المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

189- ويسألك قوم عن الهلال{[14]} يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يكتمل ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، ولا يكون على حالة واحدة كالشمس . فما وراء هذا التغير ، حتى صار في كل شهر هلال وصارت هناك أهلة ؟ . فقل لهم : إن لتكرار هذه الأهلة واختلاف نموها حِكَماً ومصالح دينية ودنيوية ، فهي أمارات تحدد أوقات المعاملات في معاشكم ، وتعيِّن أوقات الحج الذي هو من أركان دينكم ، ولو استقر الهلال على حاله كالشمس ما استقام لكم توقيت معاشكم وحجكم ، وليس جهلكم بحكمة اختلاف الهلال مدعاة للشك في حكمة الخالق ، وليس من البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ، متميزين بذلك عن الناس ، ولكن البر هو تقوى القلوب وإخلاصها وأن تأتوا البيوت من أبوابها كما يأتي كل الناس ، وأن تطلبوا الحق والدليل المستقيم ، فاطلبوا رضا الله ، واتقوا عذابه ، وارجوا بذلك فَلاَحَكُمْ وفوزكم ونجاتكم من عذاب النار .


[14]:إن القمر يعكس ضوء الشمس نحو الأرض من أجزاء سطحه المرئية والمضيئة فتظهر الأهلة، فإذا كان القمر في (الاقتران) أي بين الشمس والأرض فهو في المحاق ويبدأ ميلاد الهلال الجديد لجميع سكان الأرض، وإذا كان في الاستقبال أي الجهة المقابلة للشمس بالنسبة للأرض يظهر بدرا ثم يأخذ في التناقص حتى الاقتران الثاني، وتتم الدورة الاقترانية أي الشهر العربي في مدى 5309 ر29 يوما وعلى ذلك فإنه يمكن تعيين التاريخ العربي من ساعة الهلال وشدة إضاءته، فإذا شوهد الهلال خطا رفيعا عند الأفق الغربي وغرب بعد الغروب ببضع دقائق تمكن الرؤية بعد هذا الغروب، وتثبت بداية الشهر ويتيسر تعيين التاريخ من هذا الشهر للناس. ودورة القمر هي التي علمت الناس حساب الشهور ومنها شهر الحج وبدايته.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }( 189 )

وقوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } الآية ، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم : نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ؟ ، وجمع { الأهلّة } وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالاً في الآخر ، فإنما جمع أحواله( {[1763]} ) من الهلالية( {[1764]} ) ، والهلال ليلتان بلا خلاف ثم يقمر( {[1765]} ) ، وقيل ثلاث .

وقال الأصمعي : هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق( {[1766]} ) ، وقيل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع .

وقوله : { مواقيت } معناه لمحل( {[1767]} ) الديون وانقضاء العدد والأكرية وما أشبه هذا من مصالح العباد( {[1768]} ) ، ومواقيت الحج أيضاً يعرف بها وقته وأشهره ، و { مواقيت } لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الآحاد ، فهو جمع ونهاية إذ ليس يجمع ، وقرأ ابن أبي إسحاق «والحِج » بكسر الحاء في جميع القرآن ، وفي قوله «حج البيت » في آل عمران .

قال سيبويه : الحج كالرد والشد ، والحج كالذكر ، فهما مصدران بمعنى ، وقيل : الفتح مصدر والكسر الاسم .

وقوله تعالى : { وليس البر } الآية( {[1769]} ) ، قال البراء بن عازب والزهري وقتادة : سببها أن الأنصار كانوا إذا حجوا أو اعتمروا يلتزمون تشرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدرات ، وقيل : كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فتوحاً يدخلون منها ولا يدخلون من الأبواب ، وقيل غير هذا مما يشبهه فاختصرته ، فجاء رجل منهم فدخل من باب بيته فعيّر بذلك ، فنزلت الآية فيه( {[1770]} ) .

وقال إبراهيم : «كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز » .

