فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمۡ يَقُولُونَ نَخۡشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٞۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرٖ مِّنۡ عِندِهِۦ فَيُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ نَٰدِمِينَ} (52)

قوله : { فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَرَض يسارعون فِيهِمْ } الفاء للسببية ، والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح له : أي : ما ارتكبوه من الموالاة ووقعوا فيه من الكفر هو بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق . وقوله : { يسارعون } في محل نصب إما على أنه المفعول الثاني إذا كانت الرؤية قلبية أو على أنه حال إذا كانت بصرية ، وجعل المسارعة في موالاتهم مسارعة فيهم للمبالغة في بيان رغوبهم في ذلك ، حتى كأنهم مستقرّون فيهم داخلون في عدادهم . وقد قرئ «فيرى » بالتحتية . واختلف في فاعله ما هو ؟ فقيل : هو الله عزّ وجلّ ؛ وقيل : هو كل من تصح منه الرؤيا ؛ وقيل : هو الموصول ومفعوله : { يسارعون فِيهِمْ } على حذف أن المصدرية : أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم ، فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله :

ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغا *** . . .

والمرض في القلوب : هو النفاق والشك في الدين . وقوله : { يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَة } جملة مشتملة على تعليل المسارعة في الموالاة : أي أن هذه الخشية هي الحاملة لهم على المسارعة ؛ وقيل إن الجملة حال من ضمير يسارعون . والدائرة : ما تدور من مكاره الدهر : أي نخشى أن تظفر الكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فتكون الدولة لهم وتبطل دولته فيصيبنا منهم مكروه ، ومنه قول الشاعر :

يردّ عنك القدر المقدورا *** ودائرات الدهر أن تدورا

أي : دولات الدهر الدائرة من قوم إلى قوم . وقوله : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بالفتح } ردّ عليهم ودفع لما وقع لهم من الخشية ، وعسى في كلام الله وعد صادق لا يتخلف . والفتح : ظهور النبيّ صلى الله عليه وسلم على الكافرين ، ومنه ما وقع من قتل مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم ، وإجلاء بني النضير ؛ وقيل هو فتح بلاد المشركين على المسلمين ؛ وقيل فتح مكة . والمراد بالأمر من عنده سبحانه : هو كل ما تندفع به صولة اليهود ومن معهم وتنكسر به شوكتهم ؛ وقيل : هو إظهار أمر المنافقين وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما أسروا في أنفسهم وأمره بقتلهم ؛ وقيل : هو الجزية التي جعلها الله عليهم ؛ وقيل : الخصب والسعة للمسلمين ، فيصبح المنافقون { على مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِين } من النفاق الحامل لهم على الموالاة { نادمين } على ذلك ؛ لبطلان الأسباب التي تخيلوها وانكشاف خلافها .

/خ56