{ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلنه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا }
عطف على جملة { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } [ الشورى : 51 ] الآية ، وهذا دليل عليهم أن القرآن أُنزل من عند الله أعقب به إبطال شبهتهم التي تقدم لإبطالها قوله : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } الآية ، أي كان وحينا إليك مثلَ كلامنا الذي كلّمنا به من قبلك على ما صُرح به في قوله تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] . والمقصود من هذا هو قوله : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } .
والإشارة إلى سابق في الكلام وهو المذكور آنفاً في قوله : { وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً } [ الشورى : 51 ] الآية ، أي ومثل الذي ذكر من تكليم الله وَحْيُنا إليك رُوحاً من أمرنا ، فيكون على حد قول الحارث بن حلزة :
مِثْلَها تَخْرُج النصيحةُ للقوم *** فَلاَةً مــن دونها أفْلاَءُ
أي مثل نصيحتنا التي نصحناها للملك عمرو بن هند تكون نصيحة الأقوام بعضهم لبعض لأنها نصيحة قرابة ذوي أرحام{[371]} . ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما يأتي من بعدُ وهو الإيحاء المأخوذُ من { أوحينا إليك } ، أي مثل إيحائنا إليك أوحينا إليك ، أي لو أريد تشبيه إيحائنا إليك في رفعة القدر والهُدَى ما وجد له شَبيه إلا نفسُه على طريقة قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمةً وسَطاً } كما تقدم في سورة البقرة ( 143 ) . والمعنى : إنّ ما أوحينا إليك هو أعزّ وأشرف وحي بحيث لا يماثله غيره .
وكلا المعنيين صالح هنا فينبغي أن يكون كلاهما مَحْمَلاً للآية على نحو ما ابتكرناه في المقدمة التاسعة من هذا التفسير . ويؤخذ من هذه الآية أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد أعطي أنواع الوحي الثلاثة ، وهو أيضاً مقتضى الغرض من مساق هذه الآيات .
والروح : ما به حياة الإنسان ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ويسألونك عن الرّوح } في سورة الإسراء ( 85 ) . وأطلق الروح هنا مجازاً على الشريعة التي بها اهتداء النفوس إلى ما يعود عليهم بالخير في حياتهم الأولى وحياتهم الثانية ، شبهت هداية عقولهم بعد الضلالة بحلول الروح في الجسد فيصير حَيّاً بعد أن كان جُثّة .
ومعنى { من أمرنا } مما استأثرنا بخلقه وحجبناه عن النّاس فالأمر المضاف إلى الله بمعنى الشأن العظيم ، كقولهم : أمِرَ أمْر فلان ، أي شأنه ، وقوله تعالى : { بإذن ربّهم من كل أمر } [ القدر : 4 ] .
والمراد بالروح من أمر الله : ما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الإرشاد والهداية سواء كان بتلقين كلام معين مأمور بإبلاغه إلى النّاس بلفظه دون تغيّر وهو الوحي القرآني المقصود منه أمران : الهداية والإعجاز ، أم كان غير مقيد بذلك بل الرّسول مأمور بتبليغ المعنى دون اللّفظ وهو ما يكون بكلام غير مقصود به الإعجاز ، أو بإلقاء المعنى إلى الرّسول بمشافهة المَلكِ ، وللرّسول في هذا أن يتصرف من ألفاظ ما أُوحي إليه بما يريد التعبير به أو برؤيا المنام أو بالإلقاء في النّفس كما تقدم .
واختتام هذه السورة بهذه الآية مع افتتاحها بقوله : { كذلك أوحينا إليك } [ الشورى : 7 ] الآية فيه محسن ردّ العجز على الصدر .
وجملة { ما كنت تدري ما الكتاب } في موضع الحال من ضمير { أوحينا } أي أوحينا إليك في حال انتفاء علمك بالكتاب والإيمان ، أي أفضنا عليك موهبة الوحي في حال خلوّك عن علم الكتاب وعِلم الإيمان . وهذا تحدَ للمعاندين ليتأملوا في حال الرّسول صلى الله عليه وسلم فيعلموا أن ما أوتيه من الشريعة والآداب الخُلقية هو من مواهب الله تعالى التي لم تسبق له مزاولتها ، ويَتضمن امتناناً عليه وعلى أمته المسلمين .