وقال السدي : ناس من العرب ، وهم الذين يسمون الحمس ، قال : فدخل النبي صلى الله عليه وسلم باباً ومعه رجل منهم ، فوقف ذلك الرجل( {[1771]} ) وقال إني أحمس ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أحمس ، ونزلت الآية .

وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وخلفه رجل أنصاري فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم دخلت وأنت قد أحرمت ؟ ، قال : دخلت أنت فدخلت بدخولك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إني أحمس ، أي من قوم لا يدينون بذلك ، فقال الرجل : وأنا ديني دينك ، فنزلت الآية .

قال أبو عبيدة( {[1772]} ) : الآية ضرب مثل ، المعنى : ليس البر أن تسألوا الجهَّال ولكن اتقوا واسألوا العلماء ، فهذا كما يقال أتيت هذا الأمر من بابه .

وقال غير أبي عبيدة : «المعنى ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلّة وغيرها فتأتون الأمور على غير ما يجب »( {[1773]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتمل والأول أسدُّ( {[1774]} ) ، وأما ما حكاه المهدوي ومكي عن ابن الأنباري من أن الآية مثل في جماع النساء( {[1775]} ) فبعيد مغير نمط الكلام ، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي ونافع بخلاف عنه «البِيوت » بكسر الباء ، وقرأ بعض القراء «ولكنَّ البرَّ » بتشديد نون «لكنَّ » ونصب «البرَّ » ، وقد تقدم القول على { من } في قوله { من آمن بالله } [ البقرة : 177 ] { واتقوا } معناه اجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية ، و { لعلكم } ترجٍّ في حق البشر ، والفلاح درك البغية .


