك، فالصواب من القول ما قلنا من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة.

"فَلا إثْمَ عَلَيْهِ": من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حرج.

"إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ": إن الله غفور إن أطعتم الله في إسلامكم فاجتنبتم أكل ما حرّم عليكم وتركتم اتباع الشيطان فيما كنتم تحرّمونه في جاهليتكم، طاعة منكم للشيطان واقتفاء منكم خطواته، مما لم أحرّمه عليكم لما سلف منكم في كفركم وقبل إسلامكم في ذلك من خطأ وذنب ومعصية، فصافح عنكم، وتارك عقوبتكم عليه، رحيم بكم إن أطعتموه.

آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :

... وحَدُّ الضرورة أن يبقى يوما وليلة لا يجد فيها ما يأكل أو يشرب، فإن خشي الضعف المؤذي الذي إن تمادى أدى إلى الموت، أو قطع به عن طريقه وشغله؛ حل له الأكل والشرب فيما يدفع به عن نفسه الموت بالجوع أو العطش. أما تحديدنا ذلك ببقاء يوم وليلة بلا أكل، فلتحريم النبي صلى الله عليه وسلم الوصال يوما وليلة. وأما قولنا: إن خاف الموت قبل ذلك أو الضعف فلأنه مضطر حينئذ...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والاضطرار: كل فعل لا يمكن المفعول به الامتناع منه، وذلك كالجوع الذي يحدث للإنسان، ولا يمكنه الامتناع منه. والفرق بين الاضطرار، والإلجاء أن الإلجاء تتوفر معه الدواعي إلى الفعل من جهة الضر أو النفع، وليس كذلك الاضطرار. وأكثر المفسرين على أن المراد في الآية المجاعة. قال مجاهد: ضرورة إكراه. والأولى أن يكون محمولا على العموم إلا ما خصه الدليل.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{إنما حرم عليكم}: {إنما} هنا حاصرة، {الميتة}... ولفظ {الميتة} عموم والمعنى مخصص لأن الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم، و {الميتة}: ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة...

و {الدم} يراد به المسفوح، لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع... وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه، وفي خنزير الماء كراهية أبي مالك أن يجيب فيه، وقال أنتم تقولون خنزيراً...

وقوله تعالى {فمن اضطر}: ومعنى {اضطر}: ضمه عدم وغرث، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء، وقيل معناه أُكرِهَ وغلب على أكل هذه المحرمات، غير قاصد فساد وتعدٍّ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها

ورفع الله تعالى الإثم لمّا أحل الميتة للمضطر لأن التحريم في الحقيقة متعلقه التصرف بالأكل لا عين المحرم، ويطلق التحريم على العين تجوزاً، ومنع قوم التزود من الميتة وقالوا لما استقلت قوة الآكل صار كمن لم تصبه ضرورة قبل.

ومن العلماء من يرى أن الميتة من ابن آدم، والخنزير لا تكون فيها رخصة اضطرار، لأنهما لا تصح فيهما ذكاة بوجه، وإنما الرخصة فيما تصح الذكاة في نوعه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أما قوله تعالى: في آخر الآية: {إن الله غفور رحيم} ففيه إشكال وهو أنه لما قال: {فلا إثم عليه} فكيف يليق أن يقول بعده: {إن الله غفور رحيم} فإن الغفران إنما يكون عند حصول الإثم.

والجواب: من وجوه؛

أحدها: أن المقتضى للحرمة قائم في الميتة والدم، إلا أنه زالت الحرمة لقيام المعارض، فلما كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضى للحرمة عبر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنه رحيم، يعني لأجل الرحمة عليكم أبحت لكم ذلك

وثانيها: لعل المضطر يزيد على تناول الحاجة، فهو سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة، رحيم حيث أباح في تناول قدر الحاجة

وثالثها: أنه تعالى لما بين هذه الأحكام عقبها بكونه غفورا رحيما لأنه غفور للعصاة إذا تابوا، رحيم بالمطيعين المستمرين على نهج حكمه سبحانه وتعالى...

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

قوله تعالى: {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ...} لا ينفى إلاّ ما هو في مادة الثبوت ووجود الإثم هنا غير متصور لأن الأكل من الميتة في هذه الحالة واجب لإقامة الرمق قال: فأجاب بأن المراد لا عقوبة عليه أو لا ذم عليه...

وفي الآية دليل على أن العام في الأشخاص عام في الأزمنة والأحوال، وهو الصحيح، ولولا ذلك لما احتيج إلى استثناء المضطر منه...

قوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وجه مناسبة المغفرة أنه قد يظن أنه مضطر فيأكل الميتة ولا يكون مضطرا إليها...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بعد ذكر إباحة الطيبات ذكر المحرمات فقال تبارك اسمه {إنما حرم عليكم الميتة} هذا حصر لمحرمات الطعام من الحيوان بصيغة {إنما} الدالة على ما سبق الإعلام به وهو آية سورة الأنعام التي ورد فيها حصر التحريم في هذه الأربعة بصيغة الإثبات بعد النفي. وإنما حرم الميتة لما في الطباع السليمة من استقذارها، ولما يتوقع من ضررها، فإنها إما أن تكون ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة، وكلاهما لا يؤمن ضررها، لأن المرض قد يكون معديا، والموت الفجائي يقتضي بقاء بعض الأشياء الضارة في الجسم كالكربون الذي يكون سبب الاختناق، هذا ما قاله الأستاذ الإمام ويزيد عليه عدم القصد إلى إماتتها بعمل الإنسان وهو سبب الفرق بين المخنوقة والمنخنقة التي هي في معنى الميتة حتف أنفها، ولذلك كان في معنى الميتة كل ما زالت حياته بغير قصد الذكاة كالمنخنقة والموقودة إلى أخر ما ذكر في آية المائدة.

{والدم} أي المسفوح كما في آية الأنعام، فإنه قذر لا طيب وضار كالميتة {ولحم الخنزير} فأنه قذر، لأن أشهى غذاء الخنزير إليه القاذورات والنجاسات، وهو ضار في جميع الأقاليم ولاسيما الحارة كما ثبت بالتجربة، وأكل لحمه من أسباب الدودة الوحيدة القتالة ويقال إن له تأثيرا سيئا في العفة والغيرة {وما أهل به لغير الله} وهو ما يذبح ويقدم للأصنام أو غيرها مما يعبد. والمنع من هذا ديني محض لحماية التوحيد، لأنه من أعمال الوثنية، فكل من أهل لغير الله على ذبيحة فإنه يتقرب إلى من أهل باسمه تقرب عبادة، وذلك من الإشراك والاعتماد على غير الله تعالى.

وقد ذكر الفقهاء أن كل ما ذكر عليه اسم غير اسم الله لو مع اسم الله فهو محرم، وعد منه الأستاذ الإمام ما يجري في الأرياف كثيرا من قولهم عند الذبح لاسيما ذبح المنذور بسم الله، الله أكبر، يا سيد. يدعون السيد البدوي أن يلتفت إليهم ويتقبل النذر ويقضي حاجة صاحبه (قال) وكيفما أولته فهو محرم. ومثل ذكر السيد ذكر الرسول أو المسيح إذ لا يجوز أن يذكر عند الذبح غير اسم المنعم بالبهيمة المبيح لها، فهي تذبح وتؤِكل باسمه لا يشركه في ذلك سواه، ولا يتقرب بها إلى من عداه، ممن لم يخلق ولم ينعم ولم يبح ذلك لأنه غير واضع للدين.

{فمن اضطر} إلى الأكل مما ذكر بأن لم يجد ما يسد به رمقه سواه {غير باغ} له أي طالب له، راغب فيه لذاته {ولا عاد} متجاوز قدر الضرورة {فلا إثم عليه} لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم أو لحم الخنزير، بل الضرر في ترك الأكل محقق، وهو في فعله مظنون، وربما كانت شدة الحاجة إلى الأكل مع الاكتفاء بسد الرمق مانعة من الضرر. وأما ما أهل به لغير الله فمن أكل منه مضطرا فهو لا يقصد إجازة عمل الوثنية ولا استحسانه. {إن الله غفور رحيم} إذ حرم على عباده الضار، وجعل الضرورات بقدرها، لينتفي الحرج والعسر عنهم، ووكل تحديدهم إلى اجتهادهم، فهو يغفر لهم خطأهم فيه لتعذر ضبطه.

وفسر الجلال كلمة {باغ} بالخارج على المسلمين، و {عاد} بالمعتدي عليهم بقطع الطريق (قال) ويلحق بهم كل عاص بسفره كالآبق والمكاس وعليه الشافعي. قال الأستاذ الإمام: ولا خلاف بين المسلمين في أن العاصي كغيره يحرم عليه إلقاء نفسه في التهلكة، ويجب عليه توقي الضرر، ويجب علينا دفعه عنه إن استطعنا، فكيف لا تتناوله إباحة الرخص. ثم إن المناسب للسياق أن تحدد الضرورة التي تجيز أكل المحرم وتفسير الباغي والعادي بما ذكرنا هو المحدد لها، وهو موافق للغة كقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف {ما نبغي} (يوسف: 65) وفي الحديث الصحيح (يا باغي الخير هلم) وفي التنزيل {ولا تعد عيناك عنهم} (الكهف: 28) أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم. فالكلام في تحديد الضرورة وتمام بيان حكم ما يحل من الأكل، لا السياسة وعقوبة الخارجين على الدولة والمؤذين للأمة، وإنما كان هذا التحديد لازما لئلا يتبع الناس أهوائهم في تفسير الاضطراب إذا هو وكل إليهم بلا حد ولا قيد، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء حد الضرورة، فعلم من قوله {غير باغ ولا عاد} كيف تقدر الضرورة بقدرها، والأحكام عامة يخاطب بها كل مكلف لا يصح استثناء أحد إلا بنص صريح من الشارع. ويذكر بعض المفسرين في هذا المقام مسائل خلافية في الميتة كحل الانتفاع بجلدها وغير ذلك مما ليس بأكل، وقد قلنا إننا لا نعترض في بيان القرآن إلى المسائل الخلافية التي لا تدل عليها عبارته إذ يجب أن يبقى دائما فوق كل خلاف.

هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس... وأقول الآن إنه رحمه الله كانت خطته الغالبة في ترك المسائل الخلافية التي لا يدل عليها القرآن، وهذا غير الخلاف في مدلول عباراته كما هنا، وربما يكون ذكر الخلاف وسيلة إلى بيان كونه فوق كل خلاف.

ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر (غفور) له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة، فقد يقال إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية. وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات. والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطراب دقيق جدا ومرجعه إلى اجتهاد المضطر ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق وأن يقف عنده، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في صف الباغي والعادي بغير اختياره، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يعتمد تجاوز الحدود والله أعلم.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة:"الضرورات تبيح المحظورات" فكل محظور، اضطر إليه الإنسان، فقد أباحه له، الملك الرحمن. فله الحمد والشكر، أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف بياني، ذلك أن الإذْن بأكْلِ الطيبات يثير سؤال مَن يسأل ما هي الطيبات فجاء هذا الاستئناف مبيِّناً المحرماتِ وهي أضداد الطيبات، لتُعرف الطيبات بطريق المضادة المستفادة من صيغة الحصر، وإنما سُلك طريق بيان ضد الطيبات للاختصار؛ فإن المحرمات قليلة، ولأن في هذا الحصر تعريضاً بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيراً من الطيبات وأحلوا الميتة والدم، ولما كان القصر هنا حقيقياً لأن المخاطب به هم المؤمنون وهم لا يعتقدون خلاف ما يُشرع لهم، لم يكن في هذا القصر قلبُ اعتقادِ أحدٍ وإنما حصل الرد به على المشركين بطريقة التعريض...

وعندي أن إقحام لفظ اللحم هنا إما مجرد تفنن في الفصاحة وإما للإيماء إلى طهارة ذاته كسائر الحيوان، وإنما المحرم أكله لئلا يفضي تحريمه بالناس إلى قتله أو تعذيبه، فيكون فيه حجة لمذهب مالك بطهارة عين الخنزير كسائر الحيوان الحي، وإما للترخيص في الانتفاع بشعره لأنهم كانوا يغرزون به الجلد...

فالآية إيماء إلى علة الرخصة وهي رفع البغي والعدوان بين الأمة، وهي أيضاً إيماء إلى حد الضرورة وهي الحاجة التي يشعر عندها من لم يكن دأبه البغي والعدوان بأنه سيبغي ويعتدي وهذا تحديد منضبط، فإن الناس متفاوتون في تحمل الجوع ولتفاوت الأمزجة في مقاومته، ومن الفقهاء من يحدد الضرورة بخشية الهلاك ومرادهم الإفضاء إلى الموت والمرض وإلاّ فإن حالة الإشراف على الموت لا ينفع عندها الأكل، فعلم أن نفي الإثم عن المضطر فيما يتناوله من هذه المحرمات منوط بحالة الاضطرار، فإذا تناول ما أزال به الضرورة فقد عاد التحريم كما كان، فالجائع يأكل من هاته المحرمات إن لم يجد غيرها أكلاً يغنيه عن الجوع وإذا خاف أن تستمر به الحاجة كمن توسط فلاة في سفر أن يتزود من بعض هاته الأشياء حتى إن استغنى عنها طرحها، لأنه لا يدري هل يتفق له وجدانها مرة أخرى [أم لا]...

ومن عجب الخلاف بين الفقهاء أن ينسب إلى أبي حنيفة والشافعي أنّ المضطرّ لا يشبع ولا يتزود خلافاً لمالك في ذلك والظاهر أنه خلاف لفظي والله تعالى يقول:

{إن الله غفور رحيم} في معرض الامتنان فكيف يأمر الجائع بالبقاء على بعض جوعه ويأمر السائر بالإلقاء بنفسه إلى التهلكة إن لم يتزود...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

هذا النص السامي فيه تسجيل لرحمة الله تعالى، وغفرانه في الدنيا والآخرة، ما يرتكب إن كان بقصد حفظ النفس من التلف، وكان من غفرانه أن رفع الإثم وسببه قائم عن المضطر إلى أكل المحرمات، وكان من رحمته أن أباح هذه الطيبات، وأن حرم الخبائث، فتحريم الخبائث لأضرارها، وإباحة الطيبات لنفعها من رحمته سبحانه، جلت قدرته أن رفع الإثم عند الاضطرار.

وقبل أن ننتقل إلى آياته البينات نقرر أمرين. أولهما: ما قرره بعض العلماء ذوي النظر الثاقب أن الجوع الشديد يجعل الجسم يستطيع تناول هذه الخبائث الضارة إذ الجوع يذهب بأضرارها، أو لا يجعلها تؤثر بالأذى في الجسم ما دام لا يتعدى حد الضرورة، فإن تعداها كان الضرر المؤكد من هذه الخبائث. الثاني: أن هذه المحرمات إنما هي في حيوانات البر والنعم كما قررنا، أما صيد البحر فإنه حلال كما قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما... 96} [المائدة]. جعل الله طعامنا حلالا طيبا، وهنيئا مريئا