ومعنى عدم دراية الكتاب : عدم تعلق علمه بقراءة كتاب أو فهمه . ومعنى انتفاء دراية الإيمان : عدم تعلق علمه بما تحتوي عليه حقيقة الإيمان الشرعي من صفات الله وأصول الدين وقد يطلق الإيمان على ما يرادف الإسلام كقوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] وهو الإيمان الذي يزيد وينقص كما في قوله تعالى : { ويزداد الذين آمنوا إيماناً } [ المدثر : 31 ] . فيزاد في معنى عدم دراية الإيمان انتفاء تعلق علم الرّسول صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام . فانتفاء درايته بالإيمان مثل انتفاء درايته بالكتاب ، أي انتفاء العلم بحقائقه ولذلك قال : { ما كنت تدري } ولم يقل : ما كنت مؤمناً .
وكلا الاحتمالين لا يقتضي أن الرّسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مؤمناً بوجود الله ووحدانية إلهيته قبل نزول الوحي عليه إذ الأنبياء والرّسل معصومون من الشرك قبل النبوءة فهم مُوحّدُون لله ونابذون لعبادة الأصنام ، ولكنهم لا يعلمون تفاصيل الإيمان ، وكان نبيئنا صلى الله عليه وسلم في عهد جاهلية قومه يعلم بطلان عبادة الأصنام ، وإذ قد كان قومه يشركون مع الله غيره في الإلهية فبطلان إلهية الأصنام عنده تمحِّضه لإفراد الله بالإلهية لا محالة .
وقد أخبر بذلك عن نفسه فيما رواه أبو نعيم في « دلائل النبوءة » عن شداد بن أوس وذكره عياض في « الشفاء » غير معزو : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمّا نَشَأت أي عقلت بُغِّضَتَ إليَّ الأوْثانُ وبُغض إليَّ الشعرُ ، ولم أهِمَّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمني الله منهما ثم لم أَعُدْ " . وعلى شدة منازعة قريش إياه في أمر التوحيد فإنهم لم يحاجُّوه بأنه كان يعبد الأصنام معهم . وفي هذه الآية حجة للقائلين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبداً قبل نبوءته بشرع .
وإدْخال { لا } النافية في قوله : { ولا الإيمان } تأكيد لنفي درايته إيّاه ، أي ما كنت تدري الكتاب ولا الإيمان ، للتنصيص على أن المنفي دراية كل واحدٍ منهما .
وقوله : { ولكن جعلناه نوراً } عطف على جملة { ما كنت تدري ما الكتاب } . وضمير { جعلناه } عائد إلى الكتاب في قوله : { ما كنت تدري ما الكتاب } . والتقدير : وجعلنا الكتاب نوراً . وأقحم في الجملة المعطوفة حرف الاستدراك للتنبيه على أن مضمون هذه الجملة عكس مضمون جملة { ما كنت تدري ما الكتاب } .
والاستدراك ناشىء على ما تضمنته جملة { ما كنت تدري ما الكتاب } لأن ظاهر نفي دراية الكتاب أن انتفاءها مستمر فاستدرك بأن الله هداه بالكتاب وهدى به أمته ، فالاستدراك واقع في المحزّ . والتقدير : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ثم هديناك بالكتاب ابتداء وعرفناك به الإيمان وهَدَيت به النّاس ثانياً فاهتدى به من شِئنا هدايته ، أي وبقي على الضلال من لم نشأ له الاهتداء ، كقوله تعالى : { يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً } [ البقرة : 26 ] .
وشبه الكتاب بالنّور لمناسبة الهَدي به لأن الإيمان والهُدى والعلم تشبَّه بالنور ، والضلال والجهل والكفر تشبه بالظلمة ، قال تعالى : { يخرجهم من الظلمات إلى النّور } [ البقرة : 257 ] . وإذا كان السائر في الطريق في ظلمة ضل عن الطريق فإذا استنار له اهتدى إلى الطريق ، فالنّور وسيلة الاهتداء ولكن إنما يَهتدي به من لا يكون له حائل دون الاهتداء وإلا لم تنفعه وسيلة الاهتداء ولذلك قال تعالى : { نهدي به من نشاء من عبادنا } ، أي نَخلُق بسببه الهداية في نفوس الذين أعددناهم للهُدى من عبادنا . فالهداية هنا هداية خاصة وهي خلق الإيمان في القلب .