[1763]:- يعني أن جمعه باعتبار أحواله واختلاف زمانه تنزيلا لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات.
[1764]:- أي من صفاته الهلالية في كل شهر، أو في كل ليلة.
[1765]:- اختلف في تسميته هلالا بعد ليلتين، فقيل: يسمى هلالا ثلاث ليال، وبعدها يسمى قمراً وقيل يسمى هلالا إلى سبع ليال ثم يكون قمراً.
[1766]:- تفسير لما قبله.
[1767]:- المحِلّ (بكسر الحاء) أجل الدين.
[1768]:- أشار بهذا إلى قوله تعالى: (للناس) على حذف مضاف، أي: لمصالحهم ومقاصدهم، فالحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف تشكلاتها ما يتعلق بها من مصالح الدنيا والدين – وفي الآية دلالة على أن الصوم لا يثبت بالعدد، بل بالهلال لأنه سبحانه نص على أن الأهلة هي المعتبرة في المواقيت، ولذلك اختلف حالها عن حال الشمس. تنبيه: السؤال كان عن السبب في التشكلات والتغيّرات النورية حيث قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان ولا يكون على حال واحدة؟ ولما كان ذلك مبنيا على أمور عقلية خفية تدرك من علم الفلك والهيئة. والشريعة إنما جاءت لتعلم الناس ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم لا لتعلم علوم الفلك والطبيعة أجابهم إلى ما هو خير من طلبهم، ونبههم إلى أن السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم، ولو كان ما طلبوه مما يقصد شرعا لأجابهم إليه، وهذا الجواب يسمى عند علماء البيان بالأسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب، والمخاطب بغير ما يترقب رعاية لمصلحته، وتحقيقا لما يتوقف عليه في حياته. ونص القزويني في تلخيص المفتاح في هذا الموضوع: «ومن خلاف المقتضى تلقي (المخاطب) بغير ما يترقب، بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد كقول القبعثري للحجاج – وقد قال له متوعدا – لأحملنك على الأدهم: (مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب). أي من كان مثل الأمير في السلطان وبسطة اليد، فجدير بأن يصفُد لا أن يُصْفَد – أو السامع بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيهاً على أنه الأولى بحاله أو المهم له. كقوله تعالى: [يسألونك عن الأهلة قل: هي مواقيت للناس والحج]. قال سعد الدين التفتازاني رحمه الله بعد ذكر سبب الآية ما نصه: والأليق بحالهم أن يسألوا عن ذلك، أي عن الغرض والحكمة، لأنهم ليسوا ممن يطلعون بسهولة على دقائق علم الهيئة، ولا يتعلق لهم به غرض» ا. هـ. وهذه كلمة نابية في حق الصحابة رضوان الله عليهم، كيف وهم قادرون على إدراك ذلك وأكثر منه لفرط ذكائهم وسلامة فطرتهم وصفاء سريرتهم – فقد قال الإمام القرافي رحمه الله في كتاب الفروق: «أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بحاراً في العلوم على اختلاف أنواعها من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسيات والعلوم الباطنة والظاهرة، حتى يروى أن عليا رضي الله عنه جلس عند ابن عباس في الباء من (بسم الله) من العشاء إلى أن طلع الفجر، مع أنهم لم يدرسوا ورقة ولا قرؤوا كتاباً، ولا تفرغوا من الجهاد وقتال الأعداء، ومع ذلك كانوا على هذه الحالة حتى قال بعض الأصوليين: لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته» ا. هـ. وقال أيضا: من نوادر المسائل الفقهية التي يدخل فيها الحساب المسألة المحكية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أن رجلين كان لأحدهما خمسة أرغفة وللآخر ثلاثة أرغفة، فجلسا يأكلان فأكل معهما ثالث ثم بعد الفراغ من الأكل دفع لهما ثمانية دراهم وقال: اقسما هذه الدراهم – على قدر ما أكلته – لكما. فقال صاحب الثلاثة: إنه أكل نصف أكله من أرغفتي ونصف أكله من أرغفتك فأعطني النصف من الدراهم، فقال له الآخر: لا أعطيك إلا ثلاثة دراهم لأن لي خمسة أرغفة، ولك ثلاثة أرغفة فآخذ خمسة دراهم، وتأخذ ثلاثة دراهم، فحلف صاحب الثلاثة لا يأخذ إلا ما حكم به الشرع فترافعا إلى علي رضي الله عنه فحكم لصاحب الثلاثة بدرهم واحد، ولصاحب الخمسة بسبعة دراهم فشكا من ذلك صاحب الثلاثة، فقال له علي رضي الله عنه: الأرغفة ثمانية، وأنتم ثلاثة، أكل كل واحد منكم ثلاثة أرغفة إلا ثلثا بقي لك ثلث من أرغفتك أكله صاحب الدراهم، وأكل صاحبك من أرغفته ثلاثة إلا ثلثا وهي خمسة يبقى له رغيفان وثلث، وذلك سبعة أثلاث أكلها صاحب الدراهم فأكل لك ثلثا، وأكل له سبعة أثلاث، فلك درهم وله سبعة دراهم. فهذه مسألة من دقيق الحساب أدركها رضي الله عنه بمجرد الالتفات إليها، وكم له رضي الله عنه من جواب خاص في مسائل من الفرائض والمساحات كمسألة حفر البئر المشهورة. ومن هنا كان من الواجب طلب العلوم والاطلاع عليها، فإن كثيرا من مسائل الحياة لا تعلم إلا بالعمليات الحسابية والهندسية الدقيقة. والله أعلم.
[1769]:- لما ذكر الله سبحانه وقت الإحرام الذي هو من فوائد الأهلة بقوله: [يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج] استطرد منه إلى ذكر ما كانوا يفعلونه في الحج بقوله: [وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها]، وهذا الاستطراد موجود في كتاب الله عز وجل، ومن ذلك قوله تعالى: [يا أيها النبي اتّق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما، واتّبع ما يوحى إليك من ربّك إن الله كان بما تعملون خبيرا، وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا] أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتقواه، واتباع ما أوحى إليه والتوكل عليه دون غيره، ثم اتبع ذلك بقوله: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)، ويعني أن الإنسان ليس له إلا قلب واحد، وأن القلب ليس له إلا وجهة واحدة، فإن لم يتجه إلى تقوى ربه، واتباع وحيه، والتوكل عليه، ولم يفرد ربه بذلك، انصرف عنه إلى غيره، ثم استطرد من ذلك أن الله لم يجعل زوج الرجل أمه، ولم يجعل دعيَّه ابنه، وهذا من الوحي الذي يجب اتباعه ظاهرا والإيمان به باطنا، فانظر ما أحلى هذا الاستطراد وما أحسنه.
[1770]:- روى البخاري، وغيره، عن أبي اسحق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عُيِّر بذلك فنزلت: [وليس البر] الآية، وجاء في بعض الروايات تعيين الرجل وأنه قطبة بن عامر الأنصاري.
[1771]:- أي لم يدخل الباب لأنه من الحمس، وهذا على ما قاله السدي. وهناك قول آخر وهو أنهم لا يدينون بهذا الدين، وهو ترك الدخول من باب البيت كما يأتي عند ابن عطية في قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاري: (إني أحمس)، أي من قوم لا يدينون بذلك. ففي الحمس قولان – قيل: إنهم يفعلون ذلك، وقيل إنهم لا يدينون بذلك. وإنما سموا حمسا لتشددهم في دينهم، والحماسة الشدة، والحمس جمع أحمس وحمساء.
[1772]:- الآية حملت على معنى حقيقي ومعنى مجازي في إتيان البيوت من أبوابها، والمعنى الحقيقي هو ما شرح به ابن عطية أولا، ونقله عن البراء بن عازب، وقتادة، والزهري، والسدي، والربيع بن أنس، وقد أشار بقوله: «وقال أبو عبيدة» إلى حمل الآية على المعنى المجازي.
[1773]:- يعني أن إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح. وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح، وذلك أن الاستدلال بالعلوم على المظنون هو الطريق المستقيم، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلا الصواب، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة وذلك هو الطريق الصحيح، أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم فهو استدلال بالمجهول على المعلوم، فالمعنى أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق فقد أتيتم البيت من ظهره لا من بابه، وهذا غير ما يجب، فإن الواجب هو أن تستدلوا بالمعلوم على المجهول، لا بالمجهول على المعلوم. قال معناه (ح).
[1774]:- هو ما قاله أبو عبيدة: اطلبوا البر من أهله ووجهه، ولا تطلبوه من الجهلة المشركين فمن أتى البيت من بابه فقد أصاب، ومن أتاه من خلفه فقد أخطأ.
[1775]:- أي لا تأتوا النساء في أدبارهن بل في قبلهن.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

