وقوله : { أكان للناس عجباً } الآية ، قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : نسبت هذه الآية أن قريشاً استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر ، وقال الزجاج : إنما عجبوا من إخباره أنهم يبعثون من القبور إذ النذارة والبشارة تتضمنان ذلك ، وكثر كلامهم في ذلك حتى قال بعضهم : أما وجد الله من يبعث إلا يتيم أبي طالب ، ونحو هذا من الأقاويل التي اختصرتها لشهرتها فنزلت الآية ، وقوله : { أكان } تقرير{[6000]} والمراد ب «الناس » قائلوا هذه المقالة ، و { عجباً } خبر كان واسمها { أن أوحينا } ، وفي مصحف ابن مسعود «أكان للناس عجب » وجعل الخبر في قوله { أن أوحينا } والأول أصوب لأن الاسم معرفة والخبر نكرة وهذا القلب لا يصح ولا يجيء إلا شاذاً{[6001]} ومنه قول حسان : [ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يكون مزاجها عسلٌ وماء{[6002]}
ولفظة العجب هنا ليست بمعنى التعجب فقط بل معناه أَوَصَل إنكارهم وتعجبهم إلى التكذيب ؟ وقرأت فرقة «إلى رجل » بسكون الجيم ، ثم فسر الوحي وقسمه عل النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين ، و «القدم » هنا : ما قدم ، واختلف في المراد بها ها هنا فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم في موته ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ ، وهذا أليق الأقوال بالآية ، ومن هذه اللفظة قول حسان : [ الطويل ]
لنا القدم العليا إليك وخلْفَنا *** لأوّلنا في طاعةِ اللهِ تابعُ{[6003]}
لكم قدم لا ينكر الناس أنها*** مع الحسب العادي طمت على البحر{[6004]}
ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : «حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط »{[6005]} ، أي ما قدم لها من خلقه ، هذا على أن الجبار اسم الله تعالى ، ومن جعله اسم جنس كأنه أراد الجبارين من بني آدم ، ف «القدم » على التأويل الجارحة{[6006]} والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول رجل صدق ورجل سوء{[6007]} ، وقوله { قال الكافرون } يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله أكان وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا ، وذهب الطبري إلى أن في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا ، وقرأ جمهور الناس وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر «إن هذا لسحر مبين » ، وقرأ مسروق بن الأجدع وابن جبير والباقون من السبعة وابن مسعود وأبو رزين ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر بخلاف ، وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «إنه لساحر » والمعنى متقارب ، وفي مصحف أبي «قال الكافرون ما هذا إلا سحر مبين » ، وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم وحال بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله الساحر فظنوه من ذلك الباب .
{ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا أن لهم قد صدق عند ربهم } .
الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن جملة { تلك آيات الكتاب الحكيم } [ يونس : 1 ] بما فيها من إبهام الداعي إلى التوقف على آيات الكتاب الحكيم تثير سؤالاً عن ذلك الداعي فجاءت هذه الجملة تبيّن أن وجه ذلك هو استبعاد الناس الوحي إلى رجل من الناس استبعادَ إحالة . وجاءت على هذا النظم الجامع بين بيان الداعي وبين إنكار السبب الذي دَعا إليه وتجهيل المتسببين فيه ، ولك أن تجعله استئنافاً ابتدائياً ، لأنه مبدأ الغرض الذي جاءت له السورة ، وهو الاستدلال على صدق الرسول وإثبات البعث .
فالهمزة للاستفهام المستعمل في الإنكار ، أي كيف يتعجبون من ذلك تعجب إحالة .
وفائدة إدخال الاستفهام الإنكاري على ( كان ) دون أن يقال : أعجِبَ الناسُ ، هي الدلالة على التعجيب من تَعَجُّبهم المراد به إحالة الوحي إلى بَشر .
والمعنى : أحدث وتقرر فيهم التعجب من وحينا ، لأن فعل الكون يشعر بالاستقرار والتمكن فإذا عبر به أشعَرَ بأن هذا غير متوقَّع حصوله .
و { للناس } متعلق ب { كَان } لزيادة الدلالة على استقرار هذا التعجب فيهم ، لأن أصل اللام أن تفيد الملك ، ويستعار ذلك للتمكن ، أي لتمكن الكون عجباً من نفوسهم .
و { عَجباً } خبر { كان } مقدم على اسمها للاهتمام به لأنه محل الإنكار .
و { أنْ وأحينا } اسم كان ، وجيء فيه ب ( أنْ ) والفعل دون المصدر الصريح وهو وَحْينا ليتوسل إلى ما يفيده الفعل من التجدد وصيغة المضي من الاستقرار تحقيقاً لوقوع الوحي المتعجب منه وتجدده وذلك ما يزيدهم كمداً .
والعجب : مصدر عَجِب ، إذا عَدَّ الشيءَ خارجاً عن المألوف نادر الحصول . ولما كان التعجب مبدأ للتكذيب وهم قد كذبوا بالوحي إليه ولم يقتصروا على كونه عجيباً جاء الإنكار عليهم بإنكار تعجبهم من الإيحاء إلى رجل من البشر لأن إنكار التعجب من ذلك يؤول إلى إنكار التكذيب بالأوْلى ويَقلع التكذيب من عروقه .
ويجوز أن يكون العجب كناية عن إحالة الوقوع ، كما في قوله تعالى : { قالت يا ويْلتي أألِدُ وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله } في سورة [ هود : 72 ، 73 ] وقوله : { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم } في سورة [ الأعراف : 63 ] . وكانت حكاية تعجبهم بإدماج ما يفيد الرد عليهم بأن الوحي كانَ إلى رجل من الناس وذلك شأن الرسالات كلها كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يُوحى إليهم } [ النحل : 43 ] وقال : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [ الأنعام : 9 ] وقال : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } [ الإسراء : 95 ] .