{ وَإِنَّكَ لتهدى إلى صراط مستقيم } .
أي نهدي به من نشاء بدعوتك وواسطتك فلما أثبت الهديَ إلى الله وجعل الكتاب سبباً لتحصيل الهداية عطف عليه وساطةَ الرّسول في إيصال ذلك الهدي تنويهاً بشأن الرّسول صلى الله عليه وسلم
فجملة { وإنك لتهدي } عطف على جملة { نهدي به من نشاء من عبادنا } . وفي الكلام تعريض بالمشركين إذ لم يهتدوا به وإذ كبر عليهم ما يدعوهم إليه مع أنه يهديهم إلى صراط مستقيم .
والهداية في قوله : { وإنك لتهدي } هداية عامة . وهي : إرشاد النّاس إلى طريق الخير فهي تخالف الهداية في قوله : { نهدي به من نشاء } . وحذف مفعول { لتهدي } للعموم ، أي لتهدي جميع النّاس ، أي ترشدهم إلى صراط مستقيم ، وهذا كقوله : { وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة } [ البلد : 10 ، 11 ] .
وتأكيد الخبر ب ( إنَّ ) للاهتمام به لأن الخبر مستعمل في تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بهذا المقام العظيم فالخبر مستعمل في لازم معناه ، على أنه مستعمل أيضاً للتعريض بالمنكرين لِهَدْيِهِ فيكون في التأكيد ملاحظة تحقيقه وإبطال إنكارهم . فكما أن الخبر مستعمل في لازمين من لوازم معناه فكذلك التأكيدُ ب ( إنَّ ) مستعمل في غرضين من أغراضه ، وكلا الأمرين مما ألحق باستعمال المشترك في معنييه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أوحينا إليك روحا من أمرنا} يعني الوحي بأمرنا، كما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك حين ذكر الأنبياء من قبله، فقال: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا}، إلى آخر الآية.
{ما كنت تدري ما الكتاب} يا محمد قبل الوحي، ما الكتاب.
{ولا الإيمان ولكن جعلناه}، يعني القرآن.
{نهدي به} يعني بالقرآن من الضلالة إلى الهدى.
{من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} يعني إنك لتدعو إلى دين مستقيم، يعني الإسلام...
قال الشافعي رضي الله عنه: وشهد له جل ثناؤه باستمساكه بأمر ربه والهدى في نفسه وهداية من اتبعه، فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنَ اَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا اَلْكِتَابُ وَلا اَلاِيـمَانُ وَلَـاكِن جَعَلْنَاهُ نُورا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اِللَّهِ اِلذِى لَهُ مَا فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اِلاَرْضِ أَلا إِلَى اَللَّهِ تَصِيرُ اَلاُمُورُ} وذكر معها غيرها، ثم قال في شهادته له: أنه يهدي إلى صراط مستقيم صراط الله. وفيما وصفت من فرض طاعته: ما أقام الله به الحجة على خلقه بالتسليم لحكم رسوله واتباع أمره، فما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس لله فيه حكم فحكم الله سنَّتُهُ. (أحكام الشافعي: 1/30-31.) ــــــــــــ
قال الشافعي: ولم يأمر الناس أن يتبعوا إلا كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قد عصمه الله من الخطأ وبرأه منه، فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. فأما من كان رأيه خطأ أو صواب فلا يؤمر أحد باتباعه. ومن قال: للرجل يجتهد برأيه، فيستحسن على غير أصل، فقد أمر باتباع من يمكن منه الخطأ، وأقامه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فرض الله اتباعه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"وكَذلكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنا" وكما كنا نوحي في سائر رسلنا، كذلك أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن، "روحا من أمرنا": يقول: وحيا ورحمة من أمرنا.
واختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع؛
وقال آخرون: معناه: وحيا من أمرنا...
وقوله: "مَا كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ وَلا الإيمَانُ "يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ماكنت تدري يا محمد أيّ شيء الكتاب ولا الإيمان اللذين أعطيناكهما، "وَلَكِنْ جَعَلْناهُ نُورا" يقول: ولكن جعلنا هذا القرآن، وهو الكتاب نورا، يعني ضياءً للناس، يستضيئون بضوئه الذي بيّن الله فيه، وهو بيانه الذي بيّن فيه، مما لهم فيه في العمل به الرشاد، ومن النار النجاة "نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا" يقول: نهدي بهذا القرآن، فالهاء في قوله «به» من ذكر الكتاب.
ويعني بقوله: "نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ": نسدّد إلى سبيل الصواب، وذلك الإيمان بالله "مَنْ نَشاءُ منْ عِبادِنا" يقول: نهدي به من نشاء هدايته إلى الطريق المستقيم من عبادنا... وقال بعضهم: عنى به الإيمان والكتاب...
وقوله: "وَإنّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإنك يا محمد لتهدي إلى صراط مستقيم عبادنا، بالدعاء إلى الله، والبيان لهم...
وقوله جلّ ثناؤه: "ألا إلى اللّهِ تَصِيرُ الأمُورُ" يقول جلّ ثناؤه: ألا إلى الله أيها الناس تصير أموركم في الآخرة، فيقضي بينكم بالعدل.
فإن قال قائل: أو ليست أمورهم في الدنيا إليه؟ قيل: هي وإن كان إليه تدبير جميع ذلك، فإن لهم حكاما ووُلاة ينظرون بينهم، وليس لهم يوم القيامة حاكم ولا سلطان غيره، فلذلك قيل: إليه تصير الأمور هنالك، وإن كانت الأمور كلها إليه وبيده قضاؤها وتدبيرها في كل حال.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} كأنه يقول: هكذا أوحينا إليك بالوجوه والطرق التي ذكرنا...
{روحا من أمرنا} أي الكتاب الذي أنزله إليه، وأوجبه عليه سمّاه روحا لأنه يُحيي به الدين، ويكون به حياة الدين، وتحيى به الأبدان، وهو حياة الذكر والشّرف...
{ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} أما الكتاب فإنه لا شك أنه لا يدريه، ولا يعلمه، حتى أدراه، وأعمله، وأما الإيمان حين أخبر أنه لا يدريه فهو يحتمل وجوها:
أحدها: ما كنت تدري ما الإيمان في حق اللسان، أو ما كنت تدري ما الإيمان في حق الإيمان، أو ما كنت تدري ما الإيمان في حق قدره ومحلّه ومنزلته عند الله تعالى: فإن كان المراد في حق اللسان فهو ظاهر أنه كان لا يدري في حق ابتداء الأمر أن الإيمان، هو التصديق والتوحيد، أو ما هو؟ وهو معروف أنه كان لا يدريه في حق اللسان حتى أدراه، وأعلمه أنه ماذا؟ وكذلك جميع أهل اللسان لا علم لهم بذلك حتى علّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟ وما الإسلام؟ على صورة أعرابي حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا كان جبريل، نزل ليُعلّمهم معالم دينكم، والله أعلم.
وإن كان المراد في حق فعل الإيمان ومباشرة رُكنه فهو إذا كان غير قادر على فعله وإتيانه على حدّه، وكان لا يدريه، ولا لا يدري به، فإنه لا يوصف بالجهل به، ألا ترى أن الصغار لا يدرون، ولا يقال: إنهم جهلة؟ وإنما يوصف بالجهل من مَلَك الفكر والنظر وأسباب العلم، ثم ترك ذلك. فعند ذلك يوصف بالجهل. فعلى ذلك يجوز أن يوصف، ويقال: إنه كان لا يدري، ولا يوصف، ولا يقال: إنه كان جاهلا به، والله أعلم.
{ولكن جعلناه نورا} فإن كان المراد هو الإيمان فهو نور بالحجج والبرهان، وهو كما ذكر: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} [الزمر: 22].