اعتراض بين شرائع الأحكام الراجعة إلى إصلاح النظام ، دعا إليه ما حدث من السؤال ، فقد روى الواحدي أنها نزلت بسبب أن أحد اليهود سأل أنصارياً عن الأهلة وأحوالها في الدقة إلى أن تصير بدراً ثم تتناقص حتى تختفي فسأل الأنصاري رسول الله فنزلت هذه الآية ، ويظهر أن نزولها متأخر عن نزول آيات فرض الصيام ببضع سنين ؛ لأن آية : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } متصلة بها . وسيأتي أن تلك الآية نزلت في عام الحديبية أو عام عمرة القضية . فمناسبة وضعها في هذا الموضع هي توقيت الصيام بحلول شهر رمضان ، فكان من المناسبة ذكر المواقيت لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه ، ومن كمال النظام ضبط الأوقات ، ويظهر أن هذه الآية أيضاً نزلت بعد أن شرع الحج أي بعد فتح مكة ، لقوله تعالى : { قل هي مواقيت للناس والحج } .

وابتدئت الآية ب { يسألونك } لأن هنالك سؤالاً واقعاً عن أمر الأهلة . وجميع الآيات التي افتتحت ب { يسألونك } هي متضمنة لأحكام وقع السؤال عنها فيكون موقعها في القرآن مع آيات تناسبها نزلت في وقتها أو قرنت بها . وروي أن الذي سأله عن ذلك معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة الأنصاري فقالا : ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يزيد حتى يمتلىء ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، قال العراقي لم أقف لهذا السبب على إسناد .

