52- وإذا كانت ولايتهم لا يتبعها إلا الظالمون ، فإنك ترى الذين يوالونهم في قلوبهم مرض الضعف والنفاق ، إذ يقولون : نخاف أن تصيبنا كارثة عامة فلا يساعدونا ، فعسى الله أن يحقق الفتح لرسوله والنصر للمسلمين على أعدائهم ، أو يظهر نفاق أولئك المنافقين ، فيصبحوا نادمين آسفين على ما كتموه في نفوسهم من كفر وشك .
وقوله تعالى : { فترى الذين في قلوبهم مرض } الآية ، مخاطبة محمد صلى الله عليه وسلم والإشارة إلى عبد الله بن أبيّ ابن سلول ومن تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني قينقاع ، ويدخل في الآية من كان من مؤمني الخزرج يتابعه جهالة وعصبية ، فهذا الصنف له حظه من مرض القلب ، وقراءة جمهور الناس «ترى » بالتاء من فوق ، فإن جعلت رؤية عين { فيسارعون } حال وفيها الفائدة المقصودة ، وإن جعلت رؤية قلب ف { يسارعون } في موضع المفعول الثاني ، ويقولون حال ، وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «فيرى » بالياء من تحت والفاعل على هذه القراءة محذوف ولك أن تقدر فيرى الله أو فيرى الرأي و { الذين } مفعول ، ويحتمل أن يكون { الذين } فاعل والمعنى أن يسارعوا فحذفت «أن » إيجازاً{[4582]} .
و{ يسارعون فيهم } معناه في نصرتهم وتأنيسهم وتجميل ذكرهم ، وقوله تعالى : { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } لفظ محظوظ عن عبد الله بن أبيّ ، ولا محالة أنه قال بقوله منافقون كثير ، والآية تعطي ذلك ، و { دائرة } معناه نازلة من الزمان وحادثة من الحوادث تحوجنا إلى موالينا من اليهود ، وتسمى هذه الأمور دوائر على قديم الزمان من حيث الليل والنهار في دوران ، فكأن الحادث يدور بدورانها حتى ينزل فيمن نزل ، ومنه قول الله تعالى : { دائرة السوء }{[4583]} و { يتربص بكم الدوائر }{[4584]} .
والدهر بالإنسان دواريّ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4585]}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ويعلم أن النائبات تدور
يرد عنك القدر المقدورا . . . ودائرات الدهر أن تدورا
ويعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الزمان قد استدار » .
قال القاضي أبو محمد : وفعل عبد الله بن أبيّ في هذه النازلة لم يكن ظاهره مغالبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو فعل ذلك لحاربه رسول الله ، وإنما كان يظهر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يستبقيهم لنصرة محمد ولأن ذلك هو الرأي ، وقوله إني امرؤ أخشى الدوائر أي من العرب وممن يحارب المدينة وأهلها ، وكان يبطن في ذلك كله التحرز من النبي والمؤمنين وآلفت في أعضادهم ، وذلك هو الذي أسر هو في نفسه ومن معه على نفاقه ممن يفتضح بعضهم إلى بعض ، وقوله تبارك وتعالى : { فعسى الله } مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ووعد لهم ، و «عسى » من الله واجبة ، واختلف المتأولون في معنى { الفتح } في هذه الآية فقال قتادة : يعني به القضاء في هذه النوازل ، والفتاح القاضي ، فكان هذا الوعد هو مما نزل ببني قينقاع بعد ذلك وبقريظة والنضير ، وقال السدي ؟ يعني به فتح مكة .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر الفتح في هذه الاية ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلو كلمته ، أي فيبدو الاستغناء عن اليهود ويرى المنافق أن الله لم يوجد سبيلاً إلى ما كان يؤمل فيهم من المعونة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر نبوته فيندم حينئذ على ما حصل فيه من محادة الشرع ، وتجلل ثوب المقت من الله تعالى ومن رسوله عليه السلام والمؤمنين كالذي وقع وظهر بعد ، وقوله تعالى : { أو أمر من عنده } قال السدي المراد ضرب الجزية .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر أن هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو ما يتركب على سعي النبي وأصحاب ويسببه جدهم وعملهم ، فوعد الله تعالى إما بفتح بمقتضى تلك الأفعال وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع هو أيضاً فتح لا يقع للبشر فيه تسبيب ، وقوله تعالى : { فيصبحوا } معناه يكونون كذلك طول دهرهم ، وخص الإصباح بالذكر لأن الإنسان في ليله مفكر متستر ، فعند الصباح يرى بالحالة التي اقتضتها فكره أو أمراضه ونحو ذلك ومنه قول الشاعر :
إلى غير هذا من الأمثلة{[4586]} .