وإن كان المراد هو الكتاب فهو نور لما يرفع جميع حُجُب القلوب وسواترها عمّن اتّبعه، ونظر إليه بعين التعظيم.
{نهدي به من نشاء من عبادنا} من علِم أنه يختاره شاء أن يهديه.
{به} يحتمل القرآن، ويحتمل الإيمان نفسه، أي يجعله بالإيمان مهديًّا.
{وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} قوله: {لتهدي} يحتمل لتدعو أولئك أو لتدين لهم الصراط المستقيم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{مَا كُنتَ تَدْرِي} قبل الوحي. {مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ} يعني شرائع الإيمان ومعالمه.
{نهدي به من نشاء من عبادنا} وهذا يدل على أنه تعالى بعد أن جعل القرآن نفسه في نفسه هدى كما قال: {هدى للمتقين} فإنه قد يهدي به البعض دون البعض وهذه الهداية ليست إلا عبارة عن الدعوة وإيضاح الأدلة؛ لأنه تعالى قال في صفة محمد صلى الله عليه وسلم {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} وهو يفيد العموم بالنسبة إلى الكل وقوله {نهدي به من نشاء من عبادنا} يفيد الخصوص فثبت أن الهداية بمعنى الدعوة عامة والهداية في قوله {نهدي به من نشاء من عبادنا} خاصة والهداية الخاصة غير الهداية العامة فوجب أن يكون المراد من قوله {نهدي به من نشاء من عبادنا} أمرا مغايرا لإظهار الدلائل ولإزالة الأعذار، ولا يجوز أيضا أن يكون عبارة عن الهداية إلى طريق الجنة؛ لأنه تعالى قال: {ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} أي جعلنا القرآن نورا نهدي به من نشاء، وهذا لا يليق إلا بالهداية التي تحصل في الدنيا، وأيضا فالهداية إلى الجنة عندكم في حق البعض واجب، وفي حق الآخرين محظور، وعلى التقديرين فلا يبقى لقوله {من نشاء من عبادنا} فائدة، فثبت أن المراد أنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ولا اعتراض عليه فيه...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
أحدهما: أنه الإيمان بالله، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته.
والثاني: أنه دين الإسلام، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة. قلت: الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بالله عز وجل من حين نشأ إلى حين بلوغه، على ما تقدم.
وقيل:"ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان" أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الإيمان، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم، وهو كقوله تعالى: "وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون "[العنكبوت: 48] روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
قد قيل: إن الضمير في «جعلناه» عائد إلى الأمر. وقيل: إلى الكتاب، وقيل: إلى الإيمان. والصواب: أنه عائد إلى «الروح» أي جعلنا ذلك الروح الذي أوحيناه إليك نورا. فسماه «روحا» لما يحصل به من الحياة الطيبة، والعلم والقوة. وجعله «نورا» لما يحصل به الإشراق والإضاءة، وهما متلازمان. فحيث وجدت هذه الحياة بهذا الروح وجدت الإضاءة والاستنارة، وحيث وجدت الاستنارة والإضاءة وجدت الحياة. فمن لم يقبل هذا الروح فهو ميت مظلم، كما أن من فارق بدنه روح الحياة فهو هالك مضمحل. فلهذا يضرب سبحانه وتعالى المثلين المائي والناري لما يحصل بالماء من الحياة، وبالنار من الإشراق والنور، كما ضرب ذلك في أول سورة البقرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أوحينا إليك} صارفاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً لما أوحى إليه وأفاض من نعمه عليه على جميع تلك الأقسام، فالتفت في الروع مذكوراً غير منكور، والسماع من دون الحجاب أصلاً منقول في الإخبار عن ليلة المعراج ومعقول في السماع من وراء الحجاب أيضاً ذكر فيها في قوله:"أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" والوحي بواسطة الملك كثيراً جداً، وأعظم الوحي وشرفه بقوله منكراً له تعظيماً لما عنده من الروح الأمري بإفادة أن هذا الكتاب الذي أبكم الفصحاء وأعجز البلغاء وحير الألباب من الحكماء شعبة منه وذرة بارزة عنه، ويمكن أن يكون تنكير تعظيم وإجلال وتكريم.