وجمع الضمير في قوله : { يسألونك } مع أن المروي أن الذي سأله رجلان نظراً لأن المسؤول عنه يهم جميع السامعين أثناء تشريع الأحكام ؛ ولأن من تمام ضبط النظام أن يكون المسؤول عنه قد شاع بين الناس واستشرف كثير منهم لمعرفته سواء في ذلك من سأل بالقول ومن سأل في نفسه .

وذكر فوائد خلق الأهلة في هذا المقام للإيماء إلى أن الله جعل للحج وقتاً من الأشهر لا يقبل التبديل وذلك تمهيداً لإبطال ما كان في الجاهلية من النسىء في أشهر الحج في بعض السنين .

والسؤال : طلب أحدٍ من آخر بذلَ شيء أو إخباراً بخبر ، فإذا كان طلب بذل عُدّي فعل السؤال بنفسه وإذا كان طلب إخبار عدي الفعل بحرف « عن » أو ما ينوب منابه .

وقد تكررت في هذه السورة آيات مفتتحة ب { يسألونك } وهي سبع آيات غير بعيد بعضها عن بعض ، جاء بعضها غير معطوف بحرف العطف وهي أربع وبعضها معطوفاً به وهي الثلاث الأواخر منها ، وأما غير المفتتحة بحرف العطف فلا حاجة إلى تبيين تجردها عن العاطف ؛ لأنها في استئناف أحكام لا مقارنة بينها وبين مضمون الجمل التي قبلها فكانت جديرة بالفصل دون عطف ، ولا يتطلب لها سوى المناسبة لمواقعها .

وأما الجمل الثلاث الأواخر المفتتحة بالعاطف فكل واحدة منها مشتملة على أحكام لها مزيد اتصال بمضمون ما قبلها فكان السؤال المحكي فيها مما شأنه أن ينشأ عن التي قبلها فكانت حقيقةً بالوصل بحرف العطف كما سيتضح في مواقعها .

والسؤال عن الأهلة لا يتعلق بذواتها إذ الذوات لا يسأل إلا عن أحوالها ، فيُعلم هنا تقدير وحذف أي عن أحوال الأهلة ، فعلى تقدير كون السؤال واقعاً بها غير مفروض فهو يحتمل السؤال عن الحكمة ويحتمل السؤال عن السبب ، فإن كان عن الحكمة فالجواب بقوله : { قل هي مواقيت للناس } جار على وفق السؤال ، وإلى هذا ذهب صاحب « الكشاف » ، ولعل المقصود من السؤال حينئذٍ استثبات كون المراد الشرعي منها موافقاً لما اصطلحوا عليه ؛ لأن كونها مواقيت ليس مما يخفى حتى يسأل عنه ، فإنه متعارف لهم ، فيتعين كون المراد من سؤالهم إن كان واقعاً هو تحقق الموافقة للمقصد الشرعي .

وإن كان السؤال عن السبب فالجواب بقوله : { قل هي مواقيت } غير مطابق للسؤال ، فيكون إخراجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بصرف السائل إلى غير ما يتطلب ، تنبيهاً على أن ما صرف إليه هو المهم له ، لأنهم في مبدأ تشريع جديد والمسؤول هو الرسول عليه الصلاة والسلام وكان المهم لهم أن يسألوه عما ينفعهم في صلاح دنياهم وأخراهم ، وهو معرفة كون الأهلة ترتبت عليها آجال المعاملات والعبادات كالحج والصيام والعدة ، ولذلك صرفهم عن بيان مسؤولهم إلى بيان فائدة أخرى ، لا سيما والرسول لم يجيء مبيناً لعلل اختلاف أحوال الأجرام السماوية ، والسائلون ليس لهم من أصول معرفة الهيئة ما يهيئهم إلى فهم ما أرادوا علمه بمجرد البيان اللفظي بل ذلك يستدعى تعليمهم مقدمات لذلك العلم ، على أنه لو تعرض صاحب الشريعة لبيانه لبين أشياء من حقائق العلم لم تكن معروفة عندهم ولا تقبلها عقولهم يومئذٍ ، ولكان ذلك ذريعة إلى طعن المشركين والمنافقين بتكذيبه ، فإنهم قد أسرعوا إلى التكذيب فيما لم يطلعوا على ظواهره كقولهم : { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة } [ سبأ : 7 ، 8 ] وقولهم : { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلاّ اختلاق } [ ص : 7 ] وعليه فيكون هذا الجواب بقوله : { هي مواقيت للناس والحج } تخريجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر كقول الشاعر . أنشده في « المفتاح » ولم ينسبه ولم أقف على قائله ولم أره في غيره :