وأطلق { الناس } على طائفة من البشر ، والمراد المشركون من أهل مكة لأنهم المقصود من هذا الكلام .
وهذا الإطلاق مثل ما في قوله : { إن الناس قد جمعوا لكم } [ آل عمران : 173 ] . وعن ابن عباس أنكرت طائفة من العرب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا : الله أعظم من أن يكون له رسول بشراً ، فأنزل الله تعالى : { أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } .
و { أن } في قوله : { أن أنذر الناس } تفسيرية لفعل { أوحينا } لأن الوحي فيه معنى القول .
و { الناس } الثاني يعم جميع البشر الذين يمكن إنذارهم ، فهو عموم عرفي . ولكون المراد ب { الناس } ثانياً غير المراد به أولَ ذُكر بلفظه الظاهر دون أن يقال : أن أنذرهم .
ولما عطف على الأمر بالإنذار الأمرُ بالتبشير للذين آمنوا بقي { الناس } المتعلق بهم الإنذار مخصوصاً بغير المؤمنين .
وحذف المنذر به للتهويل ، ولأنه يُعلم حاصله من مقابلته بقوله : { وبشر الذين آمنوا أن لهم قَدَم صدق } ، وفعل التبشير يتعدى بالباء ، فالتقدير : وبشر الذين آمنوا بأن لهم قدم صدق ، فحذف حرف الجر مع ( أنَّ ) جرياً على الغالب .
والقَدم : اسم لما تَقدم وسلَف ، فيكون في الخير والفضل وفي ضده . قال ذو الرمة :
لكم قَدم لا ينكِر الناس ألها *** مع الحَسَب العادِيّ طَمَّت على البحر
وذكر المازري في « المُعْلم » عن ابن الأعرابي : أن القدم لا يعبر به إلا عن معنى المقدم لكن في الشرف والجلالة . وهو فَعَل بمعنى فاعل مثل سلَف وثَقَل . قال ابن عطية : ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : " حتى يضع رب العزة فيها قَدَمه فتقول قط قط " يشير إلى حديث أنس بن مالك قال نبيء الله صلى الله عليه وسلم ما تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة ( وفي رواية الجبار ) فيها قدمه فتقول قط قط ، وعزتك . ويُزوَى بعضُها إلى بعض . وهذا أحد تأويلين لمعنى « قَدمه » . وأصل ذلك في « المُعلم على صحيح مسلم » للمازري وعزاه إلى النضر بن شميل .
والمراد ب { قدم صدق } في الآية قدم خَير ، وإضافة { قدم } إلى { صِدق } من إضافة الموصوف إلى الصفة . وأصله قدمٌ صِدقٌ ، أي صادق وهو وصف بالمصدر : فعلى قول الجمهور يكون وصف { صدق } ل { قدم } وصفاً مقيِّداً . وعلى قول ابن الأعرابي يكون وصفاً كاشفاً .
والصدق : موافقة الشيء لاعتقاد المعتقد ، واشتهر في مطابقة الخَبر . ويضاف شيء إلى ( صدق ) بمعنى مصادفته للمأمول منه المرضي وأنه لا يخيب ظن آمل كقوله : { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق } [ يونس : 90 ] وقوله : { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } [ القمر : 55 ] .
وقوله : { أن أنذر الناس } تفسير لفعل { أوحينا } . وإنما اقتصر على ذكر هذا الموحى به لأن ذلك هو الذي حملهم على التكذيب إذ صادف صرفهم عن ضلاله دينهم وسمعوا منه تفضيل المؤمنين عليهم . وإيضاً في ذكر المفسِّر إدماج لبشارة المؤمنين بهذه المزية .
{ قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لساحر مُّبِينٌ }
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : { أكان للناس عجباً } الخ . ووجه هذا الإبدال أن قولهم هذا ينبىء عن بلوغ التعجب من دعوى الوحي والرسالة من نفوسهم مزيد الإحالة والتكذيب حتى صاروا إلى القول : { إن هذا لسحر مبين } [ يونس : 76 ] أو { إن هذا لساحِر مبين } فاسم الإشارة راجع إلى ما تضمنته جملة { أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا } .
وقرأه الجمهور « لسِحْر » بكسر السين وسكون الحاء على أن المراد به الحاصل بالمصدر ، أي أن هذا الكلام كلام السحرِ ، أي أنه كلام يُسحر به . فقد كان من طرق السحر في أوهامهم أن يقول الساحر كلاماً غير مفهوم للناس يوهمهم أن فيه خصائص وأسماء غير معروفة لغير السحرة ، فالإشارة إلى الوحي .
وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي { لسَاحر } فالإشارة إلى رجل من قوله : { إلى رجل منهم } وهو النبي صلى الله عليه وسلم وإن وصفهم إياه بالسحر ينبىء بأنهم كذبوا بكونه من عند الله ولم يستطيعوا أن يدعوه هذياناً وباطلاً فهرعوا إلى ادعائه سِحراً ، وقد كان من عقائدهم الضالة أن من طرائق السحر أن يقول الساحر أقوالاً تستنزل عقول المسحورين . وهذا من عجزهم من الطعن في القرآن بمطاعن في لفظه ومعانيه .
والسحر : تخييل ما ليس بكائن كائناً . وقد تقدم عند قوله تعالى : { يعلمون الناس السحر } في سورة [ البقرة : 102 ] .
والمبين : اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان ، أي ظهر ، أي سحر واضح ظاهر . وهذا الوصف تلفيق منهم وبهتان لأنه ليس بواضح في ذلك بل هو الحق المبين .