{روحاً} أي من خالطه صار قلبه حياً ومن عري عنه كان قلبه ميتاً. وزاد عظمه بقوله: {من أمرنا} أي بجعله من قسم الأمر وإظهاره في مظهر العظمة فيا له من علو يتضاءل دونه كل شامخ ويتحاقر إكباراً له كل مادح، والمراد بهذا رد ما تقدم من نسبتهم له صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء؛ لأنه تعالى لم يختم على قلبه بل فتحه بيد القدرة وأحياه بروح الوحي فأنطقه بالحكم التي خضعت لها الحكماء، وأقرت بالعجز عن إدانتها ألباب العلماء، ودل على ذلك بقوله، نافياً مبيناً حاله صلى الله عليه وسلم قبل هذا الوحي: {ما كنت} أي فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك مساوياً لهم في كونك لا تعلم شيئاً ولا تتفوه بشيء من ذلك وهو معنى {تدري} وعبر بأداة الاستفهام إشارة إلى أن ما بعدها مما يجب الاهتمام به والسؤال عنه، وعلق بجملة الاستفهام الدراية عن العمل وسدت مسد مفعولي الدراية.
{ما الكتاب} أي ما كان في جبلتك أن تعلم ذلك بأدنى أنواع العلم بمجادلة ولا غيرها.
{ولا الإيمان} أي بتفصيل الشرائع على ما حددناه لك بما أوحيناه إليك، وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قبل النبوة مقراً بوحدانية الله تعالى وعظمته لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه، ولا شك أن الشهادة له نفسه صلى الله عليه وسلم بالرسالة ركن الإيمان ولم يكن له علم بذلك، وكذا الملائكة واليوم الآخر فيصح نفي المنفي لفواته بفوات جزئه.
ولما كان المعنى: ولكن نحن أدريناك بذلك كله، عبر عنه إعلاماً بأن الخلق كانوا في ظلام؛ لكونهم كانوا يفعلون بوضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في الظلام بقوله: {ولكن جعلناه} أي الروح الذي هو الكتاب المنزل منا إليك المعلم بالإيمان وكل عرفان بما لنا من العظمة {نوراً نهدي} على عظمتنا {به من نشاء} خاصة لا يقدر أحد على هدايته بغير مشيئتنا {من عبادنا} بخلق الهداية في قلبه، قال ابن برجان: فمن رزقه الفرقان الذي يفرق بين المتشابهات والنور الذي يمشي به في الظلمات، فذلك الذي أبصر شعاع النور وشاهد الضياء المبثوث في العالم المفطور
وعلى قدر إقباله عليه والتفرغ عن كل شاغل عنه يكون قبوله له وهدايته به.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الوحي تم بالطريقة المعهودة، ولم يكن أمرك بدعا. أوحينا إليك (روحاً من أمرنا). فيه حياة، يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود. (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان).. هكذا يصور نفس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو أعلم بها، قبل أن تتلقى هذا الوحي. وقد سمع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الكتاب وسمع عن الإيمان، وكان معروفاً في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم، وأن لهم عقيدة، فليس هذا هو المقصود. إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير. وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد -عليه صلوات الله.
(ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء).. وهذه طبيعته الخالصة. طبيعة هذا الوحي. هذا الروح. هذا الكتاب. إنه نور. نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به، بما يعلمه من حقيقتها، ومن مخالطة هذا النور لها.
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم).. وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة، مسألة الهدى، بمشيئة الله سبحانه، وتجريدها من كل ملابسة، وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص، الذي لا يعرفه سواه؛ والرسول [صلى الله عليه وسلم] واسطة لتحقيق مشيئة الله، فهو لا ينشى الهدى في القلوب؛ ولكن يبلغ الرسالة، فتقع مشيئة الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المراد بالروح من أمر الله: ما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الإرشاد والهداية.
واختتام هذه السورة بهذه الآية مع افتتاحها بقوله: {كذلك أوحينا إليك} [الشورى: 7] الآية فيه محسن ردّ العجز على الصدر.