أتت تشتكي منّي مزاولة القرى *** وقد رأت الأضياف يَنْحَوْن منزلـي

فقلت لها لمّا سمعت كلامهــا *** هم الضيف جِدِّي في قراهم وعجِّلي

وإلى هذا نحا صاحب « المفتاح » وكأنه بناه على أنهم لا يظن بهم السؤال عن الحكمة في خلق الأهلة لظهورها ، وعلى أن الوارد في قصة معاذ وثعلبة يشعر بأنهما سألا عن السبب إذ قالا : ما بال الهلال يبدو دقيقاً الخ .

والأهلة : جمع هلال وهو القمر في أول استقباله الشمس كل شهر قمري في الليلة الأولى والثانية ، قيل والثالثة ، ومن قال إلى سبع فإنما أراد المجاز ، لأنه يشبه الهلال ، ويطلق الهلال على القمر ليلة ست وعشرين وسبع وعشرين لأنه في قدر الهلال في أول الشهر ، وإنما سمي الهلال هلالاً لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم بالإخبار عنه ينادي بعضهم بعْضاً لذلك ، وإن هَلَّ وأهَلَّ بمعنى رفع صوته كما تقدم في قوله تعالى : { وما أهل به لغير الله } [ البقرة : 173 ] .

وقوله : { مواقيت للناس } أي مواقيت لما يُوقَّت من أعمالهم فاللام للعلة أي لفائدة الناس وهو على تقدير مضاف أي لأعمال الناس ، ولم تذكر الأعمال الموقَّتة بالأهلة ليشمل الكلام كل عمل محتاج إلى التوقيت ، وعطف الحج على الناس مع اعتبار المضاف المحذوف من عطف الخاص على العام للاهتمام به واحتياج الحج للتوقيت ضروري ؛ إذ لو لم يوقّت لجاء الناس للحج متخالفين فلم يحصل المقصود من اجتماعهم ولم يجدوا ما يحتاجون إليه في أسفارهم وحلولهم بمكة وأسواقها ؛ بخلاف الصلاة فليست موقتة بالأهلة ، وبخلاف الصوم فإن توقيته بالهلال تكميلي له ؛ لأنه عبادة مقصورة على الذات فلو جاء بها المنفرد لحصل المقصد الشرعي ولكن شُرع فيه توحيد الوقت ليكون أخف على المكلفين ، فإن الصعب يخف بالاجتماع وليكون حالهم في تلك المدة متماثلاً فلا يشق أحد على آخر في اختلاف أوقات الأكل والنوم ونحوهما .

والمواقيت جمع ميقات والميقات جاء بوزن اسم الآلة من وقَّت وسمى العرب به الوقت ، وكذلك سُمي الشهر شهراً مشتقاً من الشهرة ، لأن الذي يرى هلال الشهر يشهره لدى الناس . وسمى العرب الوقت المعيَّن ميقاتاً كأنه مبالغة وإلاّ فهو الوقت عينه . وقيل : الميقات أخص من الوقت ، لأنه وقت قُدّر فيه عمل من الأعمال ، قلت : فعليه يكون صوغه بصيغة اسم الآلة اعتباراً بأن ذلك العمل المعيَّن يكون وسيلة لتحديد الوقت فكأنه آلة للضبط والاقتصار على الحج دون العمرة لأن العمرة لا وقت لها فلا تكون للأهلة فائدة في فعلها .

ومجيء ذكر الحج في هاته الآية ، وهي من أول ما نزل بالمدينة ، ولم يكن المسلمون يستطيعون الحج حينئذٍ لأن المشركين يمنعونهم إشارة إلى أن وجوب الحج ثابت ولكن المشركين حالوا دون المسلمين ودونه{[177]} . وسيأتي عند قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } في [ سورة آل عمران : 97 ] وعند قوله : { الحج أشهر معلومات } [ البقرة : 197 ] في هذه السورة .

