السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (52)

{ وكذلك } أي : ومثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل { أوحينا } بما لنا من العظمة { إليك } يا أفضل الرسل { روحاً } قال ابن عباس : نبوة وقال الحسن : رحمة وقال السدي : وحياً وقال الكلبي : كتاباً وقال الربيع : جبريل وقال مالك بن دينار : القرآن ، وسمي الوحي روحاً ؛ لأنه مدبر الروح كما أن الروح مدبر للبدن وزاد عظمته بقوله تعالى : { من أمرنا } أي : الذي نوحيه إليك .

ثم بين تعالى حال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قبل الوحي بقوله سبحانه : { ما كنت } أي : فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك { تدري } أي : تعرف قبل الوحي إليك { ما الكتاب } أي : القرآن { ولا الإيمان } أي : تفصيل الشرايع على ما جددناه لك بما أوحيناه إليك وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قبل النبوة قد كان مقراً بوحدانية الله تعالى وعظمته ، فإنه كان يصلي ويحج ويعتمر ويبغض اللات والعزى ولا يأكل ما ذبح على النصب لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه ، ولا شك أن الشهادة له صلى الله عليه وسلم نفسه بالرسالة ركن الإيمان ولم يكن له علم بذلك وكذلك الملائكة ، فصح نفي المنفي لفواته بفوات جزئه وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة : الإيمان هنا الصلاة لقوله تعالى { وما كان الله ليضيع إيمانكم } ( البقرة : 143 ) أي : صلاتكم ، وقيل : هذا على حذف ومعناه : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان حين كنت طفلاً في المهد ، وقيل : الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به ، وقال بعضهم : صفات الله تعالى على قسمين : منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقول ومنها : ما لا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوة .

تنبيه : ما ؛ الأولى نافية والثانية استفهامية والجملة الاستفهامية معلقة للدراية فهي في محل نصب لسدها مسد مفعولين والجملة المنفية بأسرها في محل نصب على الحال من الكاف في إليك ، وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبداً قبل النبوة بشرع وفي المسألة خلاف للعلماء فقيل : كان يتعبد على دين إبراهيم عليه السلام وقيل : غيره والضمير في قوله تعالى { ولكن جعلناه نوراً } يعود إما لروحاً وإما للكتاب وإما لهما وهو أولى لأنهما مقصود واحد فهو كقوله تعالى : { والله ورسوله أحق أن يُرضوه } ( التوبة : 62 ) وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني الإيمان وقال السدي : يعني القرآن { نهدي } على عظمتنا { به من نشاء } خاصة لا يقدر أحد على هدايته بغير مشيئتنا { من عبادنا } بخلق الهداية في قلبه بالتوفيق فهذه لا يقدر عليها أحد غير الله تعالى ، وأما الهداية بالتبيين والإرشاد فهي قوله تعالى : { وإنك } يا أفضل الخلق { لتهدي } أي : تبين وترشد وأكده لإنكارهم ذلك { إلى صراط } أي : طريق واضح جداً { مستقيم } أي : شديد التقوم وهو دين الإسلام .