ومعنى عدم دراية الكتاب: عدم تعلق علمه بقراءة كتاب أو فهمه. ومعنى انتفاء دراية الإيمان: عدم تعلق علمه بما تحتوي عليه حقيقة الإيمان الشرعي من صفات الله وأصول الدين وقد يطلق الإيمان على ما يرادف الإسلام كقوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] وهو الإيمان الذي يزيد وينقص كما في قوله تعالى: {ويزداد الذين آمنوا إيماناً} [المدثر: 31]. فيزاد في معنى عدم دراية الإيمان انتفاء تعلق علم الرّسول صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام. فانتفاء درايته بالإيمان مثل انتفاء درايته بالكتاب، أي انتفاء العلم بحقائقه ولذلك قال: {ما كنت تدري} ولم يقل: ما كنت مؤمناً.
وكلا الاحتمالين لا يقتضي أن الرّسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مؤمناً بوجود الله ووحدانية إلهيته قبل نزول الوحي عليه؛ إذ الأنبياء والرّسل معصومون من الشرك قبل النبوءة، فهم مُوحّدُون لله ونابذون لعبادة الأصنام، ولكنهم لا يعلمون تفاصيل الإيمان، وكان نبيئنا صلى الله عليه وسلم في عهد جاهلية قومه يعلم بطلان عبادة الأصنام، وإذ قد كان قومه يشركون مع الله غيره في الإلهية فبطلان إلهية الأصنام عنده تمحِّضه لإفراد الله بالإلهية لا محالة.
وقد أخبر بذلك عن نفسه فيما رواه أبو نعيم في « دلائل النبوءة» عن شداد بن أوس وذكره عياض في « الشفاء» غير معزو:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمّا نَشَأت أي عقلت بُغِّضَتَ إليَّ الأوْثانُ وبُغض إليَّ الشعرُ، ولم أهِمَّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمني الله منهما ثم لم أَعُدْ". وعلى شدة منازعة قريش إياه في أمر التوحيد فإنهم لم يحاجُّوه بأنه كان يعبد الأصنام معهم. وفي هذه الآية حجة للقائلين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبداً قبل نبوءته بشرع.
وإدْخال {لا} النافية في قوله: {ولا الإيمان} تأكيد لنفي درايته إيّاه، أي ما كنت تدري الكتاب ولا الإيمان، للتنصيص على أن المنفي دراية كل واحدٍ منهما.
وقوله: {ولكن جعلناه نوراً} عطف على جملة {ما كنت تدري ما الكتاب}. وضمير {جعلناه} عائد إلى الكتاب في قوله: {ما كنت تدري ما الكتاب}. والتقدير: وجعلنا الكتاب نوراً. وأقحم في الجملة المعطوفة حرف الاستدراك للتنبيه على أن مضمون هذه الجملة عكس مضمون جملة {ما كنت تدري ما الكتاب}.
والاستدراك ناشئ على ما تضمنته جملة {ما كنت تدري ما الكتاب}؛ لأن ظاهر نفي دراية الكتاب أن انتفاءها مستمر فاستدرك بأن الله هداه بالكتاب وهدى به أمته، فالاستدراك واقع في المحزّ. والتقدير: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ثم هديناك بالكتاب ابتداء وعرفناك به الإيمان وهَدَيت به النّاس ثانياً فاهتدى به من شِئنا هدايته، أي وبقي على الضلال من لم نشأ له الاهتداء، كقوله تعالى: {يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً} [البقرة: 26].
وشبه الكتاب بالنّور لمناسبة الهَدي به؛ لأن الإيمان والهُدى والعلم تشبَّه بالنور، والضلال والجهل والكفر تشبه بالظلمة، قال تعالى: {يخرجهم من الظلمات إلى النّور} [البقرة: 257]. وإذا كان السائر في الطريق في ظلمة ضل عن الطريق فإذا استنار له اهتدى إلى الطريق، فالنّور وسيلة الاهتداء؛ ولكن إنما يَهتدي به من لا يكون له حائل دون الاهتداء وإلا لم تنفعه وسيلة الاهتداء ولذلك قال تعالى: {نهدي به من نشاء من عبادنا}، أي نَخلُق بسببه الهداية في نفوس الذين أعددناهم للهُدى من عبادنا. فالهداية هنا هداية خاصة وهي خلق الإيمان في القلب.