معطوفة على { يسألونك } وليست معطوفة على جملة { هي مواقيت } لأنّه لم يكن مما سألوا عنه حتى يكون مقولاً للمجيب . ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها أن سبب نزولها كان موالياً أو مقارناً لسبب نزول الآية التي قبلها وأن مضمون كلتا الجملتين كان مثار تردد وإشكال عليهم من شأنه أن يسأل عنه ، فكانوا إذا أحرموا بالحج أو العمرة من بلادهم جعلوا من أحكام الإحرام ألا يدخل المحرم بيته من بابه أو لا يدخل تحت سقف يحول بينه وبين السماء ، وكان المحرمون إذا أرادوا أخذ شيء من بيوتهم تسنَّموا على ظهور البيوت أو اتخذوا نقباً في ظهور البيوت إن كانوا من أهل المدر ، وإن كانوا من أهل الخيام دخلوا من خلف الخيمة ، وكان الأنصار يدينون بذلك ، وأما الحُمس فلم يكونوا يفعلون هذا ، والحمس جمع أحمس والأحمس المتشدد بأمر الدين لا يخالفه ، وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجُشم وبنو نصر ابن معاوية ومدلج وعَدوان وعَضْل وبنو الحارث بن عبد مناة ، وبنو عامر بن صعصعة وكلهم من سكان مكة وحرمها ما عدا بني عامر بن صعصعة فإنهم تحمسوا لأن أمهم قرشية .

ومعنى نفي البر عن هذا نفي أن يكون مشروعاً أو من الحنيفية ، وإنما لم يكن مشروعاً لأنه غلو في أفعال الحج ، فإن الحج وإن اشتمل على أفعال راجعة إلى ترك الترفه عن البدن كترك المخيط وترك تغطية الرأس إلاّ أنه لم يكن المقصد من تشريعه إعنات الناس بل إظهار التجرد وترك الترفه ، ولهذا لم يكن الحمس يفعلون ، ذلك لأنهم أقرب إلى دين إبراهيم ، فالنفي في قوله : { وليس البر } نفي جنس البر عن هذا الفعل بخلاف قوله المتقدم { ليس البر أن تولوا وجوهكم } [ البقرة : 177 ] والقرينة هنا هي قوله : { وأتوا البيوت من أبوابها } ولم يقل هنالك : واستقبلوا أية جهة شئتم ، والمقصود من الآيتين إظهار البر العظيم وهو ما ذكر بعد حرف الاستدراك في الآيتين بقطع النظر عما نفي عنه البر ، وهذا هو مناط الشبه والافتراق بين الآيتين .

روى الواحدي في « أسباب النزول » أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ عام الحديبية من المدينة وأنه دخل بيتاً وأن أحداً من الأنصار ، قيل : اسمه قطبة بن عامر وقيل : رفاعة بن تابوت . كان دخل ذلك البيت من بابه اقتداء برسول الله فقاله له النبي صلى الله عليه وسلم لم دخلت وأنْتَ قد أحرمت ؟ فقال له الأنصاري : دخلت أنت فدخلت بدخولك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إني أحمس فقال له الأنصاري : وأنا ديني دينك رضيت بهديك فنزلت الآية ، فظاهر هذه الروايات أن الرسول نهى غير الحُمس عن ترك ما كانوا يفعلونه حتى نزلت الآية في إبطاله ، وفي « تفسير ابن جرير وابن عطية » عن السدي ما يخالف ذلك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل باباً وهو محرم وكان معه رجل من أهل الحجاز فوقف الرجل وقال : إني أحمس فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : وأنا أحمس فنزلت الآية ، فهذه الرواية تقتضي أن النبي أعلن إبطال دخول البيوت من ظهورها .

وأن الحمس هم الذين كانوا يدخلون البيوت من ظهورها ، وأقول : الصحيح من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال : كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل فدخل من بابه فكأنَّه عبّر بذلك هذه الآية ، ورواية السدي وهَم ، وليس في الصحيح ما يقتضي أن رسول الله أمر بذلك ولا يظن أن يكون ذلك منه ، وسياق الآية ينافيه .

وقوله : { ولكن البر من اتقى } القول فيه كالقول في قوله تعالى : { ولكن البر من ءامن بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] .

و { اتقى } فعل منزل منزلة اللازم ؛ لأن المراد به من اتصف بالتقوى الشرعية بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات .

وُجر { بأن تأتوا } بالباء الزائدة لتأكيد النفي بلَيْس ، ومقتضى تأكيد النفي أنهم كانوا يظنون أن هذا المنفي من البر ظناً قوياً فلذلك كانَ مقتضى حالهم أن يؤكَّد نفيُ هذا الظن .

وقوله : { وأتوا البيوت من أبوابها } معطوف على جملة { وليس البر } عطف الإنشاء على الخبر الذي هو في معنى الإنشاء ؛ لأن قوله : { ليس البر } في معنى النهي عن ذلك فكان كعطف أمر على نهي .

وهذه الآية يتعين أن تكون نزلت في سنة خمس حين أزمع النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إلى العمرة في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة والظاهر أن رسول الله نوى أن يحج بالمسلمين إن لم يصده المشركون ، فيحتمل أنها نزلت في ذي القعدة أو قبله بقليل .

وقرأ الجمهور « البيوت » في الموضعين في الآية بكسر الباء على خلاف صيغة جمع فَعْل على فُعول فهي كسرةٌ لمناسبة وقوع الياء التحتية بعد حركة الضم للتخفيف كما قرأوا { عيون } [ الحجر : 45 ] . وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء على أصل صيغة الجمع مع عدم الاعتداد ببعض الثقل ؛ لأنه لا يبلغ مبلغ الثقل الموجب لتغيير الحركة ، قال ابن العربي في « العواصم » : والذي أَختاره لنفسي إذا قرأتُ أكسر الحروف المنسوبة إلى قالون إلاّ الهمزة فإني أتركه أصلاً إلاّ فيما يحيل المعنى أو يلبسه ولا أكسر باء بيوت ولا عَين عيون ، وأطال بما في بعضه نظر ، وهذا اختيار لنفسه بترجيح بعض القراءات المشهورة على بعض .

وقد تقدم خلاف القراء في نصب { البر } من قوله : { ليس البر } [ البقرة : 177 ] وفي تشديد نون { لكن } من قوله : { ولكن البر } .

وقوله { واتقوا الله لعلكم تفلحون } أي تظفَرون بمطلبكم من البر : فإن البر في اتباع الشرع فلا تفعلوا شيئاً إلا إذا كان فيه مرضاة الله ولا تتبعوا خطوات المبتدعين الذين زادوا في الحج ما ليس من شرع إبراهيم .

وقد قيل في تفسير الآية وجوه واحتمالات أخرى كلها بعيدة : فقيل إن قوله { وليس البر } مثل ضربه الله لما كانوا يأتونه من النسيء قاله أبو مسلم وفيه بعد حقيقة ومجازاً ومعنى ؛ لأن الآيات خطاب للمسلمين وهم الذين سألوا عن الأهلة ، والنسيء من أحوال أهل الجاهلية ، ولأنه يئول إلى استعارة غير رشيقة ، وقيل : مثل ضرب لسؤالهم عن الأهلة من لا يعلم وأمرهم بتفويض العلم إلى الله وهو بعيد جداً لحصول الجواب من قبل ، وقيل : كانوا ينذرون إذا تعسر عليهم مطلوبهم ألاّ يدخلوا بيوتهم من أبوابها فنهوا عن ذلك وهذا بعيدٌ معنى ، لأن الكلام مع المسلمين وهم لا يفعلون ذلك ، وسَنَداً ، إذ لم يروِ أحد أن هذا سبب النزول .


[177]:فيه نظر, إذ الأظهر أن هذه الآية نزلت بعد فرض الحج كما قدمنا قريبا.