والذي أسروه هو ما ذكرناه من التمرس بالنبي صلى الله عليه وسلم وإعداد اليهود للثورة عليه يوماً ما ، وقرأ ابن الزهري «فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين » .
قوله : { فترى الّذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم } تفريع لحالة من موالاتهم أريد وصفها للنّبيء صلى الله عليه وسلم لأنّها وقعت في حضرته . والمرض هنا أطلق على النفاق كما تقدّم في قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } في سورة البقرة ( 10 ) . أطلق عليه مرض لأنّه كفر مفسد للإيمان . والمسارعة تقدّم شرحها في قوله تعالى : { لا يحْزنك الّذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] . وفي المجرور مضاف محذوف دلّت عليه القرينة ، لأنّ المسارعة لا تكون في الذوات ، فالمعنى : يسارعون في شأنهم من موالاتهم أو في نصرتهم .
والقولُ الواقع في { يقولون نَخشى } قولُ لسان لأنّ عبد الله بن أبيّ بنَ سلول قال ذلك ، حسبما رُوي عن عطيّة الحوفي والزهري وعاصم بن عمر بن قتادة أنّ الآية نزلت بعد وقعة بدر أوبعد وقعة أحُد وأنّها نزلت حين عزم رسول الله على قتال بني قينقاع . وكان بنو قينقاع أحلافاً لعبد الله بن أبي بن سلول ولعُبادة بن الصامت ، فلمّا رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فقال : يا رسول الله إنّي أبرأ إلى الله من حِلف يهود وولائهم ولا أوالي إلاّ الله ورسولَه ، وكان عبد الله بن أبيّ حاضراً فقال : أمَّا أنا فلا أبرأ من حلفهم فإنّي لا بدّ لي منهم إنّي رجل أخاف الدّوائر .
ويحتمل أن يكون قولهم : { نخشى أن تصيبنا دائرة } ، قولاً نفسياً ، أي يقولون في أنفسهم . فالدّائرة المخشيّة هي خشية انتقاض المسلمين على المنافقين ، فيكون هذا القول من المرض الّذي في قلوبهم ، وعن السديّ : أنّه لمّا وقع انهزام يوم أحُد فزع المسلمون وقال بعضهم : نأخذ من اليهود حلفاً ليُعاضدونا إن ألمّت بنا قاصمة من قريش . وقال رجل : إنّي ذاهب إلى اليهود فلان فآوي إليه وأتهوّدُ معه . وقال آخر : إنّي ذاهب إلى فلان النّصراني بالشّام فآوي إليه وأتنصّر معه ، فنزلت الآية . فيكون المرض هنا ضعف الإيمان وقلّة الثّقة بنصر الله ، وعلى هذا فهذه الآية تقدّم نزولها قبل نزول هذه السورة ، فإمّا أعيد نزولها ، وإمّا أمر بوضعها في هذا الموضع .
والظاهر أنّ قوله { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين } يؤيّد الرواية الأولى ، ويؤيّد مَحملنا فيها : أنّ القول قول نفسيّ .
والدائرة اسم فاعل من دار إذا عَكس سيره ، فالدائرة تغيّر الحال ، وغلب إطلاقها على تغيّر الحال من خير إلى شرّ ، ودوائر الدّهر : نُوبه ودولُه ، قال تعالى : { ويتربّص بكم الدوائر } [ التوبة : 98 ] أي تبدّل حالكم من نصر إلى هزيمة . وقد قالوا في قوله تعالى : { عليهم دائرة السَّوْء } [ الفتح : 6 ] إنّ إضافة ( دائرة ) إلى ( السَّوْء ) إضافة بيان . قال أبو عليّ الفارسي : لو لم تُضف الدائرة إلى السَّوْء عرف منها معناه . وأصل تأنيثها للمرّة ثمّ غلبت على التغيّر مُلازمة لصبغة التّأنيث .