{وَإِنَّكَ لتهدى إلى صراط مستقيم}.
أي نهدي به من نشاء بدعوتك وواسطتك فلما أثبت الهديَ إلى الله وجعل الكتاب سبباً لتحصيل الهداية عطف عليه وساطةَ الرّسول في إيصال ذلك الهدي؛ تنويهاً بشأن الرّسول صلى الله عليه وسلم، فجملة {وإنك لتهدي} عطف على جملة {نهدي به من نشاء من عبادنا}، وفي الكلام تعريض بالمشركين إذ لم يهتدوا به وإذ كبر عليهم ما يدعوهم إليه مع أنه يهديهم إلى صراط مستقيم.
والهداية في قوله: {وإنك لتهدي} هداية عامة. وهي: إرشاد النّاس إلى طريق الخير فهي تخالف الهداية في قوله: {نهدي به من نشاء}. وحذف مفعول {لتهدي} للعموم، أي لتهدي جميع النّاس، أي ترشدهم إلى صراط مستقيم، وهذا كقوله: {وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة} [البلد: 10، 11].
وتأكيد الخبر ب (إنَّ) للاهتمام به لأن الخبر مستعمل في تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بهذا المقام العظيم فالخبر مستعمل في لازم معناه، على أنه مستعمل أيضاً للتعريض بالمنكرين لِهَدْيِهِ فيكون في التأكيد ملاحظة تحقيقه وإبطال إنكارهم. فكما أن الخبر مستعمل في لازمين من لوازم معناه فكذلك التأكيدُ ب (إنَّ) مستعمل في غرضين من أغراضه، وكلا الأمرين مما ألحق باستعمال المشترك في معنييه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يقول الراغب في مفرادته: سمي القرآن روحاً في قوله: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) وذلك لكون القرآن سبب للحياة الأخروية. وهذا المعنى يتلاءم بشكل كامل مع القرائن المختلفة الموجودة في الآية مثل عبارة (كذلك) التي تشير إلى قضية الوحي، وعبارة (أوحينا) وعبارات اُخرى بخصوص القرآن وردت في نهاية هذه الآية وبالرغم من أن (روح) وردت غالباً بمعاني اُخرى سائر آيات القرآن، إلاّ أنّه وفقاً للقرائن أعلاه يظهر أنّها وردت هنا بمعنى القرآن. وقد قلنا أيضاً في تفسير الآية 2 من سورة النحل: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) أن كلمة (روح) في هذه الآية وفقاً للقرائن وردت بمعنى (القرآن والوحي والنبوة) وفي الحقيقة فإن هاتين الآيتين تفسر إحداهما الأُخرى. فكيف يمكن للقرآن أن لا يكون روحاً في حين أنّنا نقرأ في الآية (24) من سورة الأنفال: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)...
(ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا). فهذا هو اللطف الإلهي الذي شملك أنزل عليك هذا الوحي السماوي وآمنت بكل ما يحتويه. فالإرادة الإلهية كانت تقتضي أن يهدي عباده الآخرين في ظل هذا النور السماوي، وأن يشمل الشرق والغرب بل وجميع القرون والأعصار حتى النهاية إضافة إلى هدايتك أنت إلى هذا الكتاب السماوي الكبير وتعليماته.
بعض المنحرفين فكرياً كانوا يتصورون أن هذه الجملة تبيّن أن الرّسول لم يكن يؤمن بالله قبل نبوته، في حين أن معنى الآية واضح، حيث أنّها تقول: إنّك لم تكن تعرف القرآن قبل نزوله ولم تكن تعرف تعليماته وتؤمن به وهذا لا يتعارض أبداً مع اعتقاد الرّسول التوحيدي ومعرفته العالية بأصول العبادة لله وعبوديته له. والخلاصة، إن عدم معرفة محتوى القرآن يختلف عن موضوع عدم معرفة الله. فحياة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مرحلة النبوة والواردة في كتب التاريخ، تعتبر دليلا حياً على هذا المعنى.
والأوضح من ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: «